رمضان في مونتريال.. المسلمون المهاجرون يصنعون لشهر الصيام عالماً موازياً

رمضان في مونتريال.. المسلمون المهاجرون يصنعون لشهر الصيام عالماً موازياً

للقلوب‭ ‬في‭ ‬عشق‭ ‬الجمال‭ ‬دروب،‭ ‬أحوال‭ ‬ورحلات‭ ‬ومحن‭ ‬لا‭ ‬ينير‭ ‬ظلماتها‭ ‬سوى‭ ‬العشق‭ ‬لنور‭ ‬الكمال‭. ‬وللأيام‭ ‬وجوهها‭  ‬التي‭ ‬يتقلب‭ ‬فيها‭ ‬القلب‭ ‬بين‭ ‬محبة‭ ‬وأيام‭ ‬عسر،‭ ‬شهور‭ ‬تمضي‭ ‬فلا‭ ‬يسمع‭ ‬فيها‭ ‬القلب‭ ‬سوى‭ ‬صوت‭ ‬الضجيج‭ ‬والزحام،‭ ‬لكنه‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الأمل‭ ‬بلقاء‭ ‬الشهر‭ ‬الحبيب،‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬الذي‭ ‬يغسل‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬وجهها‭ ‬القبيح،‭ ‬فتسمو‭ ‬القلوب‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬ملائكة‭ ‬السماء‭. ‬ويعود‭ ‬للقلب‭ ‬طهره‭ ‬على‭ ‬أصوات‭ ‬تسابيح‭ ‬وقرآن‭ ‬يتلى‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭.‬

 في كندا، في تلك البلاد البعيدة عن ود الأصدقاء ودفء الأهل، يصحبك الشهر الفضيل كصديق عائد من سفر طويل. صديق ستلقي في أحضانه هموم أحد عشر شهراً مضت في بلاد ليست ببلادك، فتفرح بالبكاء على أعتاب الرحمة وانتظار المغفرة، متذكراً كل تفاصيل طفولتك في شوارع عالمنا العربي الكبير، ومحاولاً أن تخلق في الاغتراب عالماً موازياً يتعلم فيه صغارك حكمة الصيام والقيام،  ستستعيد معهم ذكريات انتظار العيد وبهجته، في مدينة تزهر كل يوم في شوارعها أزهار ثقافة عربية وليدة وفتية، ولتكتشف مونتريال وجهاً آخر للإسلام والمسلمين، وجهاً يحمل التسامح والمحبة، وجهاً يختلف كثيراً عما يقدم كل يوم على الشاشات من عنف وقتل، وجهاً لا يتشابه إلا مع روح الشهر الرحيم.

الآن، وأنا أتجول في شوارع المدينة، متابعاً استعداد الأصدقاء بحلول الشهر الفضيل، أتلمس خطى حبيب الله خان، وأتساءل: ماذا لو كان الرجل معنا اليوم؟ ذلك المهاجر الباكستاني الذي تعترف له المدينة بفضل وجود جاليتها المسلمة، أتخيله مهاجراً جديداً هو وزوجته وأطفاله الخمسة في مدينة قاسية بطول شتائها وكآبة وحدتها، محتفلاً بقدوم شهر رمضان في منتصف الخمسينيات من قرن مضى. بلا مساجد أو جالية مسلمة، وأتمنى أن يكون معي الآن في رحلتي عبر المدينة التي أصبح عدد المسلمين فيها يقارب ربع مليون نسمة، جالية معظم أبنائها من أهل المغرب العربي ولبنان وباكستان... مونتريال العامرة بجامعاتها الأربع الكبرى، صاحبة واحد من أقدم معاهد الدراسات الإسلامية بأمريكا الشمالية، ذلك المعهد الذي افتتح بجامعة ميج جيل عام 1952، متزامناً مع أولى ثورات التحرر من الاستعمار في عالمنا العربي البعيد.

 

استعدادات‭ ‬عربية‭ ‬

لشهر رمضان في مونتريال بهجته  التي ينتظرها الجميع. شغف بانتظار الشهر الذي تستعد له الأسر كما في كل مكان، فيرسل الجدود في الأوطان الفوانيس للأحفاد مع القادمين، وتستعد الأمهات بشراء مستلزمات الطعام، حركة شرائية لا تغفل عيون المحال الكندية الكبرى، فتنتشر مجسمات الفوانيس بسلاسل المحال الكبرى، مصحوبة بكلمة «رمضان مبارك» بالفرنسية، مشجعة زبائنها من العرب والمسلمين بتخفيضات خاصة على بضائع رمضان من تمور ومنتجات ألبان وغيرها. 

وتشهر المحال العربية إعلانها عن قدوم الشهر بطاولات الحلوى التي تُفرش على الأرصفة أمام المحال بالحي العربي المسمى بحى المغرب الصغير. تعجبني تسمية الحي لبراعة تشابهها مع الواقع، فمعظم سكان الحي من تونس والجزائر والمغرب، والألطف أن حي المغرب الصغير يقع ملاصقاً تماماً لحي إيطاليا الصغيرة، وكأنه حتى في بلاد المهجر البعيدة تلعب الجغرافيا دورها، فيسكن المغاربة بجوار الطليان، ربما بفعل الألفة التاريخية.

 

الهلال‭ ‬الكندي‭!‬

ليلة استطلاع هلال الشهر الفضيل لا يمكن المرور من دون ذكر بهجتها، خاصة في شهور الصيف المدهشة بالمدينة، ليلة يخرج فيها المسلم من زخم مونتريال بمهرجاناتها وإبداع الخالق في جمال ما خلق من بشر وكائنات، إلى بهجة الانتظار والترقب، متابعاً أخبار بزوغ أول هلال في بلاد المشرق البعيد. ضوء وأمل يتلمس به احتمالات رؤية الهلال نفسه في سماء مونتريال، ليعلن تغير نمط الحياة في شهر كامل من التعبّد والفرح. أمل يصاحبه في العادة تخبط بين أفراد الجالية المسلمة الكبيرة في تحديد قدوم الشهر المبارك، لينتهي الأمر بتتبع كل جالية لمشايخها في تحديد رؤية الهلال. تخبط تعودناه وتفهمنا أن اختلافنا كجالية كبيرة لن يفسد للشهر بهجته، فتمتلئ المساجد بالمصلين بملابسهم التقليدية لصلاة التراويح والتهنئة.

ومن اليوم الأول للصيام تجتهد الأسر في تبادل الزيارات للإفطار، لتصنع ثقافة خاصة لا يمكن الاطلاع عليها إلا في مونتريال المدينة المتعددة الثقافات باقتدار، وفي بيوت الأصدقاء ستستمتع بـ«الحريرة» المغربية و«الكسكس» الجزائري و«البريك» التونسي و«المحشي» المصري، وسيفتح لك الأحبة قلوبهم قبل بيوتهم لتشرب الشاي المغاربي على تلاوة الشيخ محمد رفعت، وغناء أم كلثوم. لقاء لا تغيب عنه الجمعيات الثقافية العربية، التي تنظم بدورها إفطارات عربية يدعى لها أبناء الجاليات المختلفة، أذكر منها - على سبيل المثال - إفطار جماعة «أقلام عربية» في مونتريال الذي يجمع أطياف كل أبناء العرب من الخليج إلى المحيط، مسلمين وغير مسلمين، عرب وكنديين أيضاً، لكن يبقى المكان الأرحب لإفطار رمضان هو المساجد، فيتجمع المغتربون والطلبة للإفطار مجاناً في محاكاة لموائد الرحمن، ففي رحاب رمضان مكان دائم لمن لا يملك أسرة تشاركه فرحة إفطاره.

 

إفطار‭ ‬جماعي‭ ‬

للإفطار في حي المغرب الصغير طابعه الخاص الذي لا يشاركه أي من أحياء المدينة. فبعد صلاة العصر تمتلئ شوارع الحي بالمارة، وتفتح المقاهي العربية أبوابها للصائمين، بالرغم من امتناعها عن تقديم الطعام والشراب، وتمتد الصفوف أمام محال الحلوى، فالانتظار في صفوف عادة كندية يكتسبها المهاجر من يومه الأول، وتصبح المطاعم العربية مزاراً لغير المسلمين من أبناء المدينة، لما يتميز به الشهر الكريم بحلوى نادراً ما توجد بعده كالزلابية والشباكية، حتى إذا حان وقت أذان المغرب يختفي الجميع من الحي، وتشعر بأنك في ساعة الإفطار بالقاهرة أو الجزائر العاصمة، اختفاء مؤقتاً لا يستمر إلا بطول ما تستلزمه وجبة الإفطار، لتعود الحركة الكثيفة باتجاه المساجد التي يزورها كل عام عشرات المشايخ من الأزهر الشريف، ليجتمع المصلون حول أصوات خاشعة وتلاوات شجية تؤم المصلين طوال شهر رمضان. للمقاهي أيضاً دورها الرئيس في الاحتفال بشهر رمضان. فيتجمع بها الرجال بعد الصلاة لتدخين الأرجيلة وشرب الشاي الأخضر ومشاهدة مسلسلات رمضان، ولا تغلق أبوابها إلا قرب صلاة الفجر. 

لذلك يحتفظ عديد من أبناء الجالية المسلمة بإجازاتهم السنوية إلى شهر رمضان، وخاصة العشر الأواخر منه. فطول ساعات الصيام التي تقارب سبع عشرة ساعة وصرامة نظام العمل الكندي يجعلان أيام الشهر الفضيل شاقة وطويلة، مشقة يبذلها المسلم في كندا على أمل في مغفرة وعفو من الكريم العادل سبحانه وتعالى.

 

العيد‭ ‬وجمال‭ ‬العيد‭!‬

 بأسرع مما تتمنى تكتشف الأسرة المسلمة في مونتريال قرب حلول عيد الفطر المبارك، عيد ينتظره الصغار بطعمه المختلف عمّا ألفوا من أعياد كندية تعودوا الاحتفال بها، كالكريسماس والهالوين، فيجتهد الآباء والأمهات في إضفاء مظاهر البهجة على العيد لتأكيد هويتهم الإسلامية، فيلبس الأطفال الملابس الجديدة وينتظرون الهدايا التي يحرص الآباء على إعطائها لهم، وتذهب الأسر إلى صلاة العيد مرتدية الملابس التقليدية، مرددة تكبيرات العيد، وفي العادة تقام صلاة العيد بالمساجد لاحتواء أعداد المصلين الكبيرة، أو تقام في الخلاء بإحدى الحدائق الكبرى بالتنسيق مع شرطة المدينة، ولكن تبقى صلاة العيد في الخلاء مغامرة، نظراً لتقلبات الجو المعتادة، ففصل الصيف هنا متقلب ومطير بغزارة، وما إن تنتهي الصلاة حتى تمتلئ الحدائق والمنتجعات بالأطفال وأسرهم، أو يتجمعوا للاحتفال داخل البيوت في انتظار وجبة الغداء وحلوى العيد التي تتفنن النساء العربيات في صنعها، ليتم تبادل الحلوى الخاصة بكل دولة بين أبناء الجاليات المختلفة، وينتظر الجميع حلول رمضان آخر يدعون الله القدير أن يمد في أعمارهم ليحتفلوا به وينالوا الثواب والمغفرة .