الجانب المجهول من أدب نجيب محفوظ

الجانب المجهول من أدب نجيب محفوظ

كان‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ ‬أولى‭ ‬عتبات‭ ‬فنون‭ ‬القول‭ ‬التي‭ ‬وطئها‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ (‬1911‭ - ‬2006‭)‬،‭ ‬مستشرفاً‭ ‬به‭ ‬عالمه‭ ‬الإبداعي‭ ‬الضخم،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعتمد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الأدبي‭ ‬الأثير‭ ‬لدى‭ ‬متلقيه،‭ ‬إذ‭ ‬أحجم‭ ‬قانعاً‭ ‬بعدم‭ ‬نشر‭ ‬محاولاته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى،‭ ‬مكتفياً‭ ‬منها‭ ‬بادخار‭ ‬ملكات‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬وإشراقاته‭ ‬وتحصيلها،‭ ‬كذاتية‭ ‬التعبير‭ ‬وخصوصية‭ ‬الرؤية،‭ ‬ما‭ ‬أفاده‭ ‬لاحقاً‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬وإثراء‭ ‬مشروعه‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬أبدع‭ ‬فيه‭ ‬وتميز‭ ‬به،‭ ‬فامتلك‭ ‬بشاعريته‭ ‬الأولى‭ ‬خاصيةً‭ ‬مضافةً‭ ‬لأسلوبه‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬الروائي،‭ ‬وهي‭ ‬ثراء‭ ‬اللغة،‭ ‬فكانت‭ ‬أكثر‭ ‬كثافة‭ ‬وعمقاً‭ ‬وطلاوة‭  ‬في‭ ‬الصياغة،‭ ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬تميزاً‭ ‬في‭ ‬سياقيها‭ ‬الجمالي‭ ‬والفكري،‭ ‬حيث‭ ‬امتد‭ ‬نطاق‭ ‬الشعرية‭ ‬ليشمل‭ ‬لدى‭ ‬محفوظ‭ ‬كل‭ ‬كتاباته‭ ‬النثرية،‭ ‬مستلهماً‭ ‬أبعاد‭ ‬كل‭ ‬تجربة‭ ‬على‭ ‬حدة‭ ‬بما‭ ‬امتلك‭ ‬من‭ ‬ناصية‭ ‬الخبرات‭ ‬الجمالية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬ليحمل‭ ‬عليها‭ ‬طرحه‭ ‬القصصي‭ ‬والروائي،‭ ‬فيما‭ ‬امتد‭ ‬هذا‭ ‬الطابع‭ ‬واضحاً‭ ‬جلياً‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬مقالاته‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬جرأة‭ ‬كانت‭ ‬تعكسها‭ ‬مقالاته‭ ‬السياسية،‭ ‬مبعثها‭ ‬استلهامه‭ ‬العميق‭ ‬لتراثنا‭ ‬التاريخي‭ ‬القديم،‭ ‬وإدراكه‭ ‬الواعي‭ ‬للأحداث‭ ‬المستجدة‭ ‬والقضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬محلياً‭ ‬ودولياً،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬فهمه‭ ‬الخاص‭ ‬ورؤيته‭ ‬الاستشرافية‭. ‬

أما فن الكتابة للمسرح فلم يكن سباقاً إلى الاستحواذ بفكر الأديب العالمي، حيث سبقت إلى عقله وقلبه فنون أدبية أخرى كانت سبباً في شهرته الواسعة بين أوساط الأدب في العالم، لاسيما فن الرواية، فما حققت الرواية لمحفوظ من صيت وذيوع إلا بقدر ما حقق هو من خلالها الريادة والتفرد، إذ ارتكز – عبر نتاجه الروائي الضخم- على ملامح وأبعاد الشخصية المصرية، مؤصلاً لرواية عربية مصرية خالصة، انطلقت من هوية شعبية استلهمت عنصر المكان/الحارة المصرية، كما تفاعلت مع التاريخ بتراتب أحداثه وتواترها عبر الزمان، فكان بتأكيده على هذه العناصر وتفاعلها داخل النسق الروائي أكثر اقتراباً وعمقاً من المفهوم الدرامي القائم على تفاعل العناصر نفسها (الشخصية والمكان والزمان والحدث)، ما جعل أعماله الروائية والقصصية محطة مهمة لمعالجات درامية سينمائياً ومسرحياً، الأمر الذي دعا محفوظ إلى الاهتمام بفن كتابة المسرحية ذات الفصل الواحد – على استحياء – داخل مجموعاته القصصية، وذلك خلال فترة وجيزة من حياته الأدبية.

كان مبعث هذا الاهتمام على حد قوله في حوار له نُشر بمجلة المسرح في نوفمبر 1979م، مبرراً علاقته القديمة جداً بفن المسرح كمشاهد عاصر أقطاب الفنانين مثل الريحاني (1889-1949)، والكسار (1887-1957م)، قال: «حضرت بصحبة أبي بعض تمثيليات الريحاني والكسار، وبدءاً من عام 1925م عرفت الطريق إلى روض الفرج... وكان حافلاً بمقلِّدي هذين العلمين، فشاهدت كثيراً من المسرحيات التي كانوا يقدمونها في أزمنة سابقة أثناء الحرب العظمى (حرب 1914م)، وبعد ذلك عرفنا طريقنا إلى المسرح المصري في الثلاثينيات وما قبلها قليلاً... شاهدنا يوسف وهبي وفاطمة رشدي والريحاني والكسار وعزيز عيد».

مسيرة نجيب محفوظ الأدبية والفلسفية مليئة بالأحداث والمواقف الأكثر درامية، وأهمها - على الإطلاق - نجاته من محاولة الاغتيال الشهيرة التي تعرَّض لها، يليها مباشرة في الأهمية، حصوله على جائزة نوبل للآداب في أكتوبر 1988م بعد مشوار أدبي طويل حافل بأجناس متعددة من الكتابة، تتراوح بين الشعر والقصة والرواية والمقالة والترجمة والمسرحية، التي اهتم بها أول الأمر كرد فعل أدبي لهزيمة 1967م المريرة، فتعاون مع المخرج الكبير الراحل أحمد عبد الحليم بتأليف عرض «تحت المظلة» وكان عرضاً مسرحياً عبثي الصياغة عُرض على مسرح «الجيب» بالقاهرة عام 1969م، وكان يشتمل على ثلاثة نصوص قصيرة، هي: «التركة» و«يميت ويحيي» و«النجاة»، ثم بعد ذلك هُمِّشت تجربة نجيب محفوظ المسرحية عمداً، وكان له دور كبير في ذلك عندما اختار بمحض إرادته أن يضع مسرحياته ذات الفصل الواحد عند طباعتها ضمن مجموعات قصصية من دون أن يشير إلى وجودها.

مارس محفوظ الكتابة الصريحة للمسرح في أعقاب نكسة 1967م، بسبب تحطم صورة الوطن الذي كان وزملاؤه يتوقعونه. وبسبب خيبة الأمل التي مُني بها وجيله من المبدعين والمفكرين الذين أدركوا وهو معهم بوعيهم وثقافتهم أن المسرح هو المنبر الذي يستوعب صدمة هذا الحدث وتداعياته، كفن مكاشفة وتعرية، فهو فن المواجهة الأول بين مرسل ومستقبل، حيث لم يعد ثم مبرر لتورية أو اختفاء وراء أساليب ورموز وإيحاءات ووصف في وطن أغلب سكانه لا يقرأون، إما بسبب الأمية وإما لضيق الوقت والانشغال بالسعي على الرزق، فكتب نجيب محفوظ للمسرح بحرص وقلق من مزاحمة عمالقة المسرح أمثال محمود دياب، وألفريد فرج، وتوفيق الحكيم الذي كان في أوج مجده وتألُّقه، ولذلك، ودفاعاً عن نفسه من تهمة مزاحمة المسرحيين صرَّح في أكثر من مناسبة بأنه «ليس كاتباً مسرحياً»، تجنباً لأي شبهة أو صراع كان عليه أن يخوضه لينضم إلى كتيبة المسرحيين.

كان للمسرح دور كبير في تأسيس ثقافة نجيب محفوظ الأدبية وإثرائها، إذ إن الاطلاع المنتظم للكاتب وانفتاحه على آداب مختلفة وأجناس أدبية متنوعة، يصبح له أكبر الأثر في دعم النوع الأدبي الذي يبدع فيه خلال مسيرته الإبداعية، بما يتوافر له من صيغ وأفكار قلما يتطرق إليها نظراؤه، ممن يكتفون بالانغلاق على متابعات خاصة فقط بالجنس الأدبي الذي يبدعون فيه، من دون النظر بعين الاهتمام لغيره، فلا يتأتى لهم اكتشاف المعين الذي تزخر به عوالم الأجناس الأخرى، وهو ما توافر إدراكه مبكراً لنجيب محفوظ، فعمل عليه بدأب، حتى امتلك أسباب الريادة كروائي، لم يكتفِ بمتابعاته لحركة الرواية فحسب، حتى ولو باتساعها الأفقي والرأسي إبداعاً ونقداً، بل اتسعت متابعاته لإثراء فنه الحكائي لتشمل كل الأجناس الأدبية الأخرى بالدأب والاحتشاد نفسيهما، إذ تطلع من خلال المسرح إلى العراقة والتاريخ، واكتشف بمتابعاته المبكرة لهذا الفن الدرامي منابع وروافد معرفية خصبة، وكفيلة بإثراء أي مشروع إبداعي ناهض، ودعمه ودعم أي كاتب أو فنان جاد، فكان هذا اللجوء المبكر لدنيا المسرح بمنزلة القوى المحركة للإقلاع والارتقاء إلى مكانة أدبية رفيعة تمتع بها – كروائي - بين أقرانه من أدباء جيله، ما يضع أهمية خاصة لهذه الدراسة، وقيمة مضافة لأهمية المسرح أدباً وفناً كأحد أهم المصادر الداعمة لتجربة أي كاتب يطمح إلى الارتقاء والتفوق عموماً، ولتجربة محفوظ بشكل أكثر خصوصية، وتحديداً إذا حاولت هذه الدراسة رفع الستار عن مشهد لايزال مجهولاً من إبداعاته، إنما يأتي بهدف التعرف وإعادة اكتشاف تلك الأرض غير الموطوءة، خلال رحلة محفوظ لعالم الكتابة المسرحية. 

 

البنية‭ ‬الفنية‭ ‬لمسرحيات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ

بنية المسرحية من فصل واحد، شاع انتشارها على نطاق واسع في المرحلة التي شرع فيها نجيب محفوظ الكتابة المسرحية، ولابد أنه تأثر بها، لأنها كانت عند ذلك مواءمة مسرحية لإيقاع الواقع، فلم يعد المتلقي في ما بعد عام 1967م، قادراً على استقبال النصوص الكلاسيكية ذات البنى الطويلة والعقد الفرعية المتعددة، إذ أصبح وقتها إيقاع الحياة أكثر سرعة، وحتى الأداء التمثيلي كان قد بدأ يتحرر من أساليبه القديمة ذات الانفعال المبالغ فيه، ويتحرر من عاهة الإطناب والتطويل، وكان من الشائع أيضاً العبث الذي بدأ يغزو الدراما المسرحية بعد أن تبناه كبار الأدباء المسرحيين بالعالم في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية كردة فعل من هؤلاء المفكرين والأدباء على ما يتربَّص بالعالم من جراء هذه المعارك الكبرى من خراب ودمار وارتداد إلى عصور الموت والتخلف بعد أن كانت الإنسانية قد غادرت عصور الدمار، فانتشرت المسرحيات العبثية القصيرة ذات الفصل الواحد، التي نُشرت ضمن ثلاث مجموعات قصصية على النحو التالي:

 

المجموعة‭ ‬الأولى‭... ‬تحت‭ ‬المظلة

هذه المجموعة القصصية هي أول ما طُبع وعُرض من مسرحيات نجيب محفوظ، متمثلة في خمسة نصوص مسرحية، ثلاثة منها قُدمت في عرض واحد بالعنوان نفسه عام 1969م، وهو «تحت المظلة» من إخراج أحمد عبدالحليم، ولما لهذه التجربة المسرحية الكاملة من أثر بارز على مسيرة نجيب محفوظ المسرحية، وسنعرض هذه النصوص الثلاثة للقراءة لتكوين صورة عامة لنصوص البداية المسرحية عند نجيب محفوظ:

 

مسرحية‭ ‬‮«‬التركة‮»‬

يُحرك أحداث هذه المسرحية ويمسك بتلابيب خيوطها من العالم الآخر شيخ صالح صاحب كرامات، استشعر قرب أجله فخرج إلى الخلاء ليلقى ربه وفاء لنذر كان قطعه على نفسه، وقبل أن يغادر بيته أو خلوته أوصى بالتركة لحق ابنه الضال الفاسد، بشرط أن يقرأ ولده الكتب القديمة التي تركها له مع المال بذات الخزينة، ولما قبض الفتى على النقود أهمل الكتب مقرِّراً أن يعود في الحال إلى لهوه وفساده ومجونه، داهم البيت رجل يدَّعي أنه شرطي يتهمه بقتل أبيه، ويستمر الزائر في ابتزاز الفتى وتهديده لكي يسلبه أموال التركة، فيشعر الفتى بالمؤامرة، وفي لحظة انصراف الرجل يهجم عليه محاولاً طعنه بمطواة، لكن الرجل يفطن إلى ذلك ويتفادى الطعنة ويقلب الموقف لمصلحته ويقبض على الفتى ويلكمه ويُسقطه أرضاً ثم يقيِّده مع الفتاة بحبل ويأخذ أموال التركة وينصرف. 

عندما يتمالك الفتى نفسه مجدداً يصرخ مستغيثاً، فيأتيه غلام أبيه ويراه مكبلاً مع الفتاة فلا يساعدهما امتثالاً لوصية الشيخ الأب الذي أمره بألا يساعده مادام لم يقرأ الكتب، يدرك الفتى أن الوضع الأمثل لحياته أن يكون امتداداً لوالده الذي لم يكن بالطيبة التي يحسبه عليها الناس، فقد كان يبيع الطمأنينة نظير المال، فيذهب إلى الكتب الصفراء ليحاول أن يتعلم منها كيف يبيع الأوهام.

مسرحية عبثية رمزية تعبِّر عن قضايا عربية وقومية، إذ كانت القومية العربية والعرب والعروبة تمثل قيمة كبيرة لدى المصريين وقتها، قيادة وشعباً، وبالتالي كانت الهمَّ الأول لدى المفكرين والمبدعين «كما ظهر في مجال الإبداع تيار مسرح العبث، كثورة مضادة للمسرح التقليدي، الذي كان يمثل عند البعض صورة من صور التعبير عن عالم تقليدي أعلنت مؤسسات الثورة ضرورة إبادته».

 

مسرحية‭ ‬‮«‬يميت‭ ‬ويحيي‮»‬

مسرحية رمزية من فصل واحد، بطلها فتى تعرَّض لاعتداء كبير أمام فتاة كانت تراقب الموقف، ولذلك يرغب في استعادة حقه، وعندما يعرض عليه من قبل «عملاق» أن يساعده في الثأر لنفسه واستعادة حقه بشرط، يرفض الفتى، فينضم العملاق إلى عدوِّه الذي تربطه به صلة قرابة، ما أبسط تأويل هذا النص وقراءته سياسياً في ضوء العلاقة بين العرب والغرب بقواه الاستعمارية التي عالجها محفوظ في مسرحية من مشهد واحد يبدأ بلحظة الصراع بين البطل وغريمه في وجود الفتاة المذكورة، ثم كفاح الفتى لاستعادة حقه حتى قراره النهائي بالمواجهة.

قارئ هذا العنوان المسرحي «يميت ويحيي» لابد أن يتجه بفكره مباشرة نحو المعني بمن يميت ويحيي وهو المولى الخالق - عز وجل - لأنه لا أحد نعرفه في ثقافتنا العربية الإسلامية يأتي بهذا الفعل العظيم المعجز. إلا أن الداخل فعلاً إلى عالم  النص يدرك أن للكاتب بُعداً فلسفياً من وراء ذلك، وأنه المعنى العميق للصراع والعراك كأداة عملية لتنفيذ أكبر قدر ممكن من الإحياء والإماتة على الأرض. نقرأ ذلك من السطور الأولى للنص، وكذلك من النص المرافق الذي يشمل ملاحظات الكاتب وتعليماته وإرشاداته الضوئية لتسهيل العبور، داخل عالم النص الذي حاول فيه كاتبنا (نجيب محفوظ) أن يعبِّر عن رؤيته للعالم في اللحظة التي كان يعيش فيها أعقاب نكسة 5 يونيو 1967م، من خلال هذا النص الأدبي المسرحي، لذلك يعلمنا صراحة أن «الطابع تجريدي»، وهي ملاحظة مسرحية تبرر كل ما يرد من إيماءات وأفعال وأحاسيس، يفعل الكاتب ذلك عندما يحاول أن يبرر كتابته، لكن الكاتب عندما يكتب عن اقتناع لا يحاول أن يلفت إلى المنهج أو ثيم الكتابة، وإنما يتركها ليخلص إليها القارئ أو المتعامل مع النص فيصنفه على حسب تلقيه، معنى هذا أن المبدع التلقائي لا يشغل نفسه بالتنظير فإذا حدث ذلك فهو يعني غلبة الصنعة. يُرفع الستار، فنرى على المسرح فتاة جميلة تسير ذهاباً وجيئة بين النخلة والساقية بثوب «تجريدي» يصعب تحديده على أساس جغرافي، وينسحب ذلك على ثياب جميع من سيظهرون على المسرح.

 

مسرحية‭ ‬‮«‬النجاة‮»‬

بينما رجل جالس بحجرة استقبال منزله على مقعد كبير جوار المدفأة، إذ يدق جرس الباب دقاً متواصلاً، يفتحه فتقتحم البيت امرأة يمنعه جمالها من اعتراضها، خصوصاً أنه وحده بالمنزل، يُطرق الباب من جديد فترتبك المرأة، وتختبئ في حجرة نومه بعد أن تهدِّده أنها ستنتحر إن هو أرشد عنها، ولما كان الطارق صديقاً له، لم يُضطر إلى أن يخبر عنها رغم المعلومات الخطيرة التى عرفها من صديقه عن الشرطة التي تحاصر العمارة وتفتش كل شيء حول المنزل بحثاً عن امرأة هاربة، يشتمُّ الصديق عطراً نسائياً ويسأله عنها، فينكر وجودها، ويستمر فى الإنكار، بعد ذلك تتفقد الشرطة بيته وتسأله عن السيدة الهاربة فينكر مجدداً، فتغادر الشرطة ويغادر الصديق ويبقى «الرجل» وحده مع «المرأة» يسألها عن الأسباب التي تجعل سيدة بمثل جمالها تطارَد من الشرطة، ويسألها أيضاً عما إذا كانت عزبة مثله أم مطلقة أم مجرمة، ولكنها ترفض أن تجيب فيشتعل الصراع بينهما حتى يضربها وتضربه ويشتبكا في عنف ... تختلس المرأة لحظات لتكلم رجلاً آخر تؤكد له أنها عازمة على الرحيل، وأنها ستستمر في حبه حتى الموت، فيما يعد
إشارة إلى الفصل القائم في ثقافة هذه المرأة بين الحب والجنس، وتفعيلاً لذلك تتناول سُماً من أنبوبة دواء تحفظها في حقيبتها، وما إن تشربه حتى تسقط أرضاً، حيث يظن
الرجل أنها نامت من كثرة الشراب،
فيتركها ترتاح قليلاً حتى يعود صديقه لزيارته.

بعد ذلك يحضر رجال الشرطة لمعاينة نافذة البيت، ثم ينصرف الجميع، ويعود الرجل وحيداً مع المرأة، فيحاول أن يوقظها فرحاً بالنجاة، ثم يحملها ويخرج على خلفية من تبادل إطلاق النيران بين بعض الأشقياء مع الشرطة استمراراً للعبثية المسرحية التي جرَّبها نجيب محفوظ في عالم المسرح، وعاد بعدها سالماً إلى عالمه الروائي.

 

المجموعة‭ ‬الثانية‭ ‬1973م‭ ‬‮«‬الجريمة‮»‬‭...‬

مسرحية‭ ‬المطــــــاردة

مسرحية من فصل واحد بطلاها شابان في ريعان الصبا يرتدي أحدهما قميصاً أحمر، ولذلك سمّاه الكاتب «الأحمر» والآخر يلبس قميصاً أبيض، ولذلك سُمِّي «الأبيض»، يتحدثان عن طبيعة المكان الذي يجمعهما وكيف أنه مناسب لما يحتاجان إليه من لعب وهم في هذه المرحلة المبكرة من العمر، وبينما هم يلعبون إذن بالأبيض يسمع وقع أقدام تقترب فيصيبهم شيء من التوجُّس والارتباك، وتقترب الأقدام ويدخل رجل أبيض الشعر متين البنيان وقوي، يرتدي قميصاً أسود ويمسك بيده سوطاً وينظر إلى المطلق، وبعد أن يثبت في موقع معين من المسرح يشرع في الحركة في مكانه (محلك سر)، وبينما تتحرك شخصيات المسرحية عبر الزمان والمكان لا يصيب هذا الرجل أدنى تغيير، لا في الهيئة ولا في المكان، فهو مستمر في السير في موقعه، فقط سرعته تتغير بتغير عمر البطلين فتزداد عندما يكبران، ويمضي النص في التطور ويصبحان موظفين ثم يتزوجان من امرأة واحدة، ورغم ما في ذلك من خيال فإنه يقود القارئ إلى فك أول رمز في هذه الشفرة المسرحية المقروءة، وهو أن الأبيض والأسود ما هما إلا وجهان لشخصية درامية إنسانية واحدة بوجهيها الشرير الجسدي المادي (الأحمر)، والآخر الطيب المثالي الحالم الرومانسي، وهو «الأبيض»، نقرأ ذلك عندما يجعلهما يقبلان العروس معاً في اللحظة ذاتها وبالطبع يسبق هذا الزواج حوار بين الأحمر والأبيض يعد وفقاً للتأويل الذي خلصنا إليه منولوجاً داخلياً يجري بين المرء ونفسه.

 

المجمـــــوعة‭ ‬الـــــثالــــثــــة‭ ‬1979م‭... ‬

مـــسرحــــيــة‭ ‬‮«‬الشيطان‭ ‬يعظ‮»‬

آخر نصوص نجيب محفوظ المسرحية المنشورة كان بعنوان «الشيطان يعظ»، ويتضمن 12 قصة قصيرة متباينة الأفكار والموضوعات، إضافة إلى نص مسرحي آخر هو «الجبل»، وهو يعد أحد النصوص الكاشفة عن أدب نجيب محفوظ، حيث يعالج في هذا النص المسرحي واحدة من أكثر التجارب الدرامية ديمومة واستمرارية، أبطالها مجموعة من الشباب الجامح الطامح إلى مجتمع مثالي قرروا أن يهبوا حياتهم لمصلحة تطبيق «العدالة»، وبينما هم في الطريق إلى تطبيق ذلك إذا بهم يصطدمون بواقع يجعلهم يدفعون ثمن ما انخرطوا فيه من تعصب أعمى، ظاهره الخير وباطنه الظلم، ما أدى إلى أن فقدوا حياتهم جميعاً.

عولجــــت هذه المسرحية بأسلوب مختلف تجري فيه الأحداث في عهد أمير المؤمنين «عبـــــدالملــــك بن مروان» أي إن نجيــــب محفــــوظ، ولأول مرة يـــــتعـــــامل مسرحياً مع التراث العربي الإسلامي، معتمداً على أثر مصدره حكايات ألف ليلة، ومحور الدراما هو أحد خلفاء المسلمين، عرف بأمر قمقم يسكنه جني، وأن من يمتلك هذا القمقم يحصل على قوة عظيمة تمكنه من فرض سلطته وسيادته على العالم، ولذلك يرسل رجاله لاستطلاع الأمر فيصلون إلى مدينة مسحورة جمَّد الجن سكانها منذ عـــشـــرين ألف سنة، وبعد إلحاح من سفراء الخليفة تُعــــاد الحــــياة إلــــى سكــــان هذه المدينة كــــي يرى الرجال بأعيــــنهم ذلــك الذنب العظيم الذي أدى إلى عقابهم الـــذي وصل إلى حد الموت، حيــث اغـــتـــرت ملكـــتهـــم بقوتها السحرية فادعــــت أنها إلهــــة، وأن شعبها عليه أن يعبدها فكان عقابها التجمد لتظل عظة يتعظ بها كل من طالع هذه الآثار الحجرية.

المسرحية مستوحاة من التراث العربي الإسلامي الذي لجأ إليه محفوظ مسرحياً لأول مرة في آخر كتاباته المسرحية, وأنجز فيها من الإبداع الدرامي ما يؤكد أنه كان سيحقق نجاحاً عظيماً في الكتابة المسرحية إذا استمر .