غابة خوليو كورتاثار

غابة خوليو كورتاثار

نذر‭ ‬الكاتب‭ ‬الأرجنتيني‭ ‬خوليو‭ ‬كورتاثار‭ ‬أعْتى‭ ‬مقدراته‭ ‬وأبْدع‭ ‬مهاراته‭ ‬لإنجاز‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬لعبة‭ ‬الحجلة‮»‬‭*‬،‭ ‬فتحقق‭ ‬له‭ ‬ابتكار‭ ‬لعبة‭ ‬سردية‭ ‬مضللة،‭ ‬ذات‭ ‬هندسة‭ ‬متاهية،‭ ‬مؤسسة‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬عائم‭ ‬بهوامش‭ ‬دوّارة‭ ‬تخلق‭ ‬نصّاً‭ ‬موازياً‭ ‬داغلاً‭. ‬يدرك‭ ‬القارئ‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أنّه‭ ‬يلج‭ ‬غابة‭ ‬طارئة،‭ ‬عبر‭ ‬تنبيه‭ ‬المفتتح‭ ‬الذي‭ ‬يقترحه‭ ‬الكاتب‭ ‬كدليل‭ ‬للقراءة،‭ ‬وهو‭ ‬يعتمد‭ ‬خارطة‭ ‬طريق‭ ‬بفرضيتين‭ ‬للاستعمال‭: ‬قراءة‭ ‬خطية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬وتنتهي‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬56،‭ ‬وقراءة‭ ‬خاصة‭ ‬معقدة‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬73‭ ‬وما‭ ‬فوق‭.‬

يؤسس المتن السردي الأول الممتد من المقطع الأول إلى المقطع 56 على قسمين: 

- «من هذه الجهة» يحكي عن مغامرة العيش في باريس ويمتد حتى المقطع 36. 

- «من الجهة الأخرى» يحكي عن تجربة العيش في بوينس آيرس ويمتد حتى المقطع 56.

أما المتن السردي الموسوم بـ«من جهات أخرى»، فيمتد من المقطع 57 حتى المقطع 155، وهو عبارة عن هوامش لتأملات في فن الكتابة وتعقيبات نقدية واقتباسات من كتب وروايات وقصائد وأفلام... إلخ.

ليس محض اعتباط أن يستهل خوليو كورتاثار روايته بإشارة تنبه إلى أن الكتاب يتكون من كتب عدة، والأمر هنا لا يقف عند حدود الأشكال والطرائق المتعددة التي يقترحها لقراءة الرواية، بل يتعداه إلى الهوية المتعددة والمتشعبة التي يتكون منها العمل في كليته، فالرواية برمتها تطمح لأن تكون مكتبة، وأثرها مفتوح يؤالف بين أجناس تعبيرية مختلفة، يسافر بطريقته الخاصة في ذاكرة السرد الكوني والموسيقي والفني... حتى يكاد يكون جامعاً للتخوم المعرفية والإبداعية، ومدوناً لموجز تاريخها.

تنزع الرواية منذ البدء لأن تكون عملاً شمولياً، إذ يعلن خوليو كورتاثار في الافتتاحية نواياه في أن يقدِّم للشباب خاصة مبادئ أخلاقية في السعادة الروحية، ولكل الشرائح والفئات عامة، هكذا تبدو الفكرة الأولية طوباوية، لها علاقة بحلم تقديم نموذج لحياة طموحها الاستقرار في إطار نظام جمهورية ما، وفق ما كرَّس له الفلاسفة وأقرّوه في تنظيرهم الطليعي.

 

القسم‭ ‬الأول

في القسم المتعلق بحياة «أوراسيو أوليفير» في باريس، يخرج هذا الأخير متسكعاً للقاء الفتاة لاماغا، هي بدورها قادمة من أمريكا اللاتينية، من مونتفيديو تحديداً، وتعيل ولداً يُدعى روكامادور، أنجبته مع شخص عابر اختفى. بين أوراسيو ولاماغا تنشأ علاقة غرامية، يستقصي الحكي سيرتها عبر سيناريو تجربتهما البوهيمية في شوارع باريس وجسورها وفنادقها وغرف الطلبة والنوادي والمسارح وقاعات حفلات الموسيقى... إلخ. وأيضاً من خلال علاقتهما معاً بنادي الأفعى المكوَّن من أصدقاء جدليين، لهم ميولات موسيقية وفنية وأدبية كرونالد وإيتين وبيريكو وبيبسي وغريغوروفيوس... إلخ.

يستغرق هذا القسم حكيه بشكل هذياني أقرب إلى التداعي المسترسل الذي عرف به جيمس جويس في رواية أوليس، أو ما يسمى مجاوزة بتيار الوعي، ويستطرد في المحاورات الجدلية التي اختار بنتيجتها «أوليفير أوراسيو» البطالة بدل العمل، بطالة طوعية متفرغة للتسكع وقراءة الكتب والولع بالموسيقى، من دون احتكام إلى نظام، بل فوضى لا متناهية لا تخلو من قذارة وفقر وجنون. 

متأرجحاً بين حب فتاته (لاماغا) والسعي إلى حرية مطلقة، تجمح مغامراته الشخصية، فضلاً عن معضلة الحنين إلى الأرجنتين التي يقاوم طيفها وفق فخ المركز والهامش. لا يني «أوراسيو» يقرّ في هذا القسم بأنه يحاول تدوين سيرة حياته «وحتى سيرة حياتي التي أحاول تدوينها، وباريس التي أستغيث بها كورقة يابسة في مهب الريح، لن أتمكن من الوصول إليها» - (المقطع الثاني).

أما لاماغا، فمنبهرة بموسوعية أوراسيو، ويتلاطمها حبه ورعايتها لابنها روكامادور الذي يموت في النهاية، مع انجرافها إلى علاقات محيطة بها لا تكاد تقاومها.

يبدو الخط الأفقي للحكاية في القسم الأول متمركزاً في علاقة «أوراسيو» بـ«لاماغا»، يسبر أغوار الحب والموت، يتقصى صخب باريس الخمسينيات وفورتها الثقافية، باريس اللغز الغامض، فلا حياة ممكنة من دون أدب وموسيقى وجعة وفوضى عاتية، هي ثمرة حرية وجنون ومغامرات تسعى وراء شيء مبهم، غير مدرك، لا مسمى، خاصة أن «أوراسيو» ملوث بالقلق يدمن البحث باستمرار... ويعزّز هذا القلق والجنون والذهاب في ما وراء المتعة استقصاء للمعنى والعالم، علاقته الوثيقة بأعضاء نادي الأفعى الذين تتشابك حواراتهم الحلزونية، وسجالاتهم المعرفية والجمالية إلى ما لا نهاية.

لا يكسر من خطية الحكي في هذا القسم إلا الهوامش أسفل المقاطع السردية، وهي النقلات المنزاحة أو القفزات التي توجهها هندسة الكتابة عبر أرقام جانبية، تعرض هويتها كهوامش للمتن، بداية من المقطع الثالث الذي تذيله نقلة منزاحة إلى مقطع رقم 116 والمقطع الرابع الذي تذيله نقلة إلى المقطع رقم 71 والمقطع الخامس الذي تذيله نقلة منزاحة إلى رقم 81 وهكذا دواليك، تلك الحواشي تبدو كإضاءات موازية، عبارة عن تأملات في هوية الكتابة وفن الرواية، هي أيضاً عبارة عن اقتباسات من كتب أخرى وأشعار... إلخ.

 

القسم‭ ‬الثاني

في القسم الثاني، المتعلق بحياة «أوراسيو أوليفير» في الأرجنتين، يسترجع الحكي مغامرات لعلاقات محتدمة جمعته بتريلفر العامل في السيرك و«تاليتا» زوجته التي تعمل في الصيدلة، حيث حلّ أوراسيو ضيفاً عليهما بعد أن وضع تحت الإقامة الجبرية في بوينس آيرس – المدينة العاهرة الملفعة بصدريتها أو العنكبوت الضخمة وفق توصيف تريلفر، سيسعفه صديق فتوّته تريلفر في العمل معه في السيرك، وستغرم به «خيكربتين» العاملة في المحل التجاري، السيرك الذي سيتحول إلى مشروع آخر طارئ، عندما يفتحون مصحاً عقلياً بدله، وهنا يسبر أوراسيو تجربة علاقات صاخبة ومختلة مع مجانين المصحة، وينحو الخطاب منحى كوميدياً أسود، بدءاً بقصة حب تريلفر مع تاليتا، التي نشأت من خلال حكاية مرضه بالبواسير، إذ عشقها منذ أول وهلة عندما دلج صيدليتها وأسعفته بدواء لطّف من آلامه الخبيثة، وبوينس آيرس النقيضة لباريس، تبدو مأفونة وسوداوية، قذرة وبائسة، يتنازعها فساد نظام سياسي دكتاتوري وجنون كرة القدم. في هذا القسم يتضح أن «أوراسيو» قد اختل أو أصابه بعض الجنون، إذ يتخيل زوجة صديقه «تاليتا» هي «لاماغا»، ويبدي انزعاجاً من هاوية في قبو المصح تثير فزعه وهلاوسه، فيرتكن إلى نافذة يتأمل المجانين وقد رسم أحدهم مربعات للعبة الحجلة في الحديقة، وصاروا يتناوبون على القفز على تلك المربعات، وما إن جربت «تاليتا» اللعب هناك حتى حسبها «لاماغا»، التي يزعم أنها ماتتْ غرقاً في النهر... وينتهي القسم نهاية مفتوحة.

وكما هو الشأن بالنسبة للقسم الأول فخطية السرد تقتطعها هوامش الأرقام التي تحيل القارئ بأرقام إلى نصوص موازية عبارة عن تأملات ومواقف وإضاءات واقتباسات شعرية وسردية، شبيهة بالحواشي على متن القسم الحكائي.

في هذا القسم دائماً، تدفق هائل للعلامات، يمكن الوقوف عند نموذجين لاذعين منها: 

أولاً: متاهة الخيوط التي حبكها تريلفر في المصح العقلي من حبال وصارت شكلاً عنكبوتياً شائكاً، هيّأه كمنظومة دفاعية عندما سيتبارز مع صديقه المشكوك في رجاحة عقله «أوراسيو أوليفير»، إنها منظومة تتماهى واشتباكات خيوط الرواية نفسها. 

ثانياً: الطوابق الثلاثة التي تشكل بناء المصح العقلي، كأنها تتماهى والأقسام الثلاثة للرواية، أي طوابقها الحكائية الثلاثة. 

وعن اللافت للانتباه في مجمل القسمين معاً، هناك ما سجله الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في ملاحظته «إنها رواية الجسور بين ما هو ضائع وما هو مسترد. تبدأ لعبة الحجلة تحت أقواس جسر على نهر السين في باريس، وتنتهي على أفاريز النوافذ بأحد «البنسيونات» الفقيرة في بوينس آيرس».

وما يمكن قوله عن الجسور يمكن قوله عن حضور القطط أيضاً في القسمين، وإن بشكل متفاوت.

 

القراءة‭ ‬الثانية

أما المتن السردي الموسوم بـ«من جهات أخرى» - والذي يبدأ من المقطع 57 حتى النهاية مع المقطع 155، ويشمل عملياً الجزء الآخر الذي اقترحه المؤلف في طريقة القراءة الثانية، وهو يبدأ من المقطع 73 وما فوق – فتتداخل فيه النصوص وتتشابك، نصوص قُدّم أغلبها كهوامش عبر أرقام صغيرة في أدنى المقاطع للمتن الحكائي الكامن في القسمين الأول والثاني. إنها ليست محض هوامش للإضاءة أو تعزيز فهم ما مضى، كما أنها ليست محض نصوص موازية، بل ثمة لعبة تنكشف عبر قراءتها بتمعن، وفق ترتيبها المحكم، إذ يكتشف القارئ أنها الرواية نفسها بصوغ جديد، لكن بشكل ارتدادي، أي نعم، فالقراءة الأولى كانت قائمة من اليمين إلى اليسار، توهم خطتها بأنها مؤسسة على متن وهوامش أو حاشيات، والقراءة الثانية المكتشفة وهي مضاعفة ومركبة، تبدأ من اليسار إلى اليمين، فخطتها توهم بأنها ارتداد إلى المتن عبر تلك الهوامش. هذه القراءة المعاكسة الارتدادية تختلف عن الأولى في تركيبها الجامع للحكايات كوحدة متكاملة، غير متمفصلة، إذ ترصد مغامرة العيش في باريس وبوينس آيرس معاً من دون تجزيء أو فصل، عكس القراءة الأولى لخطة المتن السردي المقسم إلى نصفين، نصف في باريس، والآخر في العاصمة الأرجنتينية.
وإمعاناً في خطة القراءتين، يمكن فك اللبس الذي يرتهن إلى لعبة ماكرة ومحكمة، هي لعبة إيهامية لا غير، فما من وجود لمتن وهوامش، إذ الأدوار تتبادل وتتغير، وتصير هوامش الجهات الأخرى متوناً لحواشٍ هي نصوص القسم الأول والثاني، أي «من هذه الجهة» و«من تلك الجهة».

والكتاب ككل، يسعى لكي يكون بلا نهاية، يحتكم إلى حلقات دوَّارة، لا ترسو على جهة، ما يشبه دوامة حكائية، وهنا خطورته الهندسية.

إنه كتاب فخّ، يمتص شكل لعبة الحجلة المعروفة بالقفز فوق المربعات ويستوعبها كتقنية وبنية في اشتغاله السردي، فضلاً عن ورود هذه اللعبة كموضوع وحكاية في القسم الثاني المتعلق بالمصح العقلي. 

كتاب مرح يشكل اللعب فيه قيمة جمالية وشرطاً أنطولوجياً للخلق والإبداع قبل أن يكون نمط وجود وأسلوب حياة، لعب يجافي المجانية وينحاز إلى تجريب جذري، خلاق وحكيم أيضاً، أعاد النظر بشكل صادم وثوري في أطروحة الواقعية السائدة، وفتح شرياناً جديداً في جسد الحكاية الأمريكولاتينية.

كتاب مؤسس على هوية متعددة، طرائق كتابته متنوعة وماكرة، فاللعب لا يقتصر على شكله وإنما يستعمل أدواته أيضاً، ومنها ثراء التنوع اللغوي وتعدد زوايا الحكي المضللة وتباين الضمائر، وتقاطع الشعر والسرد والميتاسرد أيضاً، أو ما بعد السرد: الرواية التي تكتب نفسها وتفكر في صور خلقها الفني وتخلخل أساليب كتابتها، (بغضِّ) الطرف عن الهوامش التي تضيء عبر تأملات لاذعة فن كتابة السرد، يخلق كورتاثار شخصية روائية مريبة يسميها «موريللي»، الحالم بتأليف كتاب بقي محض خواطر، يحتكم إلى نظرية سويدية في الكيمياء والمغناطيس الكهربائي والشحنات الخفية في المادة، حاول نقل قوانينها عبر مفهوم التعددية إلى الأدب، ضداً على أدوات السيكولوجية البلهاء السائدة، وهذا مثال من بين أمثلة عديدة لتصوره الطليعي حول فن الرواية، الشيء الذي يجعل ««موريللي» أقرب بشكل من الأشكال إلى ذات المؤلف، إن لم تكن شخصيته معادلاً موضوعياً لها، ونظريته الجديدة حول السرد هي ما تسعى لعبة الحجلة إلى تحقيقه عملياً، إضافة إلى إيهام النص بالسيرة الذاتية وتخييل الوجود المرتهن إلى الذات والمونولوجات الخلاقة والجسورة، المتموجة على طول فراسخ الرواية، واستناد أثرها المفتوح إلى الموسيقى والشعر والتاريخ والسياسة والهندسة المعمارية والرسم ونقد العقل والأخلاق... إلخ.

كل هذا الزخم الحكائي والتقني الذي تترف به الرواية، توازيه – كما سبقت الإشارة - كثافة محتشدة لنصوص أدبية وأسماء كتّاب وشعراء وعناوين مؤلفات وشذرات ومقولات يفخخ بها الكاتب السرد، من دون نية استعراضية أو فلكلورية، إذ تنتصب كعلامات ومرايا في النص، بل يستعملها النص كأدوات فنية، تثري من تشعّب الإيحاء وجموح المعنى. فتحيا حياة جديدة في هواء الرواية وتنخرط في زحزحة دالة لأفق مغاير.

زخم داغل وكثافات متناسلة يلحمها نسق خفي، ممتنع، عصيّ على القبض كإيقاع شارد ومنفلت، يجعل منها حقولاً مضللة، كما لو شاء لها صانعها أن تكون غابة طارئة لتيه محقّق.

< اعتمدت ترجمتان للرواية، هما على التوالي:

1- خوليو كورتاثار، لعبة الحجلة (رايولا)، ترجمة: علي إبراهيم علي منوفي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2000.

2 - خوليو كورتاثار، الحجلة (لعبة القفز بين المربعات)، ترجمة: نايف أبو كرم، منشورات دار علاء الدين، 2009