شحبت روحه فصارت شفقاً!.. ثلاثة أوجه للشاعر الفيتوري

شحبت روحه فصارت شفقاً!..  ثلاثة أوجه للشاعر الفيتوري

‭(‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬الذي‭ ‬غادر‭ ‬عالم‭ ‬الأحياء‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬الماضي،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬القصة‭ ‬أثناء‭ ‬معاناته‭ ‬المرضية‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬معه‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬شمله‭ ‬الله‭ ‬برحمته‭ ‬ورضوانه‭).‬

كان الشاعر محمد الفيتوري يجلس قبالتي على الطرف الثاني من الطاولة، في مقهى الفندق الكبير، كما تعودت أن ألقاه أثناء زياراته إلى طرابلس، فهو يتخذ من هذا الفندق مكاناً لإقامته كلما جاء إلى عاصمة البلاد. يجلس وهو يحرك إصبعه في الهواء، يكتب مقاطع من أفكار تخطر على باله، فوق لوح وهمي. عادة من العادات التي لا تفارقه، ولا ينكر الشاعر غرابتها، لكنه يقول إنه لن يحاول إيقافها، لأنه يرى فيها حالة من حالات التجلي ليقظة الذهن ونشاطه. كان صامتاً، إلا أن وجهه بدا هادئاً يطفح بنوع من البشر والرضا. كان سَمْتُه أنيقاً كعادته، وبشرته السوداء تلمع لمعان خشب الأبنوس، وشعره الأكرت كان متناسقاً، وفي حالة تكامل مع ملامح وجهه العامر بظلال التجاعيد. وهو شَعرٌ يبدو دائماً بهذا الحجم، وهذا التناسق، لا يزيد ولا ينقص، داكن السواد، رغم تقدم العمر، ومن عينيه يشع بريق المكر والذكاء والتوقد الذهني. 

رأيته يميل برأسه نحوي، يسألني عن آخر ما أعرفه من أخبار الشاعر محمد الفيتوري، الذي يقيم في الرباط، رهين الفراش بعد إصابته بجلطة في المخ، جعلته عاجزاً عن الحركة والكلام لمدة أكثر من عامين، وهو يسألني لأنني أكثر اتصالاً منه بالمغرب، وأقوم من حين إلى آخر، بزيارة إلى العاصمة المغربية، باعتباري عضواً في الجمعية الثقافية المغاربية التي تتخذ من الرباط مقراً لها. فقلت له إنني غائب عن المغرب منذ أكثر من عام، ولم أعرف عن الشاعر الفيتوري إلا ما ذكرته صحيفة مغربية عن تحسُّن طفيف في حالته، بسبب العلاج المكثف الذي يتلقاه، الذي لابد أنه نجح في إعادة بعض الحركة إلى أطرافه، وشيء من الحركة إلى لسانه،  متمكناً من نطق بضع كلمات.

كنت إلى حد ما واعياً بأن هذا اللقاء مع الفيتوري يحدث في المنام، وأن ما أراه هو مجرد حلم، ولذلك لم أستغرب أن أجد صديقي الشاعر الفيتوري، وهو في تمام صحته ولياقته البدنية، يسألني عن الشاعر الفيتوري الآخر الذي يعاني حالة مرضية شديدة الخطورة، ربما تفتك بحياته. ورأيته يخرج من بين مجموعة الصحف التي يضعها أمامه على الطاولة، صحيفة أخبار الأدب، الصادرة قبل أيام، ويفتح صفحاتها على مقال للكاتب الشاعر فاروق شوشة، يرثي فيه الشاعر الفيتوري، ويأسف أن موته مر في صمت، وهو الشاعر الذي طالما هز الوجدان العربي بقصائده الثورية التي تستنهض الهمم وتحض على الكفاح والتمرُّد. أخذت منه الصحيفة، أنقل بصري بين أسطر المقالة التي تنعى للقرّاء الشاعر الذي اكتسب عن جدارة لقب شاعر إفريقيا، وبين ملامح الشاعر الذي يجلس أمامي، أحاول أن أجد في ذهني تفسيراً لهذا اللغز، وأكثر جوانبه غموضاً أن الرجل لم يكن حزيناً، ولا غاضباً لهذا الحديث عن موته، بل مازال وجهه يطفح بنوع من الرضا والقبول بما يجري له وحوله، وسَمعته يقول في فرح ظاهر، إنه لم يكن يعلم بأن فاروق شوشة يحمل كل هذه المشاعر المحبة والنبيلة إزاءه،  وكل هذا الإعجاب والتقدير لشعره،  بل هو يراه أجاد حقاً في اختيار المقاطع التي انتقاها من هذا الشعر، خاصة تلك القصيدة التي تستدعي الموت، وتضع عينيها في عينيه من دون خوف، وطفق يقرأ بصوته المتميز الذي يختلط جفافه  بطراوته، وتخالط حماسته وقفات فيها خفوت ونعومة:

شحبت‭ ‬روحي،‭ ‬صارت‭ ‬شفقاً

شعت‭ ‬غيماً‭ ‬وسنا

جزر‭ ‬غرقى‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬البحر‮…‬‭.‬

حريق‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الضائع

قنديل‭ ‬زيتي‭ ‬مبهوت

في‭ ‬أقصى‭ ‬بيت،‭ ‬في‭ ‬بيروت

أتألق‭ ‬حيناً‭ ‬ثم‭ ‬أرنق‭ ‬ثم‭ ‬أموت

كنت أعرف أنني أجلس مع الشاعر في طرابلس، نتحدث عن نسخته المريضة في الرباط، وهذه نسخة ثالثة تظهر الآن في شكل جثمان إنسان غادر الحياة، يرثيه صديقه الشاعر المصري، في صحيفة أخبار الأدب، فأين يوجد الفيتوري الحقيقي بين هذه الشخصيات الثلاث، بينما بدأت العتمة خارج الفندق تواصل حصارها للمكان؟

- لقد قرأت الرثاء بإعجاب شديد. إنه مفعم بروح الروح. لم أجد في نفسي ميلاً لتصديق خبر الوفاة الذي ذكره الأستاذ شوشة في صحيفة أخبار الأدب، نقلاً كما يقول عن صديق مغربي، لأنني متابع لأخبار الفيتوري، وما ذكرته عن الصحيفة المغربية التي أوردت تقريراً عن تحسن في حالته الصحية، لم يكن تقريراً قديماً، وإنما حديث جداً، فقد قرأته في الإنترنت منذ يومين فقط، أي بعد صدور صحيفة أخبار الأدب، تحمل هذا الرثاء، وفاتحت الشاعر الذي يجلس بجواري، بما أحمله من شك في ما قالته «أخبار الأدب»، وأن أحداً من خصوم الفيتوري، ممن يتمنون الخلاص منه، دسّ هذا الخبر على الأستاذ شوشة، لأن الخبر الذي قرأته عن تحسن صحته، منشور في الصحيفة المغربية بعد هذا الرثاء.

تذكرت أنني أحتفظ في هاتفي النقال برقم بيت الفيتوري في الرباط، وبأمل أن رقم الهاتف لم يتغير، فإنني إذا هاتفته الآن فسأحصل على إجابة من زوجته المغربية تحسم الأمر، وأخرجت الهاتف من جيبي أبحث عن الرقم، قائلاً للشاعر الذي يجلس بجواري إنني سأحاول أن أحصل على الخبر اليقين، من خلال هذه المهاتفة. ووضعت إصبعي أضغط على الزر، لإجراء المكالمة، راجياً ألا يخيب أملي في الاتصال، وتأكيد أن الشاعر الفيتوري موجود على قيد الحياة، وفرحت عندما جاء الرنين واضحاً من بيت الفيتوري على ضفاف الأطلسي. انتظرت أن يأتي صوت الزوجة، بلهجتها المغربية، ولكنني فوجئت بأن الذي يقول «ألو»، ليس صوتاً نسائياً، إنما صوت رجالي به خشونة وحشرجة، ولم يكن غير صوت الفيتوري، الذي لا يمكن أن تخطئه أذن سمعته، وهو يلقي أشعاره في المنتديات وعلى الشاشة الصغيرة. أسميت له اسمي، وهنأته بتحسن حالته، وقلت له إن بجواري قرينه الذي يشكل نسخة منه، الموجود هنا في مقهى الفندق الكبير، وهو شديد القلق عليه، يريد أن يطمئن منه شخصياً إلى آخر ما حصل من تطورات على حالته الصحية، فقال لي إنه يعرف أن جزءاً من روحه يسكن ذلك الفندق، وإنه في شوق لأن يلتقي بجزء من ماضي حياته الذي تركه في أروقة وأركان الفندق الكبير بالعاصمة الليبية. وأضاف أن هذا الجزء من طرابلس يمثل وطن القلب بالنسبة له، حيث كان يخرج من الفندق إلى شاطئ النخيل قبالته، متأملاً المشهد البديع الذي تختلط فيه زرقة الأفق بزرقة البحر، ذائباً بين الزرقتين، هائماً في هذا المدى الأزرق حتى يصل إلى تمثال الغزالة، ونافورة الماء التي تغتسل فيها فتاة النافورة، وهي تملأ جرتها وتروي من الماء غزالتها، تتباهى بعري مفاتنها، تحت دائرة خضراء صنعتها سبع نخلات تتدلى بشواشيها وسعفها وجريدها، فيبقى حتى تحاصره الظلمة هناك، عندها يودّع المكان الذي أترع قلبه بأجمل المشاعر والأحاسيس، عائداً إلى أضواء الفندق، ويطالبني بأن أقوم نيابة عنه بهذه الجولة مساء هذا اليوم، فوعدته بتحقيق رغبته، وأعطيت الهاتف النقال إلى جاري الذي مضى يتحدّث في ألفة وسعادة إلى نصفه الآخر، وأنا أنظر مستغرباً لما يحدث، مدركاً أنني في حالة حلم، وأن عالم الحلم يبيح هذا التداخل والتمازج وهذا الحلول والتبادل في الأدوار.

غَمَرت جليسي الفيتوري حالة من الابتهاج، وهو يعرف أن نسخته في الرباط مازالت على قيد الحياة، وأن خبر الموت إشاعة لا أساس لها، ونقل لي بعض ما دار بينه وبين قرينه في الرباط، حيث استعاد مشهداً حصل في الفندق، عندما التقى وجهاً لوجه مع حاكم السودان الذي قاطعه وهجاه، الجنرال النميري، فاستوقفه الجنرال، قائلاً بكبرياء الطغاة: هل مازلت على قيد الحياة أيها الفيتوري؟ فرد عليه الشاعر: نعم وسأستمر على قيد الحياة إلى الأبد، لأن الشعراء أيها السيد الجنرال لا يموتون.

ثم فجأة انتصب الفيتوري واقفاً وهو في حالة من الحيوية والنشاط،  قائلاً إنه مدعو لاجتماع في طرابلس دعت إليه قيادات من فرق فدائية، وسألته عن سبب الاجتماع، فقال إن حالة الوطن العربي وصلت إلى درجة من السوء والانهيار، تقتضي أن يتزنر كل إنسان عربي بالنار ويتحول إلى فدائي استشهادي يفجّر نفسه في الأعداء، فعبَّرت عن استغرابي واستهجاني لهذا المنطق العدمي، الذي يعني إبادة أنفسنا، فقال نعم، إنهم يسمونها الحالة «شمشون»، أي إبادة أنفسنا وإبادة الأعداء معنا، فسألت الشاعر الذي بدا في حالة من اليقظة الذهنية، إذا  ما كان يوافق على مثل هذا الانتحار الجماعي، فقال وما أهمية أن أوافق أو لا أوافق؟ ثم أشار إلى صحيفة أخبار الأدب التي نشرت نعيه قائلاً:

- ألم تقرأ الرثاء الذي كتبه عني الشاعر فاروق شوشة؟

- نعم، إنه مليء بالإشادة بسجلك المجيد في مجال الشعر والأدب.

- شكراً له، ولكن هل بقي لي شيء أقوله؟

- نعم، لقد قلت الكثير ولعل هناك بقية تقال.

- ما أقوله هو، ليعش من شاء أن يعيش، وليمت من شاء أن يموت، أما أنا فلا أرى أمامي إلا باباً يفضي إلى الظلام.

انطلق يتخطى عتبة باب الفندق يقتحم الظلام، وقد ظهر في عتمة الشارع رجلان يعتمران الكوفية الفلسطينية حتى ليكاد طرف منها يغطي كامل ملامح الوجه، هما من سيقودانه إلى مقر الاجتماع السري.

ومضى يبتلعه ليل طرابلس، ويمزج سواد بشرته بسواد هذا الليل الشتائي، متوجهاً إلى اجتماع الفرق الفدائية، التي تتباحث في إنجاز العملية «شمشون» .