إيـقــاعـات الـسـيَّـاب

إيـقــاعـات الـسـيَّـاب

 لم يكن الشعر ابنًا شرعيًا مجردًا للخاطرة والفكرة والتأمل عندما بدأ السياب يكتب شعرًا ويدَّعيه وينشره، فهو عندما وجد الموهبة في نفسه إنما وجدها منبثقة من عندياته التي أصَّلتها قراءاته التراثية والحديثة وثقافته الواسعة التي امتدت من كتب تراث العرب ودواوين شعرائهم عبر العصور المختلفة، إلى ما تلقاه من ثقافة غربية أدبية وشعرية، وهي تشكل بدايات التجربة الرومانسية، كانت أعمال شكسبير تقف في مقدمتها، بينما شخصت تجارب ت.اس. اليوت، وإديت سيتويل، وإزرا باوند، وفردريكو غارسيا لوركا، وأرتورو جيوفاني، وبابلو نيرودا أمام عينيه، فضلًا عما اطلع عليه من تجاب كبار شعراء الشرق من أمثال طاغور وناظم حكمتْ.

وقد ساعدت هذه الثـــقــافات الثلاث، من خلال إتقان السياب للغة الإنجلـــيزية والترجمة عنها بشكل مباشر، على وقـــوفه على قاعدة تملـــــك من الصلابة ما مكَّنـــه من رؤيــــة ثاقبـــة، وبناء متين لتجربته منــذ أن ترسَّمَ القصيدة العربية ذات الشطرين، وحتى تخطِّيه حاجز الرقابة الشديدة التي تفرضــها عينُ التيار المحافظ على ما ينبغي أن يُســمَّى شـــعرًا، فـــتخلَّى عن الشطرين، شــــيئًا فــشــيئًا، إلى الشطر الواحد المنضبط بموسيقاه الداخلية والخارجية، الملتزم بتقاليد التفعيلة الخليلية وقواعدها، المحافظ على أسرار القافية وسِحْرها الآسر.

إيقاعات نحو التحديث
 وهناك ثلاثة أنماط يمكن الاعتداد بها كمظاهر لنزوع السياب للتحديث، مع أنها لم تحتكم لتسلسل تاريخي كما كان يجب، غير أنها كافية الدلالة على ما كان يعتمل في نفس السياب من ميل شديد لكسر رتابة النظام العروضي الذي يقيد القصيدة العربية منذ ابن حذام في أشعاره التي بكى فيها الديار ولم تصل إلينا، وحتى السياب نفسه في أزهاره الذابلة التي وصلتْ، وحرص على أن يكون للشعر العربي حضور يقترب فيه من روح العصر الحديث الذي شاع فيه النزوع إلى التحرر في أساليب القول وفنونه في بقاع العالم المتحضر.
وأول تلك الأنماط الثلاثة في شعر السياب جَمعُهُ بين القصيدة المقفاة ذات الشطرين والقصيدة الحرة المتحررة من القافية الواحدة والتساوي في عدد التفعيلات في نص واحد، كما في قصائده «بورسعيد» و«رسالة» و«إقبال والليل» و«ليلى». وثانيها استخدامُه أكثر من وزن واحد في النص، كما في قصيدته «جيكور أمي» التي تختلط فيها الخفيف والرمل والرجز اختلاطًا عضويًا لا يكاد يبين.
أما ثالث الأنماط فهو تقسيمه النص على مقاطع عدة، ويستقل كل مقطع بوزنه الخاص وقافيته، ففي قصيدته «سفر أيوب» نجد السياب يقسمها على عشرة أقسام يجعل القسم الأول منها على وزن المتقارب، والثاني على وزن الرجز، والثالث على الوافر، والرابع على البسيط، والخامس على المتدارك (فاعلن)، والسادس على الهزج ممزوجًا بالوافر، والسابع على المتدارك (فعلن)، والثامن على الوافر، والتاسع والعاشر على الرجز.
ومثل ذلك فعل مع قصيدته «رؤيا في عام 1956» التي جــعــــل المقاطع الـــــثلاثـــة الأولى منها على وزن الرمل، والرابع على السريع، والخامس والسادس على وزن المتدارك (فعلن)، والسابع على وزن الرجز. أما قصيدته «مدينة السندباد» فقـــد جعل المقطع الأول منها على وزن الرجز، ثم انتقل إلى المتقارب في المقطع الثاني، ليعود إلى الرجز في المقاطع الثلاثة الأخيرة.
وكما يبدو فإن السياب لم يعتــــمــد قاعدة معيـــنـــة فـــي هـــذا التنويع فــــي الأوزان والإيـــقاعات ليفترع فنًا من فنون القول الــــموزونة، وإنما كان يعتمد على تساوق الإيقاع الشعري مع الإيقاع النفسي الموضوع الذي يعتمل في الذهن، من دون أن يرتبــط ذلك بمنــــهج معيَّن، ومثل هذا الصنيع يمكن أن يـــسوغ لنا القــــول بأنه إنما كان يوغل في التجريب حتى تكتمل لديه صورة القصيدة المرتجاة، في مقابل ما كان يقع عليه من منجز غربي في الشعر الحر.
كان السياب مــــيالًا ميلًا شديدًا إلى التنويع في نــغـــم القصيدة من خلال الـــلجــــوء إلـــى التنويع في الأوزان والقوافي، وقــــد أفــــاد كــــثيرًا مــــن أوزان الكامل والــــوافر والرمل والسريع والمتقارب والمتدارك، ويبدو هذا واضحًا في قصيدتيه «في المغرب العربي» و«جيكور والمدينة»، حيث حاول فيهما الانتقال من وزن إلى آخر. كما حاول التنويع في التفعيلات في النص الواحد كما في قصيدته «المسيح بعد الصلب» التي أدخل فيها مقطعًا من مشتقات التفعيلة الأساسية «فاعلن» التي التزمها في القصيدة كلها.

الخط البياني لإيقاعات السياب
صدر عن السياب عشرة دواوين هي «أزهار ذابلة» (1947)، و«أساطير» (1950)، و«المومس العمياء» (1954)، و«الأسلحة والأطفال» (1955)، و«حفار القبور» (1952)، و«أنشودة المطر» (1960)، و«المعبد الغريق» (1962)، و«منزل الأقنان» (1963)، و«شناشيل ابنة الجلبي» (1964)، و«إقبال» (1965)، وقد صدرت جميعًا تحت عنوان «ديوان بدر شاكر السياب» عن دار العودة ببيروت في العام 1971، وتوالت طبعات أخرى لهذا الديوان، ولا شك في أن قسمًا آخر من شعره مودع لدى بعض أهله وأصدقائه، ومتوزع هنا وهناك من دون أن تلوكه المطابع أو ينتشر، لكنه لا يشكل الأهمية التي تمنع الباحث من البحث في شعره، أو الناقد من تناول شعره، والوصول إلى نتائج صحيحة ولو نسبيًا. فضياع بعض شعر الشعراء أمر طبيعي، أما ما تهيأ للسياب أن ينشره في حياته، وما نشر بعد ذلك ففيه الكفاية للبحث والدرس والنقد.
ومن يمعن النظر في إيقاعات السياب في دواوينه العشرة هذه فإنه يجد تفاوتًا كبيرًا بين استخدامه للأوزان الشعرية من حيث القلة والكثرة، يقف الرجز في مقدمتها حيث استخدمه الشاعر في ثلاث وعشرين قصيدة هي: «إمام باب الله» و«الغيمة الغريبة» و«دار جدي» و«مدينة السراب» و«ذهبت» و«الشاعر الرجيم» و«الوصية» و«الشاهدة» و«أسمعه يبكي» و«قصيدة من درم» و«الليلة الأخيرة» و«القصيدة والعنقاء» و«غارسيا لوركا» و«تعتيم» و«من رؤيا فوكاي» و«المبغى» و«النهر والموت» و«أنشودة المطر» و«سربروس في بابل» و«إرم ذات العماد» و«أغنية بنات الجن» و«أظل من بشر» و«في غابة الظلام».
ويأتي بعد ذلك الكامل الذي استخدمه الشاعر في اثنتين وعشرين قصيدة هي: «في السوق القديم» و«اللقاء الأخير» و«رئة تتمزق» و«في الغربة الظلماء» و«يا نهر» و«ابن الشهيد» و«رحل النهار» و«حامل الخرز الملون» و«وصية من محتضر» و«هرم المغني» و«قصيدة إلى العراق الثاني» و«غريب على الخليج» و«مرحى غيلان» و«المخبر» و«قافلة الضياع» و«قارئ الدم» و«المومس العمياء» و«حفار القبور» و«في انتظار رسالة» و«الباب تقرعه الرياح» و«ليلة في باريس» و«وغدًا سألقاها».
ثم المتقارب الذي جاء في عشرين قصيدة من قصائده هي: «أساطير» و«سراب» و«نهاية» و«شباك وفيقة» و«النبوءة الزائفة» و«صياح البط البري» و«لأني غريب» و«نداء الموت» و«ربيع الجزائر» و«خذيني» و«دَرَم» و«يوم الطغاة الأخير» و«جيكور والمدينة» و«الأسلحة والأطفال» و«خلا البيت» و«يقولون تحيا» و«في المستشفى» و«متى نلتقي» و«لوي مكنيس» و«حميد».
ثم مجزوء الوافر وفيه تسع عشرة قصيدة هي: «أم البروم» و«الأم والطفلة الضائعة» و«نبوءة ورؤيا»  و«المعبد الغريق» و«احتراق» و«هدير البحر والأشواق» و«منزل الأقنان» و«في المغرب العربي» و«مدينة بلا مطر» و«شناشيل ابنة الجلبي» و«ليلة في لندن» و«أحبيني» و«أم كلثوم والذكرى» و«نسيم من القبر» و«سلوى» و«القن والمجرة» و«المعول الحجري» و«ليلة انتظار».
ثم المتدارك وقد نظم فيه السياب عشر قصائد، أربع منها بناها على «فاعلن» هي: «في ليالي الخريف» و«أغنية في شهر آب» و«عرس في القرية» و«المسيح بعد الصلب»، وست على «فعلن» هي: «أغنية قديمة» و«شباك وفيقة» و«حنين في روما» و«تموز جيكور» و«في الليل» و«عكاز في الجحيم».
وفي السريع جاءت سبع قصائد هي «فرار» (1953) و«قالوا لأيوب» و«إلى جميلة بوحيرد» و«رسالة من مقبرة» و«العودة لجيكور» و«جيكور وأشجار المدينة» و«أسير القراصنة»، وجاءت خمس قصائد على الرمل هي: «اتبعيني» و«سوف أمضي» و«هل كان حبًا؟» و«ليلة وداع» و«كيف لم أحببك؟»، بينما جاءت قصيدتان على البسيط هما: «أفياء جيكور» و«يا غربة الروح»، وعلى الطويل قصيدة واحدة هي: «ها..ها.. هوه»، وقصيدة واحدة أيضًا على الخفيف هي: «ثعلب الموت».

دواعي الإيقاعات
وهكذا يبدو السياب مؤثرًا لإيقاع الرجز القائم على تفعيلة «مستفعلن» التي تتيح للشاعر مساحة واسعة من التحرك في إطار الجملة الشعرية، واستخدام أكبر عدد ممكن من أوزان المفردات العربية، وربما سماه العرب القدماء «حمار الشعراء» لهذا السبب، ويوازيه إيقاع الكامل القائم على تفعيلة «متفاعلن»، غير أنه يختلف عن سابقه في أنه حاد الإيقاع، لغلبة المتحركات على السواكن في تكرار ورتابة، وقد يفسر هذا حدة الانفعال التي كانت تلازم السياب في أغلب حالاته، وهذا ما يفسر كذلك تغليبه استخدام «فعلن» على «فاعلن» في المتدارك، فإذا شعر بالحاجة إلى الاسترخاء والانفلات إلى تداعي الأفكار، والاستجابة إلى التأمل الطويل لجأ إلى المتقارب، ولهذا السبب نفسه اختار من الوافر مجزوءه ولم يستخدمه كاملًا، وخلط بين التفعيلات في النص الواحد.
 إنَّ تمكُّن السياب من إيقاعات الشعر العربي، وإتقانه لعلمَي العروض والقافية أتاحا له القدرة على بناء القصيدة الحرة ذات التفعيلة الواحدة أو التفعيلات المختلطة بناء مُحكمًا لا يشوبه خروج على العروض، أو كسر للوزن الشعري، غير أن إيقاعاته غالبًا كانت حادة، سواء أكان ذلك في موسيقاه الداخلية أم الخارجية، وهو في تجربته الإيقاعية هذه استطاع أن يقدم للشعر العربي الحديث أنموذجًا للقصيدة العربية الأكثر نضجًا وغنى.