لماذا لا يعتقد أطفالنا أن هناك حقائق أخلاقية؟

لماذا لا يعتقد أطفالنا  أن هناك حقائق أخلاقية؟

  ‬ماذا‭ ‬تقول‭ ‬إذا‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬مدارسنا‭ ‬الحكومية‭ ‬تعلم‭ ‬الأطفال‭ ‬أن‭ ‬قولنا‭ ‬‮«‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬أن‭ ‬نقتل‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المتعة‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نغش‭ ‬في‭ ‬الامتحانات‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬قولاً‭ ‬صادقاً؟‭ ‬هل‭ ‬ستندهش؟

يقول‭ ‬جستن‭ ‬بي‭. ‬ماكبراير،‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬المشارك‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬فورت‭ ‬لويس‭ ‬بمدينة‭ ‬دورانغو‭ ‬بولاية‭ ‬كولورادو،‭ ‬ويتركز‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬وفلسفة‭ ‬الدين،‭: ‬‮«‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬اندهشت‭. ‬فأنا،‭ ‬كفيلسوف،‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬ممن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الجامعة‭ ‬لا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالحقائق‭ ‬الأخلاقية‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬استقصاءات‭ ‬وطنية‭ ‬تقيس‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬فإن‭ ‬أساتذة‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذين‭ ‬تحدثت‭ ‬معهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬الجامعة‭ ‬المستجدين‭ ‬الذين‭ ‬يدرسون‭ ‬على‭ ‬أيديهم‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬الادعاءات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬بوصفها‭ ‬مجرد‭ ‬آراء‭ ‬ليست‭ ‬صادقة،‭ ‬أو‭ ‬صادقة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬معينة‭ ‬فقط‮»‬‭.‬

وأضاف ماكبراير: ما لم أكن أعرفه هو من أين جاء هذا الموقف. فنظراً لوجود النسبية الأخلاقية في بعض الدوائر الأكاديمية، قد يفترض بعض الناس بشكل طبيعي أن الفلاسفة أنفسهم هم الملومون، لكنهم ليسوا بملومين. فهناك أمثلة تاريخية على الفلاسفة الذين يؤيدون صورة ما من صور النسبية الأخلاقية، ويعود تاريخها - على الأقل - إلى بروتاغوراس الذي أعلن قائلاً إن «الإنسان هو مقياس كل شيء»، وعديد ممن ينكرون أصلاً وجود أي حقائق أخلاقية من أي نوع. لكن هذه المخلوقات نادرة الوجود. أضف إلى ذلك أنه إذا كان الطلاب يأتون بالفعل إلى الجامعة وهم يحملون هذه النظرة، فمن المستبعد بشدة أن يكون هذا نتيجة ما يدرّسه الفلاسفة المهنيون لطلابهم. إذن فمن أين يأتي الطلاب بوجهة نظرهم هذه؟

وأشار أستاذ الفلسفة ماكبراير: منذ بضعة أسابيع علمت بأن الطلاب يتعرَّضون لهذا النوع من التفكير قبل حتى تخطيهم عتبة التعليم العالي. فعندما ذهبت لزيارة ابني في فعالية اليوم المفتوح التي يقيمها صفّه الثاني الابتدائي، وجدت لافتتيْن مزعجتيْن معلقتيْن على لوحة الإعلانات، وكانتا تقولان:

الحقيقة: الشيء الصادق بشأن موضوع ما، وهذا الشيء يمكن اختباره أو إثباته.

الرأي: ما يظنه المرء أو يشعر به أو يعتقده.

وتابع أستاذ الفلسفة ماكبراير بقوله: توجهت إلى البيت وبحثت على محرك جوجل عن «الحقيقة مقابل الرأي» على أمل أن يكون هذان التعريفان خطأ ولا وجود لهما في غير هذا الموضع، إلا أنني وجدت التعريفات على الإنترنت في جوهرها متطابقة مع ما رأيته في فصل ابني الدراسي. وكما تبين لي فإن معايير اللب المشترك في المنهج الدراسي، المستخدمة في أغلب البرامج التعليمية من رياض الأطفال إلى نهاية المرحلة الثانوية في البلد تقتضي أن يكون الطلاب قادرين على «التمييز بين الحقيقة والرأي والحكم المسوَّغ في نص من النصوص». ويوفر معهد «اللب المشترك» صفحة مفيدة مليئة بالارتباطات التي تقود المتصفح إلى تعريفات وخطط دروس واختبارات لضمان قدرة الطلاب على معرفة الفرق بين الحقائق والآراء.

إذن، فأين مكمن الخطأ في هذا التفريق؟ وكيف يقوّض الرؤية القائلة بأن هناك حقائق أخلاقية موضوعية؟

أولاً: يتذبذب تعريف الحقيقة بين الثابت والإثبات، وهما ملمحان مختلفان اختلافاً واضحاً. فالأشياء يمكن أن تكون صادقة حتى إذا لم يكن بمقدور أحد إثباتها. نذكر على سبيل المثال أنه من الممكن أن يكون صادقاً أن هناك حياة في مكان آخر في الكون، حتى إن كان أحد لا يستطيع إثبات ذلك. والعكس صحيح، إذ إن هناك كثيراً من الأشياء التي «أثبتناها» ذات يوم تبين أنها كاذبة. 

فعلى سبيل المثال، كان كثير من الناس يظنون ذات يوم أن الأرض مسطحة. ومن الخطأ أن نخلط الثابت (وهو ملمح من ملامح العالم) بالإثبات (وهو ملمح من ملامح حياتنا العقلية). علاوة على ذلك، فإذا كانت الحقائق تحتاج إلى إثبات، فعندئذ تصير الحقائق نسبية بحسب الأشخاص. فربما يكون الشيء حقيقة عندي إذا كنت أستطيع إثباته، لكن ليس بحقيقة عندك إذا كنت لا تستطيع ذلك. وفي تلك الحالة تكون معادلة تكافؤ الكتلة والطاقة لأينشتاين (E=MC2) حقيقة عند الفيزيائيين وليست بحقيقة عندي أنا.

لكن الأمر الثاني والأسوأ من هذا- في رأي أستاذ الفلسفة - أن الطلاب يتم تعليمهم أن الادعاءات إما حقائق وإما آراء. وهم يخوضون اختبارات يجب عليهم فيها أن يصنفوا الادعاءات ضمن إحدى الفئتيْن أو الأخرى لكن ليس ضمن الاثنيْن معاً. لكن إذا كانت الحقيقة شيئاً صادقاً والرأي شيئاً معتقداً، فمن البديهي إذن أن يكون كثير من الادعاءات الاثنيْن معاً. يقول أستاذ الفلسفة ماكبراير: سألت ابني، على سبيل المثال، عن هذا الفارق بين الاثنيْن بعد فعالية يومه المفتوح، فأوضح لي بثقة أن الحقائق أشياء صادقة، أما الآراء فهي أشياء معتقدة. ثم دار بيننا الحوار التالي:

أنا: «أعتقد أن جورج واشنطن كان أول رئيس للبلاد. أهذه حقيقة أم رأي؟».

هو: «إنها حقيقة».

أنا: «لكني أعتقد ذلك، وأنت قلت إن ما يعتقده المرء يكون رأياً».

هو: «نعم، لكن ذلك صادق».

أنا: «إذن فهو حقيقة ورأي في آن واحد».

كانت النظرة المشدوهة التي بدت على وجهه تُنْبئ بكل شيء.

فما طبيعة علاقة هذا التقسيم الثنائي بين الحقيقة والرأي بالأخلاقية؟ لم أعرف الإجابة عن هذا السؤال إلا بعد أن استقصيت واجبات ابني المنزلية (بالإضافة إلى أمثلة أخرى للواجبات المدرسية على الإنترنت). فالصغار يُطلب منهم التمييز بين الحقائق والآراء، وتوصف كل الادعاءات القيمية، من دون استثناء، بأنها آراء. وإليكم اختباراً صغيراً ملفقاً من الأسئلة المتاحة في أوراق تدريبات «الحقيقة مقابل الرأي» على الإنترنت، فهل ما يلي حقائق أم آراء؟

- نسخ الأجوبة عن أسئلة الواجبات المنزلية من الكتب خطأ.

- السباب في المدرسة سلوك غير لائق.

- الناس كافة خُلقوا سواسية.

- الأمر يستحق التضحية ببعض الحريات الشخصية من أجل حماية بلدنا من الإرهاب.

- تعاطي مَن هم دون الحادية والعشرين من أعمارهم المسكرات خطأ.

- النباتيون يتمتعون بصحة أتم ممن يأكلون اللحوم.

- تجار المخدرات مكانهم السجن.

والإجابة في كل حالة، تصنف أوراق التدريبات هذه الادعاءات على أنها آراء. والتفسير الذي يساق هو أن كل واحد من هذه الادعاءات إنما هو ادعاء قيميّ، والادعاءات القيمية ليست حقائق. وتتكرر هذه العبارة تكراراً يثير الغثيان: أي ادعاء يشتمل على ما هو خير أو صواب أو خطأ أو ما إلى ذلك هو ليس بحقيقة.

باختصار... نقول إن مدارسنا العامة تعلّم الطلاب أن كل الادعاءات إما حقائق وإما آراء، وأن كل الادعاءات القيمية والأخلاقية تندرج في الفئة الأخيرة، والخلاصة أنه لا توجد حقائق أخلاقية. وإذا لم توجد حقائق أخلاقية، فلا توجد ثوابت أخلاقية.

التناقض في هذا المنهج التعليمي واضح. فعلى سبيل المثال، «أتى ابني إلى البيت في بداية السنة الدراسية بقائمة تتضمن حقوق الطلاب ومسؤولياتهم. ولو كان قد رأى من قبل الدرس الذي يتناول الحقيقة مقابل الرأي، لربما لاحظ أن حقوق الطلاب الآخرين لم تكن تستند إلى شيء أكثر من الآراء. فمن المؤكد - وفقاً لمنهج المدرسة - أن قول إن زملاءه يستحقون أن يعامَلوا بطريقة معينة ليس صادقاً؛ إذ كان ذلك سيجعله حقيقة. وبالمثل، فلم يكن من الصادق في الواقع أنه يتحمل أي مسؤوليات؛ إذ كان ذلك سيترتب عليه جعل الادعاء القيمي ثابتاً. وينبغي ألا نندهش من تفشي الغش في الحرم الجامعي؛ فإذا كنا قد علّمنا طلابنا على مدى 12 سنة أنه إذا كان الغش خطأ أم لا ليست بالمسألة اليقينية، فلا يمكننا أن نلومهم على مقارفتهم الغش في ما بعد».

الواقع أن المخاطر تكون أكبر في العالم الكائن في ما وراء حدود المدرسة الابتدائية، الذي يجب فيه على الكبار أن يمارسوا معرفتهم الأخلاقية وتفكيرهم الأخلاقي ليحْسِنوا السلوك في المجتمع. ففي ذلك العالم، يلزمنا أن نقر بوجود الحقائق الأخلاقية كي نكون متّسقين مع أنفسنا. فإذا لم يكن صادقاً أن من الخطأ أن يقتل المرء رسام كاريكاتير يختلف معه، فكيف لنا أن نغضب لتلك الفعلة؟ وإذا لم تكن هناك ثوابت بشأن ما هو خير أو قيمي أو صواب، فكيف يمكننا مقاضاة الناس على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ وإذا لم يكن صادقاً أن كل البشر خُلقوا سواسية، فلماذا تصوّت لمصلحة نظام سياسي لا يفيدك دون غيره من الأنظمة؟

مدارسنا تفعل أشياء مدهشة بأطفالنا. وهي عندما تطلب من الطلاب أن يعامل أحدهم الآخر معاملة إنسانية وأن يؤدي واجباته المدرسية انطلاقاً من الأمانة الأكاديمية، فإنها بذلك تعلّمه بشكل أو بآخر، معايير أخلاقية. لكننا في الوقت نفسه نجد أن المنهج الدراسي يوقع أطفالنا في شرك الإيمان بفكرتيْن متناقضتيْن. فهم يُلقَّنون أنه لا توجد حقائق أخلاقية في لحظة ما حتى إن كانوا في اللحظة التي تليها يتم تلقينهم كيف ينبغي أن يكون سلوكهم.

ونحن بإمكاننا أن نفعل ما هو أفضل. فأطفالنا يستحقون أساساً فكرياً متسقاً يخلو من التناقضات. فالحقائق أشياء صادقة، أما الآراء فهي أشياء نعتقدها. وبعض اعتقاداتنا صادق، وبعضها الآخر ليس كذلك. وبعض اعتقاداتنا يقوم عليه دليل، وبعضها لا يقوم عليه دليل. والادعاءات القيمية مثلها مثل أي ادعاءات أخرى من حيث كونها صادقة أو كاذبة... إما أنها ادعاءات يقوم عليها دليل وإما أنها لا يقوم عليها دليل. ولا تكمن الصعوبة في إدراك أن هناك على الأقل بعض الادعاءات الأخلاقية صادق، بل يكمن في إمعان النظر في أدلتنا لنعرف أي هذه الادعاءات الأخلاقية المتزاحمة الكثيرة صحيح. وهذا شيء يصعب فعله. لكننا لا نستطيع أن نتحاشى المسؤوليات التي ينطوي عليها لكوننا بشراً لمجرد أنها صعبة, فذلك سيكون خطأ .