زامر رقدالين الأشمط

زامر رقدالين الأشمط

حل‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬على‭ ‬بلدة‭ ‬رقدالين‭ ‬الوادعة‭ ‬فأصيبت‭ ‬جرذانها‭ ‬بسعار‭ ‬غريب،‭ ‬فهاجت‭ ‬وماجت‭ ‬وعاثت‭ ‬في‭ ‬البلدة‭ ‬فساداً‭... ‬اعتدت‭ ‬على‭ ‬مخازن‭ ‬الحبوب‭ ‬والمطاعم‭. ‬وطالت‭ ‬أسنانها‭ ‬فاضطرت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحتها‭ ‬بأي‭ ‬وسيلة‭ ‬كانت‭ ‬فقرضت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬طالته‭ ‬بها،‭ ‬بدأت‭ ‬بقرض‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬المكتبات‭ ‬والمتاحف،‭ ‬ثم‭ ‬أرشيف‭ ‬الدواوين‭ ‬الحكومية،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬قرضت‭ ‬شعر‭ ‬شفشوف‭. ‬لقد‭ ‬شكلت‭ ‬الأسنان‭ ‬سلاحاً‭ ‬رهيباً‭ ‬في‭ ‬أفواه‭ ‬الجرذان‭.‬

على الرغم من كل ما حدث، فقد كان ينظر إليها في بداية الأمر على أنها مشكلة يجب التعايش معها، كما يتعايش المصابون بمرض ضغط الدم المرتفع مع مصيبتهم وبلواهم، أو كأمر واقع يتعين مجاراته ومداراته  إلى أن جاء ذلك اليوم الذي ولجت فيه الجرذان غرفة نوم شفشوف، حاكم بلدة رقدالين. قصت الجرذان بضع شعرات من شعر رأسه بأسنانها القاطعة، ولكن الغريب والعجيب أنها لم تمس أي عضو من أعضائه إلا شعره الأشمط . طورت الجرذان قابلية لقرض هذا الشيء الذي استجد على قاموس مطبخها،  فتكررت غاراتها على غرفته لترضي،  ولعها وتشبع نهمها بالعبث بشعر رأس شفشوف الأشمط.

شعر شفشوف بأن شعره مهدد بالزوال، وأن المسألة أضحت أن يكون أو لا يكون... شعره الأشمط أو قواطع الجرذان، لم يكن سر قوته يكمن في شعر رأسه كما كانت الحال مع الإسرائيلي القديم شمشون، بل على العكس فقد كان نقطة ضعف رهيبة، ولم يكن أعداؤه من الجبارين الفلسطينيين، بل كانوا مجرد جرذان، ولكن كان هناك فارق بسيط بين شمشون وشفشوف، فإذا كان لشمشون «دليلة» واحدة، فقد كان لشفشوف أكثر من «دليلة»، بالإضافة إلى كونه حاكماً لرقدالين، وقد تميز شفشوف بأنه شخص متعدد المواهب، فهو خطيب، وكاتب، ومهندس، ورياضي، وكان قبل ذلك راعياً للغنم. قرر شفشوف اللجوء إلى مواهبه للتخلص من هذه المصيبة، فتأمل المسألة وتدبرها بتمعن وروية، وقال في نفسه: إن الجرذان لا تتذوق البلاغة والبديع، ليلقي على مسامعها خطبة من خطبه العصماء، يدعوها فيها إلى الرحيل عن البلدة والابتعاد بأسنانها القاطعة عن شعره، كما أنها ليست مغرمة بالقراءة ليكتب لها فصولاً من النثر يحببها فيها إلى حلاوة العيش كشركاء وليس كأعداء، واستبعد اللجوء إلى موهبته الرياضية لعلمه بأن التنافس مع الجرذان في مجالات الجري والتسلق والسباحة لن يجديه نفعاً، ولكنه كان يعلم بأن لهذه القوارض الضارة حاسة فريدة من نوعها لتذوق بعض الأنغام الموسيقية، فكر في ذلك وقال مادامت الجرذان تستعذب الموسيقى فلمَ لا يستدرجها ببعض الأنغام إلى حتفها ويغرقها في إحدى الآبار الواقعة خارج البلدة.

قال شفشوف: إن هوى الجرذان سيكون البحر الذي سيغرقها فيه، كما تغرق النحلة في بحر من عسلها.

تعلم عزف المزمار عندما كان يرعى الضأن في البادية وهو صغير، وبمرور الوقت أصبح زامراً حاذقاً وتولدت عنده  قدرة للتواصل مع نعاجه وخرافه، فبمجرد النفخ في المزمار، يصبح قطيعه أطوع إليه من بنانه.

وقال شفشوف إذا كانت النعاج والخراف تتخدر بفعل نغمات المزمار فلن تكون الجرذان أقل منها تلذذاً بسماع الأنغام الشجية، ولمَ لا؟ فالحياة نفسها في أبسط أشكالها ما هي إلا نغمة رسمت على سلم موسيقي، لها أعاليها ولها أسافلها .

استحضر مزماره وذهب إلى السور المحيط بالبلدة، ووقف في أحد أبراجه وأخرج المزمار وبدأ بالنفخ فيه فتجمعت بضعة جرذان عند أسفل السور، بيد أن عددها كان قليلاً، لم يرق ذلك لشفشوف فصرخ من فوق السور قائلاً: أيتها الجرذان، هلمي إليّ، ألم ترددي دائماً مقولتي القائلة: إن الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها؟ أيتها الجرذان، هلمي إليّ، ألا يطربك مزماري؟ أم أنك أصبحت مقتنعة بمقولة: زمار الحي لا يطرب؟

أيتها الجرذان، لا تقولي زمار الحي لا يطرب، بل قولي زامر الحي لا يطرب، فقد تُنعتين بالجهل فوق الحمق.

أيتها الجرذان، هلمي إليّ، لا تحبسي نفسك في حبس من الجهل والانفصام، لا تحبسي نفسك في حبس من الأفكار السخيفة والتقاليد البالية

أيتها الجرذان، أيطربك غناء أليسا، ولا تطربك أنغام مزمار؟

أيتها الجرذان، أليست أليسا سوى مجرد طفرة جين أو سحابة صيف عابرة؟

أيتها الجرذان، لا تقعــــدي حبـــيسة جهلك وعنادك كذاك الشخص الجاهل الذي حبسه جهله ورعونته ونزقه وحمقه عن التفريق بين الأخضر واليــابس، وصــــار ينظـــر إلــــى كــــل شيء بمنظار أخضر،  فظن أن الكون كله أخضر. 

أيتها الجرذان، لا تصدقي كل من جاءك يهرف بما لا يعرف، وينعق بما لا يسمع، ويقول لك أنا سأحبس الشمس، فهو ليس يوشع
بن نون، وهو لن يحبس إلا جهله وحمقه ورعونته، ويصبح في النهاية حبيسها كلها، ولله در القائل:

فوالله‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬بأحلام‭ ‬نائم

ألمتْ‭ ‬بنا‭ ‬ولا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الركب‭ ‬يوشع

أيتها الجرذان، أتطربين للحن «نخي نخي عالطبيلة جيناكم خطاب الليلة»، ولا تطربين لأنغام مزماري؟

غير شفشوف النغمة، فاستقطبت الموسيقى الجديدة عدداً أكبر من الجرذان. وبطريقة الصح والخطأ أخذ شفشوف يجرب النغمات حتى وصل إلى عزف واحدة جذبت إليه جميع جرذان البلدة وفئرانها، بل وحتى بعض الجرابيع من الضواحي القريبة. كان المشهد حول سور القلعة أشبه بمشاهد المهرجانات، ولم يكن ينقصه شيء سوى  الغناء والرقص، فقد كانت أنغام شفشوف هي العامل المساعد الذي هيَّجه وسخَّنه إلى درجة حرارة الجمر الأحمر.

نزل على الأرض مواصلاً نفخ مزماره والجرذان مشدودة إليه ومشدوهة بفعل الأنغام السحرية، فأخذت تتبعه وهو يسير في طريقه إلى خارج البلدة، واصل مسيره على الطريق الصاعد إلى أعلى الجبل والجرذان تتعقبه، مأخوذة بالأنـــــغام، مقودة بالأوهام. لم يكن هناك كلاب لتنبح قافلة زامــــر رقداليـــــن الأشـــــمط، كل ما هنالك كــــان طـــريق ترابــــي متعرج يتسلق الجبل، كلما اكتسب من الأرض شبراً، خسر من الأجواء شهيقاً. 

قل غاز الحياة في الجو فاختلت معادلة الشهيــــق والزفيـــــر فاختلف نغم المزمـــار فعــــادت الجرذان إلى سيرتها الأولى وتذكــــرت اللذة العارمة التي كانت تجنيها من قرض شعــر رأس شفــــشوف، وبدلاً من اتباعه أصبحت تتتبعه، ولاذ الزامر الأشمط بالفرار والجرذان تطارده بإصرار، حريصة على الوصول إليه لتسلخ فروة رأسه كما كان الهنود الحمر من قبيلتي السو والشيروكي يفعلون بأعدائهم من اليانكي. كانت فروة رأس شفشوف في نظر  الجرذان أغلى من الجزة الذهبية بالنسبة لجيسون ورفاقه المصارعين الإغريق.

التجأ شفشوف إلى مغارة مظلمة بأعلى الجبل، تشعبت الأنفاق والدهاليز والسراديب داخل المغارة فكانت بجدارة متاهة يسهل الدخول إليها، بينما الخروج منها أمر تستعظمه حتى الثقوب السود نفسها. مغارة ليست بحاجة إلى سمسم ليفتحها لك وتلج إليها، ولكن لن يكون باستطاعتك الخروج منها ولو استعنت بألف سمسم وسمسم.

أهالت الجرذان الحجارة على مدخل المغارة، فصنعت سداً منيعاً محكماً لا يستطيع حتى الضوء نفسه النفاذ عبره إلى داخلها، فباتت المغارة قبراً لزامر رقدالين الأشمط .