المقاهي الأدبية في باريس

المقاهي الأدبية في باريس

ثمة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬يقدم‭ ‬لك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقدّمه‭ ‬سواه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬إنه‭ ‬يطير‭ ‬بك،‭ ‬ثم‭ ‬يحط‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬تطأها‭ ‬قدماك،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأحلام‭. ‬إنها‭ ‬كتب‭ ‬تأخذك،‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬رضاك،‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬شتى،‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬موضعك،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجهد‭ ‬نفسك‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬سفر‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬انتقال،‭ ‬موفرة‭ ‬لك‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬والأوقات‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬المقاهي‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬باريس‭... ‬حكايات‭ ‬وتاريخ‮»‬،‭ ‬لمؤلفته‭ ‬هدى‭ ‬الزين،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬حديثاً‭ ‬عن‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭. ‬الكتاب‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬موسوعة‭ ‬تضم‭ ‬المقاهي‭ ‬الفرنسية،‭ ‬خاصة‭ ‬الباريسية‭ ‬منها،‭ ‬متحدثةً‭ ‬عن‭ ‬تاريخها‭ ‬وموقعها‭ ‬ومَن‭ ‬مِن‭ ‬المشاهير‭ ‬كان‭ ‬يرتادها‭.‬

بداية تذكر المؤلفة أن المدن الأوربية الكبيرة مثل باريس، لندن، أمستردام وروما، تميزت منذ عصر النهضة بظهور ما يُسمى بالمقاهي الأدبية، وقد شهدت هذه الظاهرة انتشاراً واسعاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وباتت هذه المقاهي المكان المفضل الذي يرتاده كبار الأدباء والشعراء والمفكرين والفنانين. غير أن المؤلفة ترى أن المقهى الباريسي ليس مجرد مكان للجلوس واللقاء والحديث فقط، بل إنه أحد أبرز التعبيرات العبقرية في فرنسا.

أجمل‭ ‬عشرة‭ ‬مقاهٍ‭ ‬في‭ ‬العالم

تورد المؤلفة قائمة بأسماء أجمل عشرة مقاهٍ في العالم، هي: مقهى نيويورك في بودابست، مقهى فلوريان في البندقية، مقهى سنترال في ڤيينا، مقهى إمبريال في براغ، مقهى دي لابيه في باريس، مقهى ماجستيك في بورتو، مقهى كونفيتاريا كولمبو في ريو دي جانيرو، مقهى كامبرينيوس في نابولي، مقهى تورتوني في بيونس أيرس، ومقهى جيريكو في روما. كذلك تذكر هدى الزين في كتابها هذا أن ستوارث لي آلن يربط في كتابه «القهوة... القوة المحركة للتاريخ» اكتشاف القهوة بحكاية أسطورية طريفة وشائعة تعود إلى مائة ألف عام، حيث لاحظ راعٍ إثيوبي أن إحدى عنزاته أخذت تتراقص وتمأمئ بصورة هستيرية، وراح الأمر يتكرر كلما تناولت العنزة ثمرة بعينها. وما كان من الراعي إلا أن جرب هذه الثمرة، التي كان يشعر بنشاط مفاجئ كلما تناولها، ثم قدم الراعي هذه الثمرة لمتصوف كان يسهر طوال الليل، وقدمها الأخير بدوره إلى مريديه، حتى ذاع صيته في المنطقة. غير أن ستوارث يؤكد أن أول من تناول القهوة هم قبائل الأورومون، التي عاشت في شرق إثيوبيا في مملكة الكيفا، التي اُشتق منها اسم كوفي، ثم بعد ذلك عرفها اليمنيون الذين كانوا يسافرون إلى الحبشة، ومن اليمن انتقلت القهوة إلى الحجاز ومصر حيث قُوبلت بضجة كبيرة. أما انتقال القهوة إلى أوربا فتم عن طريق الأستانة. 

وترى المؤلفة أن المقهى منشأة شرقية عُرفت أولاً في بلاد الشرق، وقد رأى طبيب ألماني المقهى في منتصف القرن السادس عشر في مدينة حلب. وبعد ذِكْر المؤلفة غزو المقاهي لأوربا، تقول إن أبرز سمات العاصمة الفرنسية هي ذلك الانتشار الكثيف للمقاهي على مختلف جاداتها وشوارعها، ما يضفي عليها حيوية تميزها عن سواها من المدن. غير أن بعض هذه المقاهي يتم من حين لآخر تحويلها لأشياء أخرى، مثلما حدث لمقهى كلوني، الذي تقول عنه المؤلفة إنه ليس الوحيد من المقاهي الشهيرة التي تحولت في مدن العالم الجذابة إلى مطاعم أو محال تجارية، إذ ثمة كثير من المقاهي التي جلس فيها كبار الشعراء ودرس فيها عمالقة من الباحثين والعلماء لقيت المصير نفسه، أو ربما مصيراً أسوأ، ولا عزاء لعشاق هذا المقهى أو ذاك. 

 

الأدباء‭ ‬والمقهى

إلى جانب ذلك تُشكّل المقاهي جزءاً لا يتجزأ من المشهد الباريسي ومن حياة الباريسيين، وعاداتهم اليومية، ومن تراثهم وتاريخهم، لكونها واكبت تطورهم السياسي والفكري والاجتماعي منذ القرن الثامن عشر، إلى درجة أنه يُقال عن باريس إن فيها ما بين المقهى والمقهى مقهىً آخر. وحين تقترب المؤلفة من علاقة الأدباء بالمقهى، تقول إنه لا يوجد كاتب فرنسي أو أجنبي عاش في باريس لم يكتب عملاً أدبياً من أعماله في المقهى. وتورد أسماء مثل سيمون دي بوفوار التي كانت تكتب أعمالها في مقهى سيليكت في المونبارناس، وكذلك كان إرنست هيمنجواي يكتب قصصه القصيرة في مقهى غلوسري دي ليلا. أما في مقهى فلوار الذي يقع في سان جيرمان، فكان يجلس جيوم أبولينير هو ورفاقه. 

ومن المقاهي الأدبية انطلقت المدارس الواقعية الاجتماعية في الأدب، والمنطقية والوجودية في الفلسفة، وما شهر هذه المقاهي هو ارتباطها بالتيارات الفكرية التي شهدتها فرنسا في تلك الفترة الذهبية من تاريخها الأدبي والفكري والفني. 

من هنا وصلت الحال بالفيلسوف مونتسكيو إلى أن يقول: «لو كنتُ حاكماً لهذا البلد لأقفلت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة». ولا يفوت المؤلفة أن تذكر أن عدداً من عمالقة الأدب العربي مثل طه حسين، توفيق الحكيم، سهيل إدريس، ألبير قصيري، وغيرهم، كانوا يترددون على مقهى كلوني الباريسي، وتضيف أنه قيل إن الروائي الراحل نجيب محفوظ (العربي الحائز جائزة نوبل في الآداب)، كتب عملاً إبداعيًّا سمّاه «ثرثرة في مقهى كلوني». ثم تذكر المؤلفة عدداً من المقاهي الباريسية، منها: مقهى لو بروكوب، وهو أول مقهى أدبي باريسي تم افتتاحه في العام 1689. أما أول مقهى أدبي عرفته فرنسا فكان يدعى لاموموس في منطقة سان جيرمان، وكان من أهم رواده بودلير والرسام مانيه. كذلك هناك مقهى ديماجو الواقع في أهم شارع بالحي اللاتيني، ومقهى لا فلور، وهو لا يقل أهمية عن مقهى لابروكورب ومقهى ديماجو، ويعد من أقدم المقاهي في سان جيرمان دوبريه عند بداية الجمهورية الثالثة، وأنشئ حوالي عام 1885. 

تتحدث أيضاً هدى الزين في كتابها هذا عن المقاهي المسرحية في باريس، والمقاهي الفلسفية، مطلقة عليها اسم الظاهرة التي خرجت إلى النور في فرنسا منذ سنوات عدة، وهي لا تكف عن التنامي، إذ يوجد ما يقرب من مائة وخمسين مقهىً تنتشر في أنحاء فرنسا، يجتمع فيها أشخاص يتناقشون حول الوجود والحب والموت والكلام والسلطة والحداثة. كذلك تتحدث المؤلفة عن علاقة المقاهي الفرنسية بالسياسة، إذ ترى أن غالبية المقاهي الفرنسية قد شكلت مراكز للمعارضة السياسية، حيث وجَّهت من خلف طاولاتها الانتقادات للحكومة.

 

ظاهرة‭ ‬الحكواتية

من أجمل الظواهر الثقافية في المقهى الباريسي - والقول للمؤلفة - هي ظهور الحكواتية وهم نقلوها عن طقوس الشرق والمقاهي العربية الأصيلة، وهناك عدد من الفنانين العرب نقلوا حكايات ألف ليلة وليـــلة بطرق مسرحية مشوقة، ومنهم المسرحي والكاتب العراقي سعدي يونس البحري، الذي نقل حكايات مشوقة للأطفال والكبار بطرق مسرحية أتقن فيها دور الراوي والحكواتي الذي عرفته مقاهي العالم العربي في بغداد ودمشق والمغرب، كما عرفت باريس ولندن الفنانة المصرية الحكواتية ذات الواحد والأربعين عاماً شيرين الأنصاري. 

ولا يفوت الزين أن تتـــحدث في كــتابها الممتع هذا عن المقاهي العربيـــة الموجودة فــي فرنسا، التي سحرت الفرنسيين وحملتهم إلى سحر الشرق، وعرَّفــتهم على الشيشة التي كانت مجــهولة في المجتـــمع الغربي، بعد أن حمل العرب المهاجرون تقاليدهم إلى الغرب وافتتحوا مقاهي للشيشة ذات طابع يحمل خصوصية البلد الذي أتوا منه، فهناك مقهى بغداد، مقهى سحر الصحراء، مقهى أم كلثوم، وغيرها. 

 

شهادات‭ ‬وذكريات

بعد ذلك، تورد الزين في نهاية كتابها شهادات وذكريات المثقفين العرب في المقاهي الأدبية، منهم توفيق الحكيم، السينمائي العراقي فيصل الياسري، الروائي اللبناني سهيل إدريس، الروائي المصري جمال الغيطاني، ألبير قصيري، المترجمة ماري القصيفي، الكاتب اللبناني علي حرب، الرسام المصري جـــورج البهجـــوري، الذي يقول عن المقـــهى الباريسي إنه مكان يجمع الحب والإنسان فـــي عالم تسوده الكراهية والحروب والعنف. وعندما يرسمه، يرسمه كــأنه يقــــدم دعـــوة جميلة للســلام والحب والتعايش الإنساني بلا حدود وبلا فوارق. 

إن المقهى، كما يراه البهجوري هو مكان للقاء والتأمل، تُحتسى فيه القهوة، ويتم التعرف فيه على وجوه العابرين تحت سماء باريس الرمادية الملبدة بغيومها، أو تحت أشعة شمس دافئة ونادرة. ثم تنهي هدى الزين كتابها بما هو مسك، تنهيه بالشعر، إذ تورد عدداً من النصوص الشعرية التي كتبت عن المقهى لمحمود درويش، شوقي بزيع، محمد علي الرباوي، محمد حسن علوان، ونزار قباني، الذي تختار له قصيدته «قصيدة المقهى»، ويقول في مطلعها:

أجلس‭ ‬في‭ ‬المقهى‭... ‬منتظراً

أن‭ ‬تأتي‭ ‬سيدتي‭ ‬الحلوة‭...‬

أبتاع‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية

أفعل‭ ‬أشياء‭ ‬طفولية

أفتش‭ ‬عن‭ ‬برج‭ ‬الحمل

ساعدني‭ ‬يا‭ ‬برج‭ ‬الحمل

طمئني‭ ‬يا‭ ‬برج‭ ‬الحمل

هل‭ ‬تأتي‭ ‬سيدتي‭ ‬الحلوة؟

وفي الأخير، لا يفوتني أن أؤكد أن هذا الكتاب هو أحد الكتب التي لا تمل أبداً وأنت تطالع صفحاتها، التي تُسلمك إحداها إلى الأخرى في سلاسة وانسيابية جميلة، تشعرك بمتعة القراءة وأنت تتجول في مختلف المقاهي التي نقلتها إليك المؤلفة بريشتها متحملة عنك عناء السفر والترحال.