«كتاباته رسمت ملامح نصف قرن» سليمان الشطَّي.. تعددية طبقات النص

«كتاباته رسمت ملامح نصف قرن» سليمان الشطَّي.. تعددية طبقات النص

يجمع سليمان الشطي بين ألقاب وأدوار ثقافية عديدة، كمعلم وإداري وأديب وناقد، كما تجمع كتاباته بين القصة والرواية والمقال والدراسة النقدية والأكاديمية. بل يجمع أيضا بين أزمنة وأجيال عديدة. فقد نشر أول قصة قصيرة له (الدفة) في العام 1962، وحصل على ماجستير جامعة الكويت بقسم اللغة العربية عام 1974. ثم على دكتوراه جامعة القاهرة عام 1978، في «الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ». ما يعني أن كتابات الشطي ترسم ملامح نصف قرن، ليس من حياة الكويت وحدها، بل كذلك من حياة العرب الأدبية ككل. 
ونصوص الشطي الأدبية تتميز بتعددية في مستوياتها. فعلى مستوى «اللغة» البلاغية، تتميز بكثافة تقترب من الشاعرية. بينما على مستوى مضمون «التصورات»، نجدها واقعية المنزع. أما على مستوى «السرد»، فنجدها تحليلية، تربط بين الواقع وبين تداعيات تيار الوعي. وبذلك يجمع الشطي في مزيج فريد بين ثلاثة مستويات: شاعرية اللغة وواقعية التصورات وتحليلية الوعي. وهذه عناصر ثلاثة يندر أن تجدها منجدلة معا لدى أديب واحد كما لدى الشطي.
في قصة «جسد»، ضمن مجموعة «أنا الآخر»، يكتب الشطي النص التالي: 
«ولكن بين تقاطعات السوق ودكاكينه تأخرت الرهبة وتقدم الانهماك. ارتفاع الصوت الرجولي الخشن إيذان بأن ما هو متوقع لم يتم كما قدِّر له من قبل، تفجر صراخ الرجلين فاستوى مؤشر الصراع عند حده العالي، تطامنت كل الأصوات الأخرى إلا صوتيهما فجاء الصراخ كهرباء صاعقة شلت قدرات أمي المتفتحة في ذلك اليوم، فأعادتها إلى الاضطراب فالانكماش. تقارب الديكان فانتصبت شعرات الغضب سهاما منصوبة، اندفعا من الجهتين، أحدهما عن يمينها والآخر عن شمالها، فأصبح موقعها على رأس المثلث. تماسك كل ما فيهما بعنف شرير فكانا كتلتين متلاحمتين تتقافز منهما حركات الحدة الطائشة، التحامهما يهصرها في الزاوية التي حشرت بها .. وفي لحظة تمكَّن أحدهما من الآخر فراح يدفعه ليحشره في الزاوية التي سبقتهما إليها، ولكن الآخر استعاد سيطرته على الموقف فتجمدا عند أنفها وخوفها يضغطها إلى الخلف فالجنب، زاوية الخد اصطدمت واستقرت على الحافة الحادة العارية للباب الحديدي الجرار والذي كانت أطرافه دالة على عمل غير متقن. وعندما تداخلت الأيدي الخشنة لتفك الكتلتين المتصارعتين كانت أمي أكثر الثلاثة نزفا، قطرات الدم تشرشر فيمتصها ثوب يخفي سواده احمرار الدم الدائم». (ص 8-9).
في هذا النص تتداخل مستويات النص الثلاثة بتوازن كبير. 
فأولاً: على مستوى اللغة، نلحظ نزوع الشطي ناحية البلاغة، في توظيف المجازات والاستعارات من مثل: تأخرت الرهبة وتقدم الانهماك – الديكان (الشخصان المتعاركان) – كهرباء صاعقة – الثوب يمتص قطرات الدم ويخفيها. 
ومن ناحية ثانية، يدل مستوى «مضمون التصورات» في المشهد الموصوف على نزوع الكاتب نحو الواقعية، وكأنه يصور أمرا اعتياديا طبيعيا من أمور الحياة اليومية التي تعرضت لها أم الراوي، دون تدبير مسبق من الأقدار أو الحظ العاثر، اللذين هما المحركان المعتادان للأحداث السلبية لدى أغلب الكتاب الرومانسيين. فالكاتب الرومانسي لم يكن ليفوت فرصة تصوير مثل هذا الموقف دون أن يمارس ما يجيده الرومانسيون من الإفراط والمبالغة ليصل به إلى درجة الكارثة، فيجعله ذريعة لصب لعناته اليائسة على الحظ العاثر الذي سيتم تصويره وكأنه هو المسئول المتعمد لوقوع هذا الحادث. لكن في نص الشطي، نجد تصوراته تقف عند الاكتفاء بنسب الأسباب بواقعية شديدة إلى: «الحافة الحادة العارية للباب الحديدي الجرار والذي كانت أطرافه دالة على عمل غير متقن».
ومن ناحية ثالثة، يدل مستوى السرد، على نمط التحليلات التي اختار الراوي التركيز على سردها، حيث يقوم التطور الدرامي للمشهد على ربط ما يدور في الواقع بمشاعر الشخصيات بشكل تحليلي تتداعى فيه المشاعر تدريجيا بحيث نلاحظ تطورها ونتتبعه بسهولة، فنرى الغضب ويسرد الراوي أسبابه التي تحوله إلى صراع. فالمشهد لا يتحرك إلا انطلاقا من مشاعر إنسانية يركز الراوي على تصويرها، بطريقة فيها كثير من التحليل النفسي، بل وأيضا التحليل الهندسي، مثل: «أحدهما عن يمينها والآخر عن شمالها، فأصبح موقعها على رأس المثلث..»، ومثل: «زاوية الخد اصطدمت واستقرت على الحافة الحادة..»، وهو نمط سردي يشي بقدرات الراوي التحليلية التي تربط مسارات الواقع بتدفقات تيار الوعي.

تراوح بين تيارين
سياق القصة «جسد» يحدد موقع النص السابق (كما نصوص الشطي عامة) بشكل أدق، ليجعله يتراوح برفق بين تيار الواقعية التحليلية وتيار الوعي، جيئة وذهابا، وبخاصة حين تقترب القصة من نهايتها، حيث يصف الشطي (الراوي) كيف استقبلت الأم خبر الغزو العراقي للكويت: 
«إحساسها بالصيف يأتي مبكرا.. تسعة شهور مرت على الفرقعة التي توالى بعدها الهول.. توالت الفرقعات، هي وحدها التي لم تتأخر عندها ردة الفعل، فعندما انحدرت من السطح وقد حطمت صور الطائرات الحربية الشك وجاء يقين محزن.. هربت رجلاي بي إلى غرفتها فوجدت الجسد طريحا .. أيقنت أن الخبر المفزع قد انحدر في أذنيها، فليست هي من النوع الذي تغيب عنه مثل هذا الأصوات.. عندما حملتها إلى المستشفى كنت أقوم بعملية فيها كثير من السخرية، فحين يقتحم الجنود الغرباء المدينة لا يبقى لامرأة عجوز مشلولة مكان، وطرح جسدها في جانب من غرفة متسعة غادرها المرضى ودخلها الجرحى..».
ففي هذه الخاتمة، تندمج متاعب الجسد الخاص بالأم في متاعب الجسد العام للوطن. فتصبح لحظة وفاة «جسد» الأم هي نفسها لحظة غزو «جسد» الوطن. وبهذا، فإن سياق القصة يحدد نزوع الشطي نحو المدرسة الواقعية، فيما يخص مضمون النصوص وإستراتيجياتها. لكن نمط واقعية الشطي لا يمنعه من ممارسة قدر من التنويع في مستويات النص الثلاثة، بحيث يتمكن من توظيف تكثيفات اللغة البلاغية، ومن استخدام تقنيات تيار الوعي في سرد استقبالات الراوي عن الحالات الشعورية النفسية لشخصيات القصة. وبهذا يصبح قارئ نصوص الشطي وكأنه يطالع ثلاث طبقات نصية في نص واحد.
لكن حتى لا تختلط الأمور، يجب الإلماع إلى أن هذه الطبقات الثلاث إنما تعمل في مستويات محددة وبشكل واضح، ومن دون خلط أو فوضى. وهذا تحديد ضروري، لأنه يساعد على التمييز بين التعددية وبين الخلط.

تعددية طبقات السرد
فالمقصود بالتعددية في طبقات السرد لدى الشطي هو أنها تؤلف بين عناصر قد تبدو متضاربة لدى أصحاب النظرة الأحادية، ومن يعجزون عن رؤية التركيب والتعقيد، فيسارعون لاعتبار التعددية نوعا من الخلط. ولذا يصبح من الضروري التمييز بين الخلط وبين التعدد.
فلو قلنا إن كاتبا يجمع بين الشاعرية وبين الواقعية، لكان هذا بمنزلة خلط. لكن في حالة الشطي، فإن امتزاج العناصر بين الشاعرية والواقعية يتم بشكل محدد، ولذا نصفها بأنها تشبه الطبقات التي توجد معا دون تضارب أو تعارض، لأن لكل منها موقعه المحدد ودوره الواضح.
فالبلاغة الشاعرية لدى الشطي موقعها اللغة، والتي تمكن إحالتها إلى دراسته الأكاديمية لآداب اللغة العربية. ولذا فنصوص الشطي، تتسلح بهذا البعد اللغوي الذي يندر وجوده لدى أصحاب اللغة البسيطة ممن لم يدرسوا العربية دراسة أكاديمية متعمقة.
لكن على مستوى «تصورات» النص وأهدافه الإستراتيجية، نجد الشطي مرتبطًا بالواقع وبتحدياته وصيرورته بشكل كبير. فهو لا يفارقه، ليشطح في خواطره الذاتية الخاصة الرافضة للواقع ليحل محله تهويماته الشخصية، جريا على العرف الرومانسي في الكتابة. بل تأتي مضامين نصوص الشطي ومشاعره الذاتية واقعية المنحى بشكل واضح.
ويصف الشطي (الراوي) «رؤيته» التحليلية لحالة شخصيات القصة. لكنه لا يزعم لنفسه حق النفاذ الحصري إلى أعماق هذه الشخصيات، ولا حق الإحاطة الحصري بكل ما يمكن أن يصدر عنها. بل يبدو وكأن الراوي يقدم «رؤيته» الخاصة المحدودة لما يراه في تصرفات وأحداث معينة من دلائل تصدر عن الشخصية الموصوفة، لكنه لا يزعم لنفسه قدرة العلم السرمدي بأبعاد الشخصية الموصوفة بما يصادر على قدرة القارئ المتلقي على إضافة تفسيرات أخرى إلى تفسير الراوي. ومن هذا المنظور التصويري، يغيب التحيز عن الشهادة التي يقدمها الراوي للأحداث. فهي تأتي من موقع لا يتحيز لمسبقات ذات الراوي الساردة. وهذا من خصائص السرد الواقعي التحليلي، الذي يمثل تجاوزا مهما لإستراتيجيات السرد الرومانسي المعروفة، التي اعتادت أن تنسحب من الواقع الخارجي لتقدم الرؤية المتحيزة للذات التي تتألم بفعل الواقع، وبالتالي تصادر على موقف القارئ بدفعه للاضطرار إلى أخذ موقف أحادي ضد الواقع ومع الذات.
ونلمح في شخصيات الشطي أنها ليست من النوع الذي يفصح عن مشاعره بسهولة. ولذا فهي تحتاج إلى الراوي ليعبِّر عما يعتمل داخل وعيها من مشاعر متدفقة. وهنا تكون العلاقة بين الراوي وبين شخصيات القصة فيها قدر كبير من التكامل المتزن وتقسيم الأدوار رغم وجود الراوي داخل الواقع نفسه والمنظور نفسه اللذين تتحرك فيهما شخصيات القصة، دون أن يتمتع الراوي بأي موقع متفرد أو مستقل، كما هو معتاد مثلا في تقاليد السرد الواقعي التسجيلي، بل يجد الراوي نفسه في الموقع الواقعي ذاته إلى جانب شخصيات القصة.

الهروب الرومانسي
ونلحظ نص الشطي وهو يتهرب من الرومانسية، ليعمد إلى تهدئة التمرد الرومانسي المعتاد لبلاغة اللغة العربية، حين يصف الغزو بألفاظ وتعبيرات محددة عدة، حيث يبدأ بلفظ «الفرقعة» ثم يستخدم لفظ «الهول»، ليعود للفظ «الفرقعات» ثم «صور الطائرات الحربية» ثم «الخبر المفزع» ثم «الجنود الغرباء». وهو ما يدل على محاولته إلجام جموح اللغة التي تصف هذا الحدث الكارثي (الغزو)، من خلال محاولة قصر الحدث على مظاهره في الواقع، بطريقة تتعمد إفقاد الوصف شحناته الرومانسية من خلال اختزال الموضوع (الغزو) في بعض مظاهره الصوتية (الفرقعات) ومظاهره البصرية (صور الطائرات), بما يدل على أن الواقعية هي الاختيار الواعي للشطي، حين يحرص على تقليص شحنات الرومانسية المحتملة حتى على مستوى بلاغة اللغة. وهنا نلحظ أن طبقات النص لدى الشطي ليست طبقات سكونية، لكنها تتحرك وتتفاعل، بحيث يزيد دور كل منها أو ينقص، لكن في اتجاه محدد وواضح، ناحية الواقعية التحليلية وتيار الوعي، وبعيدا عن الرومانسية.