القيادة التحويلية والإبداع الإداري

القيادة التحويلية  والإبداع الإداري

يمر‭ ‬العالم‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬بمرحلة‭ ‬تحول‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬المعلومات‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬المعرفة‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬أثراً‭ ‬عميقاً‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والمعلوماتية‭ ‬للمنظمات‭. ‬وقد‭ ‬أوجدت‭ ‬العولمة‭ ‬تحديات‭ ‬كبرى‭ ‬لمنظمات‭ ‬الأعمال،‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬‮«‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‮»‬‭ (‬WTO‭) ‬كإحدى‭ ‬أهم‭ ‬المنظمات‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬الحديث،‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحرير‭ ‬كل‭ ‬أوجه‭ ‬التبادل‭ ‬السلعي‭ ‬والخدمي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬القيود‭ ‬الجمركية‭ ‬وغيرها،‭ ‬وسطوة‭ ‬الشركات‭ ‬العملاقة‭ ‬المتعددة‭ ‬الجنسيات‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬تتجاوز‭ ‬ميزانيات‭ ‬بعضها‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مفتوح‭ ‬الفضاءات‭ ‬والحدود،‭ ‬تتدفق‭ ‬فيه‭ ‬المعلومات‭ ‬والثقافات‭ ‬والسلع‭ ‬والخِدْمَات‭ ‬والاستثمارات‭ ‬والأموال‭ ‬والخبرات‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حواجز‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬بفعل‭ ‬اتفاقيات‭ ‬تحرير‭ ‬التجارة‭.‬

هذا الواقع شديد التعقيد، كثير المشكلات، سريع التغيُّر، يتطلب من منظمات الأعمال أن تسعى إلى المواكبة، لتستطيع البقاء في ساحة المنافسة العالمية الشرسة، وأهم أدواتها في تحقيق ذلك: القيادة الإدارية الواعية التي تتجه نحو تصميم بيئة تنظيمية إبداعية تتضمن أساليب وطرقاً مختلفة تستهدف تنمية قدرات الأفراد الإبداعية، وزرع عناصر الإبداع الإداري في المنظمات. 

وللقيادة نظريات مختلفة تعددت باختلاف المدخل الذي يُنظر به إلى القائد، فبينما تناول بعضُ علماء الإدارة القيادةَ من خلال مدخل السمات الشخصية للقائد، نظر آخرون إلى سلوكيات القائد، وركز فريق ثالث على المواقف التي يعايشها القادة. وأيضاً اختلفت الأنماط القيادية باختلاف السلوك الذي يمارسه القائد مع المرؤوسين في سبيل تحقيق أهداف المنظمة.

وأدى هذا الاختلاف الكبير في نظريات وأنماط القيادة إلى أن يقول أحد علماء الإدارة: «إن القيادة مثل الجَمَال... شيء يصعب تعريفه ولكنك تتعرف عليه عندما تراه». 

وبالرغم من كل هذا الاختلاف، فإن الأدبيات الحديثة للإدارة اتفقت على أن منظمات القرن الحادي والعشرين تحتاج إلى القائد المبدع ذي السلوك التحويلي، الذي يستطيع أن يواجه تحديات العولمة بأساليب مبدعة، ويُحدث تغييراً في تجاوب الأفراد والمنظمات ككل، فالإبداع يدعم قوة أي منظمة في تميزها عن المنظمات الأخرى، كما أن الإدارة التقليدية أصبحت غير ممكنة في الوقت الحالي لما لها من عواقب وخيمة، فهي تُحوِّل الأفراد العاملين إلى بيروقراطيين، وتسلبهم قدرتهم على الإبداع والتفكير.

تقوم هذه الدراسة على بحث وتحليل أثر القيادة التحويلية على الإبداع الإداري في المنظمات، حيث يتشكل الإبداع الإداري من مستويات عدة، هي: الإبداع على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى المنظمة.

إن تعدد الأبعاد المكونة للقيادة الإبداعية التحويلية، وطبيعة الارتباط المحتملة بين هذه الأبعاد وبين خصائص الفرد المبدع والثقافة التنظيمية الإبداعية كمتغيرات تابعة، يشكلان مجالاً خصباً للدراسة،
فـ «القائد المُبدع»: «هو شخص في موضع القيادة، قادر على الإبداع، يحرص على تهيئة موارد بشرية تنافسية، وهو مَنْ تتوافر له سمات القيادة التحويلية فينجح في خلق وتعزيز بيئة مواتية للإبداع». 

أما الإبداع نفسه فهو: «قدرة عقلية تظهر على مستوى الفرد أو الجماعة أو المنظمة، وهو عبارة عن: عملية ذات مراحل متعددة، تنتج عنها فكرة أو عمل جديد يتميز بأكبر قدر من الطلاقة، والمرونة، والأصالة، والحساسية للمشكلات. وهذه القدرة الإبداعية من الممكن تنميتها وتطويرها حسب قدرات وإمكانات الأفراد والجماعات والمنظمات». ويشير هذا التعريف إلى أنه من الممكن إدارة الإبداع وتنميته سواء كان ذلك من خلال التدريب بالنسبة للأفراد والجماعات، أو توفير المناخ الملائم للإبداع بالنسبة للمنظمات.

ترجع أهمية هذه الدراسة إلى أهمية الدور الذي تقوم به القيادات الإدارية في منظمات الأعمال، والذي يؤدي العنصر البشري فيه دوراً محوريّاً؛ وأهمية الإبداع في إدارة هذه المنظمات في ظل العولمة والتنافس القائم بينهما لتحقيق التميز الإداري، بالإضافة إلى قلة الدراسات التي تناولت نمط السلوك القيادي التحويلي وعلاقته بالإبداع الإداري في المكتبة العربية.

ويُعتبر موضوع القيادة الإدارية - من جانب - والإبداع الإداري، من جانب آخر، من الموضوعات التي تم تناولها بكثرة في دراسات الإدارة وعلمي النفس والاجتماع. أما موضوع القيادة التحويلية، التي تمثل قيادة القرن الحادي والعشرين، فلم يتم التطرق إليه كثيراً في الدراسات العربية - على حد علم الباحث - كما أن هناك ندرة في الدراسات التي ربطت بين القيادة التحويلية والإبداع الإداري ممثلاً في توافر القدرات الإبداعية في الأفراد العاملين، وسيادة ثقافة تنظيمية إبداعية داخل المنظمة.

 

مفهوم‭ ‬ونظريات‭ ‬القيادة

القيادة ظاهرة قديمة ارتبطت بتاريخ البشرية، فحيثما كانت هناك جماعة تضم أفراداً يوزعون العمل بينهم، كانت هناك قيادة تتولى التنسيق لجهودهم، وقد تمكنت بعض المجتمعات من التقدم والرقي وبناء دول عظمى وإمبراطوريات على مر التاريخ، بفضل توافر قيادة واعية استطاعت التجاوب بسرعة ووعي مع تحديات العصر الذي تعيشه، وبالرغم من التطور التكنولوجي والرقي المادي الذي بلغته البشرية في زماننا هذا فإن عامل القيادة يظل المفتاح لتقدم المجتمعات والدول والجماعات. وتختلف مجالات القيادة باختلاف الجماعات المقودة، فنجد القائد السياسي والقائد العسكري والقائد الإداري... إلخ. وما يجمع بين جميع أشكال القيادة هو الفكر والسلوك القيادي الذي يتمتع به القائد، ويركز هذا البحث على مفهوم «القيادة الإدارية».

 

القيــادة‭ ‬التحويليــــة

يعتبر المدخل التحويلي في القيادة من المداخل المعاصرة التي تطرَّقت لعملية القيادة، وهو مدخل شمولي يمكن استخدامه لوصف مدى واسع من القيادة، من المحاولات الدقيقة للتأثير في المرؤوسين على المستوى الفردي إلى المحاولات الأكثر اتساعاً للتأثير في المنظمات كلها والثقافات بكاملها. والقيادة التحويلية هي العملية التي تغير الأفراد وتحولهم، وهي تركز على القيم والأخلاق والمعايير والأهداف الطويلة الأجل. وتشتمل القيادة التحويلية على تقويم دوافع الأفراد وإشباع حاجاتهم ومعاملتهم بإنسانية، وهي عملية تندرج ضمن القيادة ذات الصفة الكاريزمية والرؤية المستقبلية.

 

مفهوم‭ ‬وأدبيات‭ ‬الإبداع

الإبداع ظاهرة إنسانية موجودة في الحياة وبين الناس منذ بداية الخلق، وتتجلى في الأفكار والأفعال والمنتجات والعلاقات والنظم والثقافات وغيرها، ويتميز القرن الحادي والعشرين بسطوع الظاهرة الإبداعية، لأن اقتصاداته المبنية على المعرفة تتنافس في الإبداع وترتكز على العقول والأفكار. ويعبّر الإبداع عن موهبة وحرية وعبقرية، وهو ليس ترفاً أو إسرافاً، بل هو مطلب حضاري جوهري مهم لجميع الأمم، وفوق ذلك فإنه ضرورة من ضرورات البناء والتنمية، كما يعتبر مقياساً من مقاييس تطور الأمم، ودليلاً على تقدمها وحضارتها، فضلاً عن أنه المحرك والدافع لأي تقدم علمي أو فكري أو فني.

تناول الباحث «الإبداع» كظاهرة لتجلية مفهومه وتحديد عوامله ومراحله ومستوياته؛ وذلك كمدخل لتجلية مفاهيم الإبداع الإداري، الذي يشكل نطاق التركيز لهذه الدراسة.

مفهوم‭ ‬وأدبيات‭ ‬الإبداع‭ ‬الإداري

تناول الباحث مفهوم الإبداع بصورة عامة، ولما كانت هذه الدراسة تهدف إلى دراسة أثر السلوك القيادي الإبداعي والتحويلي على الإبداع الإداري في المنظمات، فإن التركيز في هذا الجزء كان على دراسة الإبداع داخل التنظيم الإداري. فبمثل ما تعددت وتباينت تعريفات الكُتَّاب والباحثين لمصطلح «الإبداع»، فقد تعددت التعريفات التي تتناول مفهوم «الإبداع الإداري» (Administrative Creativity) أو «الابتكار الإداري» (Administrative Innovation)، حيث إنهما مصطلحان مترادفان، ويكادان يتفقان على أهمية وجود منتج إبداعي متمثل في أفكار وأساليب وممارسات مبدعة، تتسم بالجدة والأصالة، يبتكرها - عادة - الإداري المبدع، الذي يهتم بتحفيز قدرات العاملين واستثمار مواهبهم في تطبيق تلك الأفكار والأساليب والممارسات داخل المنظمة.

 

دور‭ ‬القيادة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الإبداع‭ ‬الإداري

لا يختلف اثنان حول أهمية القيادة في منظمات الأعمال، فالقيادة هي المفتاح الأهم في تنسيق جهود أفراد الجماعة وحفزهم والتأثير عليهم للوصول للأهداف المحددة. وقد ذكر درويش وتكلا أن «قيادة التنظيم هي روحه التي تتوقف على فاعليتها حيويته واستمرار وجوده». 

وفي ظل الواقع الذي تعيشه منظمات القرن الحادي والعشرين الذي يتسم بالتعقيد وسرعة التغير والتنافس في الإبداع، يكون العبءُ على القيادة كبيراً، ليس من أجل المحافظة على فاعلية المنظمة فحسب، وإنما من أجل تفجير طاقات العاملين فيها لإبداع أفكار وحلول تمكن المنظمات من مواجهة التحديات التي تواجهها، ولذلك فالمطلوب من القيادة رفع مستويات الإبداع وليس الفاعلية.

ولإبراز دور القيادة على المستوى العام، والقيادة التحويلية على وجه الخصوص في رفع مستوى درجات الإبداع الإداري، استعرض الباحثُ كيفية بناء الثقافة التنظيمية الإبداعية، باعتبار أن هذا جهد قيادي يتم داخل المنظمة، ثم تناول أثر القيادة على تنمية القدرات الإبداعية للعاملين، وأثرها على تكوين الثقافة التنظيمية الإبداعية.

من خلال استعراض آراء وأفكار الكتَّاب والمفكرين حول سمات وخصائص القائد الإداري في القرن الحادي والعشرين، ودراسة مفاهيم وأدبيات الإبداع الإداري، خرج الباحث بالنتائج الآتية:

- القائد المبدع ذو السلوك التحويلي، هو القائد الذي يستطيع مواجهة تحديات العولمة ويُحدث تغييراً في استجابة الأفراد والمنظمات ككل. وإن منظمات القرن الحادي والعشرين التي أصبح التنافس في الإبداع أحد أهم مميزاتها، تحتاج إلى ثقافة جديدة؛ ثقافة تدعم الإبداع وتنميه.

- هنالك ارتباط معنوي راسخ بين نمط القيادة التحويلية وبين كل من الانتماء المعياري والعاطفي والقدرة على تطوير طرق العمل والرضا الوظيفي للعاملين. وهنالك عَلاقة إيجابية بين السلوك القيادي التحويلي وسلوك المواطنة التنظيمية، وهذا يعني أن السلوك القيادي التحويلي يعمل على حفز الموظفين للقيام بوجوه نشاط خارج نطاق الأدوار الرسمية المطلوب منهم أداؤها. والعلاقة الارتباطية بين السلوك القيادي التحويلي والولاء التنظيمي للعاملين أقوى من العلاقة الارتباطية بين السلوك القيادي التبادلي والولاء التنظيمي للعاملين.

- إن المرؤوسين المرتبطين بقيادة تحويلية يستطيعون التكيُّف أفضل مع التغيير الثقافي، ويتمتعون برضا وظيفي أكبر، ويبقون متصلين بالمنظمة لمدة أطول. إن أسلوب القيادة التحويلية أكثر قدرة على الوفاء باحتياجات المنظمات، لأنه أكثر تأثيراً في طرق العمل من الأساليب التقليدية القيادية، التي تعتمد بشكل رئيس على الجانب المادي في التأثير على سلوك العاملين.

- القيادة التحويلية تزيد من دافعية وإنجاز التابعين أكثر من القيادة التبادلية، ولكن القادة الفاعلين هم من يستخدمون نمطي القيادة التحويلية والتبادلية معاً. كما أن عوامل السلوك القيادي التحويلي، المتمثلة في التأثير المثالي (الجاذبية)، الدافعية الإلهامية، الاستمالة الذهنية والاعتبارات الفردية، لها دور كبير في ترسيخ وتعزيز الثقافة الإبداعية في المنظمة .