في رحيل الدكتورة ثُــريــّا مـلـحــس

في رحيل الدكتورة  ثُــريــّا مـلـحــس

وُلدت ثريا عبدالفتاح ملحس في عمّان عام 1925، حيث تلقت علومها الابتدائية والثانوية قبل أن تستكملها بالقدس في الكلية الإنجليزية. تابعت دراستها الجامعية في بيروت ولندن، والتحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت، وحصلت منها على شهادة البكالوريوس في الأدب واللغة العربيين سنة 1947، بدرجة أولى مع مرتبة الشرف. وفي سنة 1951، نالت شهادة الماجستير مجددًا من الجامعة الأمريكية في بيروت بدرجة أولى مع مرتبة الشرف. كان موضوع رسالتها «أدب الروح عند العرب»، وقد نشرت هذه الرسالة سنة 1964 بعد تنقيحها وتعديلها بعنوان: «القيم الروحية في الشعر العربي قديمه وحديثه».

مارست التعليم الجامعي في بيروت، والتحقت بكلية بيروت الجامعية للبنات (BCW) للتدريس فيها سنة 1952. ثم تابعت دراستها في جامعة لندن، قسم الدراسات الشرقية الإفريقية. وفي سنة 1970، رُشّحت للدكتوراه في الجامعة اليسوعية ببيروت (جامعة القديس يوسف)، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها، فضلاً عن تفرّغها للتدريس، حيث سجلت أطروحتها بعنوان: «كشاجم، عصره، سيرته، آثاره».
ما يجدر ذكره أن هذا الشاعر والعالِم «كشاجم» كان مغمورًا لدى الجميع، ولم يكتب أحد عنه سوى سطرين أو بضعة أسطر، ولكن الباحثة ملحس خرجت من أطروحتها بألف وسبعمائة صفحة بخط يدها. وفي سنة 1981، نالت شهادة الدكتوراه الدولية (فئة أولى) من جامعة القديس يوسف «اليسوعية» في بيروت، وأصبح عنوان الأطروحة: «محمود بن الحسين المعروف بأبي الفتح كشاجم البغدادي في آثاره وآثار الدارسين». وفي سنة 1989، حصلت على رتبة أستاذ (بروفيسور)، وانتقلت من التدريس إلى الإشراف على أطروحات الماجستير والدكتوراه بالجامعة اللبنانية. وفي سنة 1994 صدر مرسوم لها من الجامعة بتمديد عام دراسي واحد لمتابعة الإشراف على أطروحات الدكتوراه بالجامعة نفسها، ولكنها اعتذرت.

40 مؤلفًا ونيفًا
تربو مؤلفاتها المنشورة على الأربعين، وهي تشتمل على كتب عن تاريخ الأدب العربي، إضافة إلى دراسات قصيرة ودواوين شعرية.
في سنواتها الأخيرة وبعد تقاعدها، تركت بيروت لتعيش في العاصمة الأردنية عمّان، وتوفيت يوم السبت 23 فبراير 2013 بعد عمر حافل بالعطاء.
أطروحتها عن شاعر مجهول هو محمود بن الحسين البغدادي المعروف بأبي الفتح كشاجم تقع في ألف صفحة، 60 صفحة منها مراجع. وهي تقول في التمهيد إنها لم تكن تعرف عنه إلا بضعة أسطر، دوّنها كارل بروكلمان في كـــــتـــابه الشهير والمهم «تاريخ الأدب العربي» (Geschichte der Arabischen Litteratur)، وجرجي زيدان في تأريخه للأدب العربي. فــــــــراحت  تجـــــــــــــمـــع مخـــــــطوطات ديوان الشاعر من كل مكان. ثم راحت تحملها معها حيثما رحلت أثناء الحرب اللبنانية لكي لا تضيع أو تحترق. وقد اشتغلت عليها طوال عشر سنوات.
وفي كتابها «القيم الروحية في الشعر العربي قديمه وحديثه حتى عام 1950» الصادر في طبعته الرابعة سنة 2004 عن عمان ويقع في 550 صفحة، تقول إنها استعرضت الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى عام 1950، وهي تقول في تقديمها للكتاب:
«حاولت أن أبيِّن علاقة الأدب بالفلسفة والعلم والدين، لعلي قد حققت بعض غرضي في هذا البحث، أو بلغت شيئًا من غايتي، وألقيت بعض النور على ناحية مظلمة، تكاد تكون مجهولة في الدراسات الأدبية، وهل لي أن أطمح إلى أن يكون بحثي هذا قد ساهم، ولو بعض الشيء، في جلاء القيم الروحية والإنسانية في شعرنا العربي قديمه وحديثه?».
تقول الدكتورة ثريا ملحس عن مجموعتها الشعرية الأولى «النشيد التائه» - بيروت 1949، في مقابلة معها نشرتها جريدة القدس العربي -  لندن 2006: «كنت أكتب شعري من دون طقوس ولا قيود، من دون تسمية له أكتب، وإنما كان شعرًا بلا قيود الأوزان المعروفة. لم يكن هدفي حينذاك أن أتحرر من أوزان الخليل، ولكنني ساهمت في فهم جديد للشعر عن غير قصد. أظن أنني تجرأت على نشر أشعاري في ديوان. لعلها المحاولة الأولى التي لم يسبقني إليها أحد، وذلك منذ سنة 1946. وديواني يضم ما كتبته سنة 1947، لم أتردد، لم أفكر في النقّاد كعادتي. ولم أخف في ردود الفعل، لأنني حقًا لم أفكّر في أي شيء. تلقّاه بعض القرّاء بالقبول الحسن، وبعضهم بالرفض. لم يُقبل على تجربتي أي من النقاد المنظِّرين، لعلهم ظنّوا أنها محاولة غير جديرة بالتحليل والاكتشاف! لم آبه للملاحظات المقبولة أو غير المقبولة، بل تابعت الكتابة الشعرية منذ ذلك الزمان حتى الآن، مع تطوّر في الشكل والمضمون».
تقول في كتابها «المرأة العربية إلى أين؟»: «أنا المرأة العربية من المحيط إلى المتوسط إلى الخليج مغلوبة على أمري، مقهورة في حياتي، أحمل عبء جاهلية الرجل ومقاييسه القبليّة. أحتاج إلى منبر حرّ يوصل صوتي إلى المحيط فالمتوسط فالخليج، لكي أعيد إلى نفسي إنسانيتي، وحقي المسلوب قسرًا».
تقول في «يا أنت يا لبنان! أشكو إليك» في كتابها «كلام مستمر عبر الأيام والسنين» الصادر سنة 2008 في عمان، ويقع في 700 صفحة، تقول (ص 395):
«لم يبق لنا إلا أنت يا الله.
وأنت يا لبنان.
أركع لك يا الله. أركع لك يا ربّنا. فيا لبنان. يا وطنًا. يا ترابًا. يا أرزة. يا بحرًا، يا صحراء صافية.
يا ضلعًا من عروبتي، يا وترًا صافيًا في المنحنى. يا أخًا. يا عزًا بين الشقيقات.
يا ناصرًا للحق.
أركع لك يا الله. أركع لك...
أنا خجلى يا لبنان من المقاتلين.
خجلى من المقتولين. من ضحايا الغباء والموتورين.
أخاطبك وحدك أنت. أنت وحدك أخاطب يا لبنان.
اخترتك وطنًا ثانيًا ولم أسأل يومًا عن دينك.
لأن هويتك العربية ما غادرت يومًا قلبك.
.. يا بلد الأرز والسنديان والجبال الشامخة».

صديقة الكتاب
وعرفت المرحومة الدكتورة ثريا ملحس عن قرب، جمعتنا مهنة التدريس في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الفرع الأول، وصداقة وقرابة تربطني بزوجها المرحوم الأستاذ موسى سليمان. كنت أزوره وأزورها في منزلهما في الطابق الخامس بشارع متفرّع من شارع ماري كوري (فردان). على باب الشقة جرسان، واحد يحمل اسم ثريا ملحس وآخر يحمل اسم موسى سليمان. فإذا كنت تقصدها فعليك أن تقرع الجرس حيث اسمها. وإذا كنت تقصد الأستاذ موسى سليمان فعليك أن تقرع الجرس حيث اسمه. ما زرتها يومًا إلا وفي يدها كتاب تقرأ فيه أو قلم تكتب مقالاً أو بحثًا. حياتها كلها كانت جهادًا وعطاءً.
كان الصديق المرحوم الدكتور أنيس صايغ يحمل لي كتبها ورسائلها عندما يعود من عمّان. وكان كذلك يحمل إليها رسائلي وكتبي.
يقول الدكتور وليم الخازن في رسالة أرسلها إليها يتناول كتبها «أراقيم معلّقة على مقبرة الكون»: إنني أشهد أن الأكاديمية الكبيرة، صاحبة الدراسات الأصيلة المفيدة، الدكتورة ثريا ملحس، في كتابها هي أديبة كاتبة شاعرة. يحوك القلم تحت أناملها الساحرة صورًا خلاّقة، ورؤى برّاقة، لا أجمل ولا أروع، لصيقة بأعماق مشاعر الإنسان وخياله. إنها البراءة بعينها، تلك التي قصدها الشاعر الألماني هولدرلن بقوله: «الشعر هو براءة العالم».
رحم الله الدكتورة ثريا ملحس التي نتذكّرها اليوم فنحاول أن نوفيها بعض حقها.