اللغة حياة: أسلوبا العطف العربيّ والمتأثّر بالغرب

اللغة حياة: أسلوبا العطف العربيّ والمتأثّر بالغرب
        

          من المعروف أنّ العرب لم يتأثّروا بالغرب في العلم ونقل المصطلحات فحسب، بل تأثّروا كذلك بأسلوبه في صوغ الجمل. ومن الأشياء اللافتة أنّ كثيرين اتّبعوا الطريقة الغربيّة، لاسيما الفرنسيّة، في العطف بالواو، فخلطوا بين المحلاّت الإعرابيّة والوصل والفصل في الجمل، مع أنّ من البلاغة معرفة هذين، وكان القدماء يعدّون استعمال أحدهما مكان الآخر «أَعْيَب من اللحن»، وهو في الحقّ لحن صرف، على ما سنراه في هذه المقالة ومعروف أنّ العرب تعطف بالواو الظاهرة كلّ ما تريد الجمع بينه وبين شيء آخر في الحكم والإعراب جمعًا مطلقًا، نحو: سعيدٌ وخالدٌ، ونحو: جاءَ الشتاءُ وهطَلَ المطرُ. فإذا استُغني عن الواو بين المفردات، كنا إزاء توكيد أو بدل أو تركيب وصفيّ، وإذا استُغني عنها بين الجمل كنا إزاء فصل، وهو ضدّ الوصل،  وذلك موضوع سنعود إليه يومًا.

          لكنّ من معاصرينا المتأثّرين بالأساليب الأجنبيّة من يترك الواو في غير ما تركته العرب، فيجعل المعاني تلتبس. ففي الفرنسيّة، مثلًا، يعطفون الكلمات المتوالية بالفاصلة، ولا يذكرون حرف العطف إلا قبل آخر معطوف منها، فبدل أن يقولوا، مثلًا: ركب سليمٌ وكريمٌ وحسنٌ السيّارة، يقولون: ركب سليمٌ، كريمٌ، وحسنٌ السيارة. وقد اتّبعهم بعض العرب في ذلك، فأدّى الأمر إلى عجائب، كأن يقال مثلًا في بعض نشرات الأخبار: أدانت مصر، السعوديّة والأردن العدوان على غزة، فإذا سُكّنتْ أواخر الكلمات، وهو الغالب في كلام المذيعين، ولاسيّما في نشرات الأخبار، نشأ عن ذلك أنّ مصر دانت السعوديّةَ والأردن، وبدت كلمة العدوان منقطعة عمّا قبلها، وإذا أوغلنا في التأويل، عددنا تلك الكلمة مفعولًا غير صريح، منصوبًا على نـزع الخافض. وإذا حُرِّكت الأواخر، وهذا نادر في وسائل الإعلام، اضطرب المعنى في ذهن العربيّ وظنّ في الأمر خطأ، هو رفع كلمة السعوديّة بدل نصبها، لأنّه لا يتوقّع أن يكون في الجملة أكثر من فاعل واحد، مفرد أو مثنّى أو جمع، وليس من فاعلين لفعل واحد عند العرب أبدًا، بل قد يُعطف على الفاعل ما يكتسب حكمه الإعرابيّ، ويزيد الاضطراب بعد رفع كلمة الأردنّ التي لا يستطيع العربيّ أن يعرف موقعها من الجملة ولا محلّها من الإعراب. وذلك الأسلوب قلّما يُفهم، وربّما فهمه من كان معتادًا الكلام الأجنبيّ، وتَذكّر طريقة العطف الفرنسيّة، وهو شيء لا يحدث، غالبًا، إلاّ بتكلّف وإعمال للفكر، يقطع تفكير المستمع عن النشرة الإخباريّة أو غيرها.

          لكنّ العرب يتركون الواو فيما يسمّيه النحويّون صفات متعدّدة أو متكرّرة، ونحن نفضل تسميتها بالمتلازمة، لأنّها بمنزلة الصفة المركّبة، نحو: فلان رجل مؤمنٌ صادقٌ ورِعٌ، أي أنّه يجمع الإيمان والصدق والورع معًا، وأنّ هذه الصفات ليست عارضة فيه بل ثابتة، أو شبه ثابتة. وتكون الصفات المتلازمة ألفاظًا مفردة بسيطة، كالذي في المثل المتقدّم، أو مركّبات إضافية، نحو: كان الملاكم طويل القامة، واسع الصدر، ضخم العضلات.

          وهنا لطيفة، وهي أنّ من عادة العرب، إذا حذفت الواو الواقعة بين اسمين، أن تمزج بينهما وتجعلهما مبنيّين، كما مر في مقالة سابقة، وذلك في مثل الأعداد المركّبة، كخمسَ عشرةَ (أصلها: خمسٌ وعشرٌ)، والظروف المركّبة، كليلَ نهارَ (أصلها: ليلًا ونهارًا). لكنّها في الصفات المتلازمة لم تلجأ إلى البناء، مع حذفها الواو، وهذا يثير قضيتين هما: سبب تركها الواو خلافًا للقاعدة، وسبب إعرابها الطرفين بعد الحذف، أما السبب الأوّل  فهو أنّ ترك الواو عند تلازم الصفات أشبه بتركها في الفصل بين الجمل التي يكون بينها اتّصال تامّ، وأما السبب الثاني فهو أنّ التركيب المزجيّ يكون عادة بين اسمَيْ ذاتٍ، في ما نعلم، لا بين صفتين، فلذلك كان تلازم الصفات خارج احتمال المزج.

          والعرب لا يتركون الواو بين المفردات المعطوفة إلاّ في هذه الحالة، في ما نعلم، وفي عطف البيان الذي نعتبره مصطلحًا غير دقيق، لأنّه ليس عطفًا، وقد نعرِض له في مقالة قادمة.

          لكنّ المعاصرين ابتكروا طريقة في العطف تجمع بين العطف العربيّ والعطف الأجنبيّ، وذلك في شبه ما سمّاه البديعيّون الموازنةَ، يعنون تساوي الفاصلتين، أي الجملتين المتجاورتين، في الوزن، ويريدون التقارب الوزنيّ لا التساوي بالضرورة، كما في الآيتين الكريمتين: وَنَمارِقُ مَصْفوفَةٌ، وَزَرابِيٌّ مَبْثوثَةٌ . فقد عرّى بعض المعاصرين الجملَ المتوازنة من العطف، وذلك  في مثل قول الشاعر السودانيّ محمد الفَيْتوريّ في مقدمة ديوانه: «ومن دون الاتّحاد الكامل بين عُنصرَي: الإيقاع والشكل، الرمز والصورة، الروح والجسد، تفقد الكلمة الشعريّة فعاليّتها»، حيث وازن بين الثنائيّات الواقعة بعد كلمة «عُنصرَي»، من غير أن يعطف تلك الثنائيات بعضها على بعض بالواو. ولعلّ السبب في ذلك أنّ كلّ واحدة من هذه الثنائيّات تشتمل على عطف داخليّ، وكأنّ الفيتوريّ يتحاشى كثرة العطف. لكن قد يقال إنّه أراد رفع اللبس، لأنّ ظهور حرف العطف بين تلك الثنائيّات يفقدها معنى الثنائيّة، ويجعلها معطوفات مفردة، وهذا الزعم مردود، لأنّ الفاصلة بين كل ثنائيّتين، هنا، كفيلة بإظهار ثنائيّتهما. والسؤال: هل يمكن إقرار هذا  الأسلوب في العطف؟

          إنّ في القرآن الكريم ما قد يسمح بذلك، ففي كثير من سوره آيات متوازنة، متّصلة المعنى، وذلك ما يسميه البلاغيون تناسبًا، ومع هذا تُركت فيها الواو العاطفة، أي أُخضعت الجمل للفصل، ومثال ذلك الآيتان الثالثة والرابعة من سورة الرحمن: خَلَقَ الإنْسانَ. عَلَّمَهُ البَيانَ ، والآيات الثلاث الأولى من سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . واللافت في سورة الإخلاص، أنّ العطف تُرك بين الجمل الثلاث الأولى منها، واستُعمل في الرابعة، أي الأخيرة وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، وهي الطريقة التي يتّبعها الفرنسيّون اليوم، لكن ذلك لم يجْر في القرآن إلاّ على الجمل المتوازنة، لا على الكلمات المفردة، إذا صحّت ملحوظتنا.

          وقد يحاكي المنشئون طريقة الغربيّين بغير ذلك، لكن بأسلوب مفهوم، ولو أشعروا بقليل من العجمة، كقول الشاعر محمود أمين العالم في مقدّمة أحد دواوينه، متكلّمًا على التجديد الشعريّ: «إنّما هو في البناء الداخليّ للقصيدة، في سيادة التعبير بالصورة البنائيّة النامية». ولا شكّ في أنّ العطف بالواو هنا أجمل وأصحّ.

          والخلاصة أنّه لا يجوز محاكاة الأساليب الأجنبيّة إلاّ بحذر، تحاشيًا للعجمة وفساد المعاني، وأنّ من العبارات المعدودة أجنبيّة ما له أصل عربيّ، لكنّ استعماله يقتضي عدم اتّخاذه ذريعة للخروج على طبيعة اللغة، واللجوء إلى محاكاة غير مسوّغة.
------------------------------
*  أكاديمي من لبنان

 

 

مصطفى علي الجوزو*