سليمان الشطِّي.. وتاريخ الشعر في الكويت
يتمتع الدكتور سليمان الشطي بمكانة إبداعية وعلمية رفيعة، من خلال مجموعاته القصصية: «الموت الخافت»، و«رجال من الرف العالي»، و«أنا.. الآخر»، وروايته «صمت يتمدد» التي تغوص بنا في أعماق ماضٍ برع الشطي في تصويره وإبداع جمالياته، أو كتابه «الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ»، الذي أصبح مرجعًا أساسيًا لكل من يدرس أدب صاحب «نوبل» في جامعاتنا العربية.
وأرجو ألا يُفهم كلامي على أن سليمان الشطي اقتصر على السرد فقط في إبداعه ونقده، فقد أولى الشعر، أيضًا، اهتمامًا بحثيًا جادًا أنتج كتابه «المعلقات وعيون العصور»، وهذا الكتاب الذي نتوقف اليوم أمامه «الشعر في الكويت»، الذي يعد تأريخًا لحركة الشعر في هذا البلد منذ المحاولات الأولى لـ«عثمان بن سند» أحد علماء الكويت، الذي توجه لقرض الشعر، وبقيت منه قطع منشورة تحدد هذه البدايات التي استمرت بعد ذلك من خلال خالد العدساني وعبدالله الفرج، اللذين برزا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ الأول الذي ينتمي إلى الوسط الديني والتعليمي، مثل مثقفي عصره، ممن انصرفت أشعارهم إلى تسجيل الأحداث وتأريخها، والفرج الذي كان علامة في تاريخ الفن الموسيقي في الكويت، لكنه عندما اقترب من شاطئ القصيدة لم يحفر عميقًا فيه، إذ إنه التصق بالتيار السائد في الشعر العربي آنذاك.
ومع انبعاث روح النهضة، في مطلع القرن العشرين، بدأ يظهر جيل تال من الشعراء كان همه مد جسور التواصل مع الأمة وقضاياها، من أبرز رموزه صقر الشبيب، الذي يصف الشطي شعره بأنه: «اتسم بهذه السمة من سمات التغيير والخروج من إسار الشعر السائد، كان يملك توجهًا معاكسًا لواقع الشعر، ففي توجهه عودة إلى منطقة منابع الشموخ والتميز في الثقافة العربية، أدار نظره إلى الرصيد التراثي، وكانت عواطفه وميوله أقرب إلى الشعراء المتأملين». وخالد الفرج الذي نحا في شعره نحو التجديد، فاستخدم أشكالًا وأجناسًا شعرية مستحدثة من دون أن يفقد صلته بنظام القصيدة الموروث. ولقد كان للشعراء الذين يعملون بالتدريس والفقه دورهم أيضًا في هذه النهضة الشعرية، مثل: راشد السيف ومحمود شوقي الأيوبي، اللذين نزعت أشعارهما منزعًا تربويًا توجيهيًا غلبت عليه النصيحة والدعوة إلى مكارم الأخلاق، بلغة قريبة تستخدم المفردات السهلة المتداولة.
لكن مع إطلالة ثلاثينيات القرن العشرين، كانت ثمار جهود العقد الذي سبقه قد نضجت، لتصبح الساحة الشعرية الكويتية على موعد مع نقلة جديدة للشعر، كان الشاعران فهد العسكر وعبدالمحسن الرشيد بطليها؛ فالأول برزت في أشعاره الأحلام السامية التي تحلِّق في أجواء الحب المثالي، في إطار حسي من ذوبان في متعة الجسد إلى درجة الإفراط أحيانًا، كأنه يتعمد مواجهة تقاليد بالية تحرِّم هذ الحب الكائن بين امرأة ورجل، وإسقاط المقدس من عليائه في وسط تحكمه مسلمات سلفية تصادمه. أما الرشيد فكانت أشعاره مهتمة بالطبيعة، ومستعذبة للألم، مما جعلها ذات نكهة خاصة به، فلا هي أشعار تقليدية إحيائية، ولا هي خالصة للرومانسية، وإنما موزعة بين ذاته وسخطه الخاص ونقاط الاصطدام مع مجتمعه. ويشير المؤلف الدكتور سليمان الشطي إلى أن شعراء جيل الأربعينيات، استكملوا الخط الذي بدأه الجيل السابق، المهتم بالقضايا القومية تحديدًا، فقد برز شعراء القصيدة السياسية ذات الدعوة المباشرة، التي تقدم شعر التحفيز والحماسة والمنابر السياسية، رافعين الدعوة القومية شعارًا وشعرًا، جامعين بين العمل السياسي والاجتماعي المباشر والكتابة النثرية، ومن ثم جعل الشعر وسيلة أصيلة من وسائل هذه الدعوة، وكان أحمد السقاف وعبدالله سنان وعبدالله زكريا الأنصاري ومحمد المشاري وعبدالله حسين من أبرز شعراء هذا الجيل.
الانفتاح على العالم
وفي الخمسينيات تشكل جيل جديد، شرب من معين التفتح الفكري الذي لازم اكتشاف البترول في الكويت وتصدير أولى شحناته، كما أن ثمار البعثات التي أرسلت في العشرينيات إلى بغداد والقاهرة وبيروت، وبعض عواصم الغرب، كانت قد آتت أكلها، ليكمل المشهد صدور عدد من المجلات الجديدة التي ستحتضن هذه التجارب الجديدة، مثل مجلة «البعثة» في القاهرة، ومجلات أخرى في الكويت وبيروت، وكان أحمد العَدَواني وعلي السبتي من أهم شعراء هذا الجيل؛ كان العدواني صوتًا شعريًا بارزًا، متفردًا بسمات خاصة به، يطمح إلى تجاوز ما وصل إليه سابقوه، متشوقًا إلى المثل الأعلى في كل شيء، مراقبًا مخلصًا لمسار حركة الحياة والفن، يتأمل ويستوعب ويتفاعل، ثم ينهمر إبداعًا، لكن وإن كان العدواني شاعرًا حداثي النظرة، فإن القصيدة الكويتية لم تدخل مرحلة الحداثة بشكل جاد إلا بأشعار السبتي، وبالتحديد، بقصيدته «رباب»، التي كانت عبارة عن نغمة فريدة، تنتمي فى مداخلها وزوايا الرؤية فيها ولغتها وهيكلها الشعري إلى هذا الجديد الذي أخذ يطرق أبواب الشعر العربي عمومًا بقوة.
ومع حقبة الستينيات، والانفتاح الكويتي الواسع على العالم، وتسارع التنمية فيها، وقيام دولتها الحديثة، كان من الطبيعي أن يُحدث هذا أثرًا نوعيًا قويًا في حركة الشعر، فتقدم إلى الصدارة جيل جديد، مثَّله كل من خالد سعود الزيد وخليفة الوقيان وعبدالله العتيبي ومحمد الفايز، لينضم هذا الجيل إلى المجددين من شعراء الحقبة السابقة، مع رغبة حقيقية في استيعاب كل التيارات السائدة في ساحة الشعر العربي آنذاك.
واستمر نَفَس الستينيات حاضرًا في العقدين التاليين، رغم بروز تغييرات فرضتها مرحلة ما بعد النكسة، وبدء تنحي المشروع القومي، فقد ظل المجال الشعري قادرًا على استقطاب كل جديد، لتبزغ أصوات جديدة، منها صوت المرأة الشعري، الذي بدأ يصدح بقوة، وانفتحت الساحة تمامًا لكل صاحب تجربة تستجيب لمستجدات الشعر، ومستوعبة لتاريخه، وكان الشاعران يعقوب السبيعي وسليمان الخليفي هما أبرز من مثَّلا هذه المرحلة من الشعر في الكويت.
وفي الفصل السابع، المعنون بـ«المرأة تتقدم»، من هذا الكتاب الصادر عن مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع بالكويت، يقول الدكتور سليمان الشطي: «وفي الستينيات من القرن الماضي، ومع حركة النهضة الجديدة، بدأت تطل بعض الأسماء، بمقطوعة هنا وأخرى هناك، منهن من اكتفين بمقطوعة واحدة، ومنهن من واصلن الكتابة ثم توقفن، بعضهن اخترن أسماء أو صفات يتخفين وراءها، والبعض الآخر هجر الشعر بعد نشر متقطع، ليعود إليه فيما بعد مثل خزنة بورسلي وحصة الرفاعي، ومنهن من هجر الشعر إلى فنون أو مجالات أخرى، مثل ليلى العثمان وكافية رمضان». ويستدرك المؤلف: «شهدت حقبة السبعينيات نقلة نوعية في الشعر النسائي الكويتي، فقد بدأت المرأة تدخل مجال الشعر بقوة، ليس في صورة محاولات أولية أو رغبة مؤقتة عابرة، ولكن بتصميم وثبات ووعي شعري متطور، فبدايات شاعرات هذه الحقبة فيها إشارة إلى الوعي والتصميم على الاستمرار، وخير من يمثل هذه النهضة الشعرية النسائية أربعة أسماء تقارب زمن نضجها، وتجاورت مراحل صعودها واستمرار عطائها، وهي سعاد الصباح ونجمة إدريس وجنة القريني وغنيمة زيد الحرب.
وظلت الحركة الشعرية الكويتية تتقدم، تجدد القديم عبر شعرائها فاضل خلف ويعقوب الرشيد وعبدالرزاق العدساني ورجا القحطاني ويعقوب الغنيم وعبدالعزيز البابطين وخالد الشايجي ووليد القلاف؛ ليتقدم جيل جديد ويقبض على هذه الشعلة الإنسانية المضيئة، سالم خدادة وصلاح دبشة وإبراهيم الخالدي ونشمي مهن»، ولتظهر شاعرات جديدات يغرِّدن خارج السرب، مثل عالية شعيب وفوزية السالم، ثم شعراء ما أسماه الدكتور الشطي بالنص المجاور: سعدية مفرح ودخيل خليفة.
ليشهد العقد الأخير من القرن العشرين، وما تلاه، زخمًا شعريًا مهَّد لبداية مطلع قرن جديد، وجيل من الشعراء: عبدالعزيز النمر ومحمد هشام المغربي وعلي حسين محمد وحمود الشايجي وسعد الجوير وماجد الخالدي وعامر العامر وسامي القريني وحوراء الحبيب؛ جيل جديد يتشكل مساره منسجمًا مع إمكانات شعراء عصره الحديث، الذين يجمعهم الاتكاء على تجارب القصيدة العربية قديمها وجديدها، معتمدين على الأشكال المعاصرة التي تعد منهلًا غنيًا يحتوي هذه المحاولات ويرفدها، بزخم، نحو خصوصياتها.