خمسة أحلام

خمسة أحلام

بيت العمة
بيت عمتي الكبرى أقرب إلى كوخ من القش والطين والحطب وقليل من الألواح الخشبية. كان يبعد عن بيتنا عدة كيلومترات. 
كان الطريق متعرجًا، تقابلني فيه شجيرات ياسمين، وتلال رملية وأجمات الحشائش والغاب. عبرت جسرًا خشبيًا قديمًا، كان العلامة الوحيدة أنني اقتربت من بيت العمة ولم أضل الطريق.
لا أدري لماذا اختارتْ العمة بيتًا بعيدًا عن الناس والبيوت الأخرى. يقـــع وحده وسط مساحة هائلة من الأشجار وأراضي الأرز الأخضر!
وجدت الباب الخشبي المتآكل مواربًا كالعادة. دفعته بيدي فأصدر صريرًا بطيئًا ولفحتني نسمة هواء رطبة آتية من الداخل. الغرف كلها كانت بلا أبواب، مفتوحة على العتمة. لم أجرؤ على دخول أي واحدة منها.
وقفت حائرًا في الصالة. أذكر خلف باب الصالة كان ينام لسنوات ابنها المعاق. سمعت صوت الشيخ ياسين التهامي يأتي من مكان ما، أو من ذاكرتي لا أدري:
وإن فاتني قـــرب الأحبة واللقـــا 
 ففي ذكــرهم أنس لوحشــة خاطري
ألقيت بجسدي على أرضية الصالة التي لعبت فيها طفلًا في عرائس بنات عمتي.
بكيت طويلًا إلى أن غفوت. 

 تووووووووووووووووت

كنتُ قطارًا. أدفع رأسي بسرعة فائقة إلى الأمام مثل «التوربيني» فيجر خلفه كل جسدي الممتد. أحرك يدي ورجلي بطريقة آلية على طريقة قطارات البخار في الأفلام القديمة. كنتُ أصدر صوتًا منغمًا من فمي إلى مؤخرتي مثل صافرة القطار الطويلة وهو يستعد لدخول المحطات: «تووووت... تووووووت.. توووووووت». أصدره بكل قوة حتى وإن لم تظهر لي محطة.
على فترات معينة كنت أتوقف وألتقط أنفاسي، فيهبط ركاب ويصعد ركاب.
في لحظة من تلك اللحظات قفزت قطتي البيضاء من النافذة ولم تعد. وبسبب السرعة الفائقة واندفاع الهواء عبر النوافذ طار أيضًا الدفتر الذي كنتُ أسجل فيه يومياتي وفقدته إلى الأبد. طارت ساعة يدي وخاتم جدي الذي ورثته بعد وفاته.
ورغم أنني كنت أتوقف في فترات معينة، لم يكن باستطاعتي أن أتوقف لألتقط كل هذه الأشياء التي سقطت مني. أكثر ما آلمني أن الفتاة التي أحببتها وتواعدنا على اللقاء، وصلت متأخرة دقيقة واحدة إلى المحطة بعد أن غادرتها. أي قوة في الكون قادرة على أن تعيد هذه الدقيقة إلى الوراء أو أن تسحب رأسي المندفع بعنف من الأمام إلى الخلف؟!
لعلها مازالت تجلس في مكانها المعتاد على رصيف المحطة تنتظر مروري، ومن يدري ألا تكون قطتي البيضاء أيضًا نائمة في حجرها؟!
من بعد هذه الدقيقة الواحدة، لم تعد «توووووووووووت» التي أصدرها مثل «توووووووت» التي كنت أطلقها من قبل.

التحديق في اللمبة

وجدتني عالقًا في مصعد معدني.
على يساري لمبة كمثرية تومض وتنطفئ آليًا. تحتها مباشرة ورقة صغيرة ملصقة. مكتوب عليها بخط رديء:
«عائلة فقدت عائلها ولا تقدر على دفع إيجار السكن.. رقم التلفون 690403»
لوحة أرقام الطوابق المعدنية كانت أسفل يدي اليمنى. وصلت إلى الطابق السادس وظل الباب مغلقًا. عاودت الضغط بطريقة عصبية فهبط المصعد بي إلى الدور الأرضي.
الباب الحديدي السميك مغلق كما هو. كنت أقف في عتمة الجانب الآخر من اللمبة. ضغطت على أرقام طوابق عشوائية والمصعد يهبط يصعد، اللمبة تنطفئ تومض. رحتُ أحدق فيها كي ترسو على حال. إما أن تومض فقط أو تنطفئ فقط. بالكاد كانت تضيء ما حولها. لا شعوريًا وعندما توقف المصعد في الطابق الثالث ضغطت بطرف سبابتي على زجاجها المشع الساخن، فانفتح الباب. خرجت مسرعًا فلم تعثر قدمي على طريق.

غصن صفصاف

كنت أسير ليلًا بمحاذاة النيل. على مسافات بعيدة أضواء خافتة لا يبين مصدرها. رغم العتمة كنتُ أرى بوضوح جريان النيل واندفاعه الصاخب شمالًا. كان يجرف كل شيء في طريقه. وكان للمياه لون غامض مزيج من السواد ولمعان ضوء القمر.
أين اختفت كل الجسور المؤدية إلى الضفة الأخرى؟!
 وسط اندفاع المياه لمحت طفلًا في سن عشر سنوات كان يسبح وحده عكس التيار ويطفو في ما يشبه المعجزة مستعينًا بغصن صفصاف أخضر.
قفزتُ في المياه كي أسبح مثله.. انتبهت: لا غصن صفصاف في يدي!

على باب المهرجان
ظللت واقفًا بجوار الباب الرئيسي للصالة. اقتربت مذيعة متوسطة الطول تلف رأسها بحجاب عصري وتطلي وجهها بمجموعة سخية من الألوان.
سألتني بلغة فصحى: ما رأيك في المهرجان؟
قلت لها متصنعًا الجدية: المهرجان لم يبدأ بعد يا سيدتي!
قالت: نفهم من ذلك أن هذه الدورة ستكون أفضل؟
لم أجد على لساني كلامًا أرد عليها، فمددت إصبعي السبابة والإبهام مثل كلّاب وأطبقت بهما على شفتيها.