د.الطاهر مكي وخالد بيومي... «طوق الحمامة».. تشريح علمي لعاطفة الحب

د.الطاهر مكي وخالد بيومي... «طوق الحمامة».. تشريح علمي لعاطفة الحب

الدكتور الطاهر مكي ناقد ومؤرخ وأكاديمي مرموق وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يعمل أستاذًا للأدب والنقد في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وقد نظر إلى التراث بعين ناضجة وجريئة تعشق التراث ولا تقدسه، بل تُخضعه للتحليل المحب الحريص، تحليل غني آسر فاتن، ممتلئ بالشغف والحماسة، ويعد رائد الأندلسيات بامتياز في عالمنا العربي، حيث نقل كنوز الأدب الأندلسي والحضارة الإسلامية في الأندلس إلى اللغة العربية، فحقق كتاب طوق الحمامة لابن حزم الذي ترجمته الـ«يونسكو» إلى كل لغات العالم وآخرها اللغة اليابانية، وملحمة السيد، مع شعراء الأندلس والمتنبي، الحضارة العربية في إسبانيا، وهو ترجمة لكتاب المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال، والفن العربي في إسبانيا وصقلية، وهو ترجمة لكتاب المستشرق الألماني فون شاك، التربية الإسلامية في الأندلس، وهو ترجمة لكتاب المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا، والشعر الأندلسي في عصر الطوائف، وهو ترجمة لكتاب المستشرق الفرنسي هنري بيريس، والأدب الأندلسي من منظور إسباني..  دراسات لكبار المستشرقين الإسبان، ابن حزم القرطبي، وهو ترجمة لكتاب المستشرق الإسباني الكبير أسين بلاثيوس، وتحقيق كتاب «تحفة الأنفاس وشعار سكان أهل الأندلس» لابن هذيل الأندلسي..رسالة في الجهاد ونظم الحرب في الإسلام. كما قدم تصورا متكاملا لعلم الأدب المقارن في كتابه الشهير «الأدب المقارن.. أصوله وتطوره ومناهجه» في ضوء المتغيرات التي أصابت عصرنا، والإفادة من تفجر المعرفة حولنا. 

وهناك أيضا كتابه «امرؤ القيس..  حياته وشعره» يعد عمدة في مجال الأدب الجاهلي. كما قدم للثقافة العربية الشاعر العالمي بابليو نيرودا..  شاعر الحب والنضال عام 1974. وفي مجال النقد الأدبي قدم: «القصة القصيرة..  دراسات ومختارات»، «الشعر العربي المعاصر.. روائعه ومدخل لقراءته»، «مناهج النقد الأدبي». الكاتب الصحافي خالد بيومي، الصحافي 
بـ «روزاليوسف» التقاه وجها لوجه، فكان هذا الحوار:
-المثقف لا يظهر فجأة، أو من فراغ، وإنما هو نتاج بيئته والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.. حدثنا عن نشأتك وروافد ثقافتك؟
- ولدت في العام 1924 في قبيلة تسمى «المطاعنة» التابعة لمركز إسنا (محافظة الأقصر) الآن. وكانت القرية فيها ما فيها من دور التعليم، وكان هناك نوعان من المدارس: مدرسة إلزامية وكانت أدنى درجات المدارس، ليس هناك ما تحتها سوى الكٌتّاب، ومدرسة أولية، وكانت تتبع مدارس المديريات وكانت الأرقى. ولكن قريتنا كانت محرومة حتى من المدرسة الإلزامية، وما بين الكُتّاب والمدرسة الإلزامية أمضيت طفولتي. وكان والدي وجيها بالقرية وفلاحا يرأس العائلة ويوجهها ولكنه أعطاني قدرا كبيرا من الحرية، ما كان الآباء الآخرون يعطونه لأبنائهم.. لا أذكر أنه فرض علي نوعا من الصداقة، أو نوعا من العمل أو القراءة، وترك لي مطلق الحرية، وكنت معفي تماما من  العمل بالحقل، وكنت متفرغا للكُتّاب أو المدرسة وكنت أحضر موالد الأولياء والصالحين في القرية ومولد «مارجرجس» بمركز إسنا.. وكانت هناك نسخة واحدة من صحيفة الأهرام هي التي تصل إلى القرية يشترك فيها رئيس النقطة، وهو في رتبة شاويش وعمدة القرية الذي تعلم القراءة والكتابة في سن متقدمة حتى يُقبل ترشيحه للعمودية، وخالي كان الشخص الثالث وكان ثاني اثنين في القرية يجيدان القراءة والكتابة، وبعد أن يقرأ الصحيفة يرسلها إلى ديوان العمدة الذي لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت الصحيفة تؤول إليَّ كما كنت أستمع إلى السيرة الهلالية ليلا بديوان العمدة، وأطالع مجلة صغيرة اسمها «الإسلام» وكان ثمنها خمسة مليمات، ويكتب فيها علماء الأزهر شرح الأحاديث وخطبة الجمعة، وكان خالي يقوم بشرائها كل خميس من السوق وينتهي أمرها إليّ. وأعطتني صورة سيئة عن القاهرة لأن كل الخطب التي فيها تتحدث عن الفساد والانحلال الأخلاقي والنساء السافرات وتصور القاهرة على غير حقيقتها باعتبارها «ماخورا» كبيرا.
-كيف جاءت فكرة السفر إلى إسبانيا والتخصص في مجال الأندلسيات؟
- تخرجت في كلية دار العلوم عام 1952، نفس العام الذي قامت فيه ثورة يوليو، ولما قامت الثورة أخبرنا المسئولون أنه لا يوجد تعيين معيدين لأنه لا توجد ميزانية، وكان ترتيبي الثاني في الليسانس الممتاز، فلم أعين لا أنا ولا الأول ولا الثالث، وكنت مصمما على ضرورة عبور البحر ولو على نفقتي الخاصة، وكنت قد عملت مدرسا بوزارة التربية والتعليم، وقد أغلقت أبواب البعثات المتجهة إلى إنجلترا وفرنسا, لأنهما هاجمتا مصر عام 1956 ضمن العدوان الثلاثي، ولا يعقل أن نتحدث عن أمور البعثات وبورسعيد محتلة. وبعد ذلك بدأت العلاقات تتحسن مع إسبانيا. وقرأت بالصدفة إعلانا في صحيفة البلاغ  عن منحة مقدمة من الحكومة الإسبانية لدراسة اللغة الإسبانية، وتقدمت للامتحان، وكان ضمن أعضاء اللجنة المستشار الثقافي الإسباني في القاهرة، الذي اطلع على شهادة الليسانس الممتاز، فقال لي على الفور: مبروك سوف تسافر إلى إسبانيا. وسافرت إلى معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، ولم يكن أحد في المعهد سوى المرحوم الدكتور محمود مكي وكان وكيلا للمعهدآنذاك وكان 
مشغولا ببعثة رعاية الشباب التي كانت تحت رعاية عبدالمنعم النجار الملحق العسكري اللامع، الذي عرف بأنه صاحب كلمة نافذة، كما تولى رعاية هؤلاء الشباب وكان أبرزهم الفنان الكوميدي الراحل أمين الهنيدي، وجاءوا ليدرسوا كيفية تقديم الخدمات الاجــــتماعــــية والرياضية للشباب، ولم يكن لدى د. محمود مكي وقت لكي يهتم بغير من يهتم بهم الملحق العسكري. وقابلت المرحوم لويس فلسطين شقيق الكاتب والمترجم المعروف وديع فلسطين، الذي حصل على منحة لدراسة فن النحت، وأخبرني بأن أعظم المستشرقين هو جارسيا جومز، وذهبت لمقابلته، وشعرت بجهل فظيع، على الرغم من أنني كنت قد أعددت نفسي جيدا، فسألني: هل قرأت كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، ولم أكن قد سمعت به من قبل، فصمت. وسألني عن المكتبة الأندلسية والتي كانت تضم عشرة كتب ولم أسمع بها، فقال لي اذهب واقرأ كل هذه الكتب، وعندما تفرغ منها سوف أقابلك.
لكن جارثيا جومز لم يكمل المشوار معي لأنه عُين سفيرا لإسبانيا في العراق، ثم لبنان، ثم تركيا. وكانت أمنيته أن يُعيَّن سفيرا في مصر، لكن مصر كانت من نصيب السفراء المحترفين من كبار البيوتات آنذاك، فقد كانت مصر قوية في الحقبة الناصرية. وأكملت المسيرة مع أستاذ آخر حل مكان جومز في رئاسة قسم اللغة العربية بمعهد الدراسات الإسلامية بمدريد وهو الدكتور إيليا تيريس، وكان أستاذا ذواقة يحب رقص الفلامنكو والغناء ومتخصصًا فيهما، وأعددت معه أطروحتي للدكتوراه وكانت بعنوان: «الفقه والفقهاء وأثرهما في الحياة الأندلسية.. في الثقافة والسياسة». 
-كيف جاءت فكرة تحقيق كتاب «طوق الحمامة»..  وهل يصلح دستورا للعشاق في هذا الزمن؟
- لـــــقد أحـــسـست بالنقص الشديد في مــناهجــــنا الــــدراسية، وأدركت أن هذا الكتاب العظيم كان مهملًا وغير محقق، كما أنه مليء بالأخطاء، والبعض يعتقد أنه يتحدث عن الحب فقط، ولكنه يعتبر قمة من قمم الفكر الإسلامي، فهو ليس كتاب إثارة ولكنه تشريح علمي لعاطفة الحب، ولذك يأتي في طليعة الكتب العالمية التي تقوم منظمة اليونسكو بترجمتها إلى كل اللغات، وآخر ترجمة له كانت إلى اللغة اليابانية، ولاقى الكتاب رواجا هائلا في اليابان. وعندما حاولت أن أقدم الكتاب لطلابي، لأنه كتاب علمي، فلم أستطع إلا في نطاق محدود للغاية. ففي إحدى محافظات الصعيد هاجمني والد إحدى الطالبات، وهو عالم أزهري قائلا: إنك تُدّرس لبناتنا الفجور! وبالفعل أوقفت تدريس الكتاب. وفي كلية دار العلوم راح بعض الزملاء يرمونني بأنني أنشر الفساد. ونبهني جارسيا جومز عقب صدور الترجمة الإسبانية للكتاب. أن الشاعر الإيطالي الكبير دانتي قد تأثر بهذا الكتاب. فقدمت كتابا يتضمن دراسة مقارنة عن الحب عند دانتي وابن حزم واستغرقت سنوات عدة وبذلت فيها مجهودا كبيرا حتى خرجت للنور، وحاليا أعمل على ترجمة كتاب «الحياة الجديدة» لدانتي وسيكون مطبوعا خلال العام المقبل إن شاء الله. 
والكتاب يصلح دستورا للمحبين، بدليل أنه مترجم إلى كل اللغات. فهو يتحدث عن العاطفة ونشأتها وجمالها وبهجتها ويضرب الأمثلة على ذلك من حياة ابن حزم نفسه ومن حياة أصدقائه واصفاً السعادة التي يعيشون فيها والهدايا التي يقدمونها، ووسائل التلاقي بين المحبين. 
-ما أهمية التراث والدور الذي يمكن أن يلعبه في حياة المجتمع العربي المعاصر؟
- الخطوة الأولى لكي يكون التراث مفيدًا هي أن نعمل على تنقيته أي أننا لابد أن ننخله لكي نستخرج منه الكنوز، وجانب كبير من التراث العربي هو مذكرات طلاب متكررة وبدائية المعرفة، لكن هناك أشياء نادرة وجميلة ولكن، لسوء الحظ، لايزال الجهد الذي يبذل في جمعها وتصنيفها محدودًا. والجمع وحده لا يكفي، وإنما المطلوب الفهرسة ونشر الفهارس، فالخزانة التونسية تتضمن الكثير من الروائع لا نعرف عنها شيئًا، كذلك خزانة الملك الحسن الثاني ملك المغرب السابق أيضا مليئة بروائع المخطوطات التي لا نعرف عنها شيئًا. وبالمناسبة هناك دولتان قامتا بتصوير كل مخطوطات الخزانة الملكية الحسينية، وهما: المملكة العربية السعودية وإسرائيل. 
لكنني أشك في أن هذه المخطوطات المصورة – في العالم العربي – متاحة للطلاب لكي يعملوا فيها أو يفيدوا منها، أما إسرائيل فأعرف أنهم يستفيدون من كل كلمة بالمخطوطة ليست التاريخية فقط، وإنما في الحاضر والمستقبل. 
-لماذا تراجعت مهنة تحقيق التراث في عالمنا العربي؟
- لأنه لا توجد مكافآت مجزية تصرف للمحققين، وخاصة أن تصوير المخطوطة يكلف الباحث ألف جنيه، وعندما يشتغل على تحقيق المخطوطة خمس سنوات - على الأقل - لا يجد من ينشرها له، كما أن مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية قد أغلق، وليس هناك من يحقق التراث الآن، وكان آخر المحققين العــــــــظام د. محـــــمود الطناحي رحمه الله. 
-لقد عمل الغرب على تطويع تراثه اليوناني واللاتيني وتذليله وتقريبه إلى أذهان الطلاب في كل مراحل التعليم، بحيث أصبح جزءا من ثقافة الشخص العادي وتكوينه العقلي، في حين لدينا فجوة بين حاضر الثقافة العربية وماضيها..  لماذا؟
- هذا يرجع إلى سيطرة بعض الجهال على مصائر الثقافة في مصر، وعلينا أن نعترف بأن مصر دائما تتخذ كقدوة ومنهج، ففي مطلع القرن العشرين كانت روائع التراث محققة ومهذبة، وكان تلاميذ المدارس الثانوية يقرأون ومقررا عليهم: مهذب الأغاني، ومهذب الكامل، ورحلة ابن بطوطة، المكافأة لابن الدّاية، الكامل للمبرد.. كل هذه الكتب كان يطالعها طلابنا في مطلع القرن العشرين. 
لكن الغربيين غزونا بفلسفات لا يطبقونها في بلادهم وهي أن النص لابد أن يكون في مستوى عقلية الطالب، ودفعونا إلى التخلي عن هذه الكتب دفعًا، ولا يعرف تلاميذنا الآن شيئًا عن كتاب الأغاني للأصفهاني ويتصوره بعضهم مرجعا للأغاني الحديثة التي يسمعونها، ولا يستطيع ثلاثة أرباع من يدّعون الثقافة أن يقرأوا بيتًا صحيحا من الشعر للمتنبي، وأصبح التطاول على هؤلاء العظماء «موضة» حديثة، وإضافة يزعمها الجهال لأنفسهم أن يتطاولوا على كبار مؤلفينا، وكثيرون – حتى من العظماء المحدثين – لم يعودوا يعرفون عنهم شيئًا، فمثلا ماذا يعرفون عن الرافعي، أو د. محــــمد عـــوض؟ حتى الإمام محمد عبده يرددون اسمه لكن لا يعرفون فلسفته. 
-هناك مدارس نقدية متعددة على المستوى العالمي، منها الشكلية الروسية والنقد الأمريكي الجديد والمدرسة الألمانية في النقد..  لماذا لا توجد لدينا نظرية نقدية عربية؟
- المدرسة الشكلية الروسية هي صورة طبق الأصل من نظرية النظم لعبدالقاهر الجرجاني، والتي تصلح نواة لنظرية نقدية عربية بامتياز، ومفادها أن الأدب عملية  لغوية، ودراسته تعني دراسة بناء اللغة، لكن كل عصر له أسلوبه، وعلينا – نحن – أن نتعود على أسلوب عصرنا، وأسلوب عصر تراثنا. لابد أن يكون لدينا من يفهم ماذا يريد عبدالقاهر أن يقول: عبدالقاهر يتحدث عن البلاغة والنظم والأدب..  والنظم هو بناء الجملة، فهو مهتم جدًا بالعلاقات اللغوية في الآداب، لكنه يتحدث بلغة عصره، لذلك صعب على المحدثين في المدارس الثانوية، لكن لا يصح أن يكون صعبًا عليهم في الكليات الجامعية المتخصصة، كما أن الأوربيين يعرفون طبيعة التعبير اللاتيني أو اليوناني ولا يضيقون به، لكن عبدالقاهر الجرجاني وابن جني يمثلان قمتين من قمم الثقافة العربية، لكن - مع الأسف الشديد- نحن نتخفف، والأشياء الجميلة العظيمة تحتاج إلى جهد ومعاناة، ويكفي أن تعرف أن كلية دار العلوم التي كانت تدرس عبدالقاهر منذ نصف قرن وتخصص له محاضرات ونصوصًا باسمه، قد اندثر فيها هذا التقليد الآن، والأجيال الجديدة لا تعرف عن عبدالقاهر الجرجاني شيئًا.
-ما الفرق بين إنجاز د. محمود مكي في الأنــــــدلســـيات وإنــــــجاز د. الطاهر مكي في هذا المجال المهم؟
- الراحل الدكتور محمود مكي عالم جليل ومتميز، لكنه اشتغل مرءوسا لرئيس ابتلع كل نشاطه. ولا أدري لماذا كان د. محمود مكي – في أواخر حياته – قدريا ولامباليا، لا يهمه أن يكتب أو يدّرس، دون أن يعني هذا بأي حال من الأحوال أنه كان يجهل خصوصا في مجال الأندلسيات، لكنه لم يكن مهتما بأن يقول شيئا، والكتب التي حققها منها – على الأقل – ثلاثة كتب طبعت، وقام بتحقيقها لكن جهد نقلها من المخطوطات إلى الطباعة ليس له. 
وهناك عملان عظيمان حققهما، الأول: ديوان ابن دراج، وهذا عمل عظيم لا ثاني له. والثاني كتاب في التاريخ الأندلسي نشر بالمغرب. 
أما أنا فرجل كما يقال «حاطب ليل» أترجم وأكتب في الأدب والسياسة، وكل ما يرد بخاطري. لدي كتاب في الأدب الجاهلي بعنوان: «امرؤ القيس..  حياته وشعره»، يعده الناس جميعا كتابا لا شبيه له. وكتاب بعنوان: «دراسة في مصادر الأدب»، يطبع كل عام وتجاوز الطبعة الخامسة عشرة. ولدي كتاب «الأدب المقارن..  أصوله وتطوره ومناهجه» وهو كتاب لا مثيل له – من غير زهو - وقد استغرق مني وقتا فظيعا، ولن يأتي مثله قبل سنوات. فأنا أكتب في الأدب المقارن والأدب الأندلسي والأدب الجاهلي، وكل ما هو متاح لدي ما دام الوقت يسمح. 
-رغم بقاء العرب والمسلمين في الأندلس ثمانية قرون، فإنهم فشلوا في فرض اللغة العربية هناك، في حين نجح الإسبان في فرض اللغة الإسبانية في دول أمريكا اللاتينية..  لماذا؟
- اللغة العربية كانت منتشرة في ربوع الأندلس بما فيها أحياء النصارى والمسيحيين، لكن لابد أن نعترف بأن إخراج المسلمين من الأندلس اتسم باستخدام أنواع العنف والقسوة، وكان يحكم على الإنسان بالإعدام، لأنه ضبط يأخذ حماما يوم الجمعة، مثلا لأن ذلك كان بمنزلة دليل على أنه فهو يتكلم العربية. ولابد أن نعترف بأن اللغة الإسبانية لغة حضارة، بالتالي تستطيع أن تجعلها تحل محل لغة حضارة أخرى. 
أما في أمريكا الجنوبية فقد فُرضت الإسبانية بالقوة أيضا، ونحن الآن لا نعرف شيئا عن عقائد الهنود الحمر ولا لغتهم ولا تقاليدهم، وإلى جانب ذلك لم تكن لديهم لغة حضارة تستطيع مواجهة اللغة الإسبانية. 
-برأيك..  من المسئول عن ضياع الفردوس المفقود (الأندلس)؟
- المسئولون عن ضياع الأندلس كثيرون، يأتي في مقدمتهم الأندلسيون أنفسهم الذين استهتروا بالمسئولية، ولم يأخذوا أمورهم بجدية وحزم، وكذلك لا نعفي المسلمين المعاصرين، لأنهم لم يستجيبوا لنداء إخوانهم الأندلسيين. ولابد أن نذكر أيضا أن مصر التي كان العالم الإسلامي يلجأ إليها ساعة العسرة لم تكن في وضع يسمح لها بأن تقدم للأندلس يد العون. وعلينا أن نذكر أن الأندلس سقطت قبل الغزو العثماني لمصر بخمسة عشر عامًا، فمصر كانت في أضعف حالاتها.
-أنت أحد أبرز روَّاد الأدب المقارن في العالم العربي.. لماذا لا يوجد كرسي للأدب المقارن في الجامعات العربية؟
- لأنه لا يوجد أساتذة له، فلا يوجد أساتذة لديهم إلمام بالأدب المقارن من حيث نشأته وتطوره ومناهجه، والمناهج الموجودة حاليا تقوم على مقارنة بين قصيدة إنجليزية رومانسية وقصيدة رومانسية عربية، ويوازن الأستاذ بينهما ويسمي هذا مقارنة. ورأيت بعيني أستاذا يقارن بين نصين من اللغة العبرية وهو لا يدرك أن الأدب المقارن يتطلب اختلاف اللغتين، ولم يوافقني وهو يقارن بين نصين من لغة واحدة، فالادعاء سهل ولا أحد يحاسب أحدًا على الإطلاق. كذلك تجد من يدرِّس الأدب المقارن ولا يعرف حرفًا من لغة أجنبية واحدة، أو يشرف على رسالة علمية في الأدب المقارن ولا يعرف لغة أجنبية واحدة. والأدب المقارن يفتح الباب واسعا وعريضا أمام الإنسانيات بأشكالها المختلفة، مما يجعل منه علما كالتاريخ والوثائق والمصادر والمصطلحات الأدبية والترجمة ومشكلاتها. كما أنه يمتاز بالجدة والطرافة وجاذبية الفكر العقلي المجرد. وقد استغرق تأليف كتابي في الأدب المقارن خمسة عشر عاما لكي يخرج إلى النور. 
-لماذا تفضِّل حياة العزلة؟
- لأنها تيسر لي الوقت الذي أتأمل فيه وأقرأ وأكتب.