الــخـرطـوم بائعات الشاي.. ومقاهٍ على مرفأ الذاكرة

الــخـرطـوم  بائعات الشاي.. ومقاهٍ على مرفأ الذاكرة

 لم يعد الزمن هو الزمن، فالانتقال بين ردهاته، وبين الصورة في ذهن من عاشوا حقبة أفلت من ذكريات الزمن القديم للمقاهي، التي كانت منتديات للأدباء، والشعراء، والمثقفين، والمبدعين، ورواة الحكايات الشعبية، إلى رياح التغيير، التي هبت على تلك المقاهي، وقضت على رائحة التاريخ، فصارت تبرق بالأذهان، كلما مرّ عابر ممن عاشوا ذلك الزمن الجميل، بأماكن بائعات الشاي، وشاهد من يتحلقون حولها. ويظلون أوقاتا طويلة في ذاك الثبات، حتى أن هناك من أطلق على تلك المجالس «منتديات العطالى»، لأن هؤلاء المتحلقين حولهن، لا يجمع بينهم أي انتماء، لا فكري، ولا ثقافي، ولا وجداني. إنما ما يجمعهم هو الفراغ، والنرجيلة، واحتساء الشاي والقهوة وكل ما يؤخذ ساخنا، وهو ضياع الوقت في اللاشيء.

 كان المقهى يمثل محورا للصداقة، وأبا للثقافة والأدب،  والفنون، بل كان حاضنا للمفكرين والسياسيين. وهو من التقاليد راسخة الجذور في الحياة الفكرية والثقافية والوجدانية. ومكان لمولد نصوص إبداعية أو مقاطع وقوافٍ وتنافس بين المبدعين. يقول بعض رواده، إنه كان يوحي لهم بالتفكير، وإلقاء النكات، والدعابات في جو من الود والصداقة والألفة. وأحيانا تؤلف القصص والروايات من واقع مجالسات وعلاقات اجتماعية. وربما تلاقحت نصوص أو قصائد عبر مواقف سياسية، مؤيدة أو معارضة للواقع المعيش.
 كانت تلك المقاهي تنتشر في منطقتيّ أم درمان والخرطوم، مثل البان جديد، ويوسف الفكي وجورج مشرقي، الذي كان أشهرها في أم درمان، ومقهى الحلفاوية، والبراء. وكما ذكر الأستاذ إبراهيم العوام، وهو شاعر وتشكيلي، وصاحب منتدى زهاء الطاهر الثقافي وله فيه معرض تشكيلي دائم، الذي مدني مشكورا بقدر وافر من هذه المعلومات، أنه كانت توجد أماكن أخرى تلتقي فيها طبقة أرقى من المثقفين والرواد، ذكرها الأستاذ يوسف الشنبلي، في كتابه «جنرال بلا نجوم»، والكتاب تحت الطبع. أما في الخرطوم، فكانت هناك مقاهٍ ومطاعم مثل سان جيمس، أتنيه، ريجينسي، وجوردن ميوزك هول.  وهناك مقاهٍ كبيرة تشبه حال مقاهي القاهرة اليوم، منها خمسة تعد من المنتديات الكبرى، وتقع في منطقة السوق العربي، وهي مقهى الزئبق، الكوباني، أبوزيد، وهي مرتبطة بأعيان المدينة. يبدأ العمل بها منذ الخامسة مساء، ويفد إليها المواطنون في ملبس مرتب، يتناولون الشاي بالحليب ويتسامرون، أو يستمعون إلى الأغاني، التي يبثها الفونوغراف حتى الساعة الثامنة، حيث يحين موعد نشرة الأخبار، فينصتون إليها من إذاعة لندن.

مقاه إفرنجية
 هناك مقاهٍ إفرنجية أخرى، يقوم على خدمة روادها أبناء الأغاريق. ومن الغريب أن مقهى أتنيه يتميز بجرسونات شابات إغريقيات أيضا. وهذه القومية كانت توجد بكثرة في تلك الحقبة.
 أما مقهى ميري لاند فيملكه الأديب عبدالسلام كشة، وهو على نمط مقهى الفيشاوي في القاهرة، كان عامرا بالأدباء، لكنه لم يدم طويلا بسبب وفاة صاحبه.
 امتدت ثقافة هذه المقاهي، من حقبة العشرينيات حتى الخمسينيات. وكانت المخابرات البريطانية في عهد الاستعمار، تقوم بالرقابة على المقاهي، التي تقوم مقام المنتديات الثقافية. تستدعي الأدباء ومرتادي تلك المقاهي وتحقق معهم، لأن تلك الدور لم تكن تقتصر على الأدباء والكتاب فقط، بل تحوي سياسيين ومفكرين، وتيارات مختلفة. فقد شهدت الفترة قمة نشاط الحركات الوطنية، منها على سبيل المثال «جمعية اللواء الأبيَض»، لذلك لجأ هؤلاء لعقد منتدياتهم في المنازل. 
 وكما كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر من رواد مقهى ريش في القاهرة، وقد غنى به عدد من المطربين من بينهم أم كلثوم والشيخ أبوالعلا، أيضا وبالمستوى نفسه كان جعفر نميري (الذي صار رئيسا للسودان) ضمن الذين يؤمون الملتقى الذي يتخذه بعض المثقفين منتدى لهم بأجزخانة العاصمة. والمنطقة التي تقع فيها المقاهي في الخرطوم كانت تعرف بسوق الموية.  
 بعض المطاعم وخاصة المطاعم الموجودة في منطقة الخرطوم، والتي يرتادها الأفندية، كانت تقدم المسكرات ومستلزمات الكيف لروادها، لكن الشيشة لم تكن ضمن ثقافتها، في ذلك الوقت، رغم كونها مطاعم شعبية.
 ولا ننسى دور الفن التشكيلي في حقبة ازدهار ثقافة المقاهي. فقد اتخذ التشكيليون حيطان المقاهي أماكن لعرض لوحاتهم،  ووجدوا تفاعلا كبيرا من الجمهور، الذي احتفى بتلك الظاهرة، حتى أنه يقال إن لوحات أحد التشكيليين، وكان يدعى علي عثمان، قد بيعت كلها يوم افتتاح معرضه، الذي أقيم أمام الجامع الكبير بالخرطوم، في مقهى الزئبق الشهير، وكان ذلك في الثلاثينيات.
 لم تكن ظاهرة عرض لوحات التشكيليين هي السمة الوحيدة الدالة على الخصائص المرتبطة بالمدنية الجديدة، انعكاسا لدخول المستعمر، بل أيضا ازدهرت حركة الصنّاع المهرة، الذين تبنوا قيم الفن الشعبي في صناعة الجلود، والأسرَّة المخروطة الأرجل، والصناديق التي تستعمل في حفظ الملابس (السحارة)، وأواني العطور الخشبية (الحق)، والهون الخشبي (الفندك).

تاريخ المقاهي
 تعود فكرة المقاهي التي دخلت السودان، إلى الإنجليز والأوربيين، وصار ارتيادها سلوكًا مدنيًا، وصارت هي المؤسسات الاجتماعية الثقافية، وأماكن للملتقيات، ونشاطها يمثل برنامج الأدباء والساسة والمفكرين المسائي.
 وكما ذكر الأستاذ العوام عما جاء بكتاب الأستاذ يوسف الشنبلي «جنرال بلا نجوم»، أن نشاط رواد المقاهي، كان أدبيا في المقام الأول، يتبادل فيه المثقفون إبداعات الشعراء والأدباء، وأخبارهم، والتعرف على كبارهم، وعلى إنتاجهم. ثم يأتي النشاط السياسي، حيث يلتقي المثقفون السياسيون الذين يعملون على مناهضة الاستعمار، ولمحاولة الإفلات من رقابة البوليس السري. وعند تضييق الخناق، تُنظَم تلك الجمعيات السرية في البيوت.  في تلك الحقبة يقال إن الخرطوم كانت تعد مدينة أوربية، لا تنافسها أي عاصمة إفريقية. إذ كان يتم غسل شوارعها في الفجر بالماء والمطهرات، وخاصة شارع القصر، لخصوصيته، ووجود قصر الحاكم فيه.
 يتحدث كتاب الأستاذ يوسف الشنبلي أيضا،  عن أن الخرطوم كانت تنتشر فيها أندية ومحال تجارية بكثافة، منها حلواني الـ«جي بي» وهو اختصار لاسم بريطانيا العظمى (جريت بريتان) وكان يقدم أجود أنواع الحلويات والمعجنات. وأيضا حلواني بابا كوستا، الذي اشتهر أيضا بعمل المعجنات، ومخبز كتشنر، شمال جامع الخرطوم، ومطاعم الأكروبول، التي صارت في ما بعد فندقًا يمتلكه السواحلي «كوبا كوبانا»، ومطعم وفندق الشرق، الذي يديره السوري نجيب وأبناؤه.

ندوات أدبية
وذكر كتاب «جنرال بلا نجوم» أيضا، أنه كانت تنعقد بالخرطوم، ثلاث ندوات سياسية، أدبية وفنية. الأولى أمام صحيفة «الرأي العام» ويؤمها كبار الإداريين في الدولة، وبعض السياسيين،  تتناول ما وراء الأخبار، وعرابها كان الأستاذ علي حامد، الذي يكتب زاوية «في الصميم»، ويقتبس مقاله مما يقال  في الندوة. والندوة الثانية، الكبيرة، كانت تقام أمام أجزخانة العاصمة المثلثة، ويترأسها الأستاذ منير صالح عبدالقادر، شقيق صاحب الصيدلية. يشارك فيها كبار الأدباء، ويحضرها الشباب من المثقفين والمهتمين بالأدب. أما الندوة الثالثة، فقد كانت يحضّر لها في مكاتب صحيفة الثورة، بوزارة الإعلام، بعد إغلاقها وصرف العاملين بها، عقب ثورة أكتوبر، ويقيمها الأدباء، الأستاذ منير صالح عبدالقادر، وعبدالله عشري الصديق، والصاغ محمود أبوبكر، تقام كل خميس، وتتناول القضايا الفنية والأدبية. 
 وكما علمنا من كتاب «جنرال بلا نجوم»، أن سبب تلاشي تلك المقاهي والمنابر والندوات التي كانت تثري إنتاج الإبداع، وتجعل الأدباء يستوحون نصوصهم وقوافيهم من تلك الأجواء، هو الرقابة، والشرطة السرية، واستدعاء الأدباء والمفكرين والتحقيق معهم، والتضييق عليهم، إبان الاستعمار.
 في عهد مايو، أو الحكم العسكري، كما يحلو للبعض تسميته، كان الرئيس جعفر نميري يخاف من تجمع المثقفين، حتى لا يصبح تجمع مقاومة، وخاصة أن بعض المثقفين كانوا يتحدثون عن تردي الأوضاع في البلد، بسبب القبضة العسكرية على مقاليد الأمور، وتكميم الأفواه. حاربت الحكومة العمل الثقافي، فأصبح نوعًا من التشتت الثقافي والقيمي. ففي الوقت الذي انخرطت فيه النخبة المثقفة في الأنشطة الثقافية، كانت تنشط النخبة السياسية في مناقشة الأوضاع بالبلاد، لذا تم إبعاد الثقافة قسريًا، فأغلقت المقاهي، وتم حصار العمل الوطني، الذي يسعى نحو الانعتاق من حكم العسكر التعسفي.
 وبالمنطق ذاته، يعاني الآن، وفي زمننا هذا، المثقفون والأدباء، تجفيف وإغلاق مقار منتدياتهم الأدبية والثقافية، ولأسباب لا يعلمها أحد. فقد انحسرت مقار المنتديات الثقافية والأدبية بالعاصمة الخرطوم من أكثر من سبعين دارا إلى أقل من عدد أصابع اليدين الاثنتين. ويزحف سيل الإغلاق، وتتمدد حالة الإحباط عند الشباب المبدعين.

بائعات الشاي
 في الزمن الذي تمت فيه محاربة تلك المقاهي، تكونت ثقافة جديدة، وبشكل لا ينتمي إلى الأدب ولا الفكر بأي وشيجة، وهي ثقافة بائعات الشاي، لتلبي حاجة المواطن الذي يعيش في ظروف خاصة، ليس لأنه يفتقد الأسرة التي تهيئ له احتساء الشاي والقهوة في بيته، ولكنها، نسبة لحالة البطالة، وفقدان فرص العمل الذي يملأ للشباب أوقاتهم، ويفاد منه كل من المواطن والوطن. وهي الحالة  نفسها التي دفعت بهؤلاء النسوة (بائعات الشاي) للخروج من ديارهن، واتخاذ الشارع، والنواصي، وتحت ظلال الأشجار، أمكنة يستغللنها لكسب الرزق. يتجمع فيها من يحتاجون إلى مثل تلك الأماكن لملء الفراغ. فتكاثرت تلك المناشط، وتمددت، وخاصة في الظروف التي حاقت بالمرأة. ظروف الحروب والنزوح والهجرة من مناطق الأتون المستعرة، وفقدان العائل ورب الأسرة. ولتلبية احتياجاتها الطبيعية من مأكل ومشرب وتعليم أبناء وعلاجهم. حتى الشابات انتحين ذاك المنحى في ظل البحث عن طريق للخلاص من العطالة.
 رغم كل ذلك، أصبحت تلك التجمعات (أماكن بائعات الشاي)، أمكــــنة لدحر الوقت في اللاشيء، وتجمعًا لعاطـــليـــن لا تجـــمع بينــــهم أي منفعة ولا انتماء، لا فكري ولا ثقافي ولا وجداني، بل ما يجـــمعهم هـــو الفراغ والنرجيلة.
 إن أنشطة بائعات الشاي لم تضف أو تساهم سوى في تكدس مخلفات عملهن، برمي الأوساخ على قارعة الطريق.
 أخيرا، ومواكبة للتطورات التكنولوجية، التي أتاحت تغييرا عصريا في نمط تفكير بائعات الشاي، أو بعضهن. فقد لجأن إلى  تنظيم أندية لمشاهدة مباريات المونديال، والمباريات المهمة، لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المواطنين، وخاصة الشباب منهم، الذين ليست بحوزتهم أجهزة تتيح لهم المشاهدة. سرت الفكرة سريعا من واحدة إلى الأخريات، وتمخضت عن استئجار الصوانات ونصبها، ومدها بالكراسي مع توفير أجهزة التلفاز وملحقاتها الضرورية، والحصول على الكروت المخصصة لإتاحة المشاهدة. نجحت بائعات الشاي في استقطاب أكبر عدد من المشاهدين، وجنت المزيد من المال مع بيع أكبر كمية من المشروبات التي تتلاءم مع سخونة المباريات.
 واللافت في الأمر، أن معظم إن لم يكن كل صاحبات هذه الفكرة من اللاجئات الأجنبيات اللواتي أتين من دول الجوار، مع بقية مواطنات نزحن من تخوم تجاور دولة الجنوب، حيث تنشط عصابات القتل والنهب.
ولم يقتصر دور هؤلاء اللاجئات عند هذا الحد، بل تعداه إلى إعداد بعضهن بيوتهن لتصبح مقاهي ومطاعم يؤمها الشباب حيث يجدون الطعام والشراب وما لذ وطاب. تلفهم حلقات دخان البخور ومناخ الحياة غير المتقيد بعرف، كل هذا وما يهم القائمين على الأمر ينحصر في أخذ الجزية فقط، وليس المكافحة.

ربات الصوالين الأدبية
 من لم يقرأ ويطلع لا يكوَّن في تصوره أن المرأة السودانية في العشرينيات، كانت لها شخصيتها وكلمتها المسموعة، وثقافتها المقدرة، وخاصة أن المرأة كانت في تلك الحقبة من ذوات الخدور، لا تخرج من بيتها إلا بصحبة رجل، حتى إن كان ابنها. ولا تخرج إلا وهي مبلمة (منقبة). ومن لا يفحص ويمحص ويسأل من عاصروا بعض الرواة، أو من دونوا منهم بعض الأحداث، لا يستطيع أن يعلم أن المرأة منذ العشرينيات، أضحت تشارك في الفكر والفن.
 ولم يذكر أن إحداهن قد تعلمت حرفا، لكن بعضهن أو قل القليل منهن بدأن يطللن من وراء الحصار المضروب عليهن. ومما يجعل الأمور تختلط على الإنسان، أن منهن من كن صاحبات صوالين أدبية. يتمركزن في مدينة أم درمان، وبالتحديد منطقتيّ العباسية والموردة. لكن الشهرة التي أرخت لتلك الصوالين، لم تكن إلقاء الشعر ولا الغناء، بل كانت من أصحاب الأقلام الذين ينشرون ما خطه يراعهم من ذكريات ورؤى. بعض تلك الصوالين التي كانت تدار بواسطة نساء، كانت تتعاطى النشاط السياسي، وبعضها كان يقتصر على الأدباء والشعراء والمغنين والملحنين.
 يذكر لنا كتاب «سودانيات في صوالين الأدب» الذي ألفه الأستاذ محمد صالح يعقوب، أن الأستاذ الأديب الكبير حسن نجيلة، هو من رصد مجريات الأحداث التي شهدها في صالون الموردة، الذي تديره السيدة مبروكة المعروفة باسم «فوز». والغريب في الأمر كما جاء في الكتاب أن كل صاحبة صالون كان يطلق عليها لقب «فوز» . وكان ذلك الصالون بجانب نشاطه الأدبي، تصاغ فيه المنشورات السياسية التي تبعثر في طرقات المدينة وأسواقها وأزقتها ليلا. فكان ذاك النشاط يجر على رواد الصالون التحقيقات البوليسية ومضايقات جهاز المخابرات.
 يذكر لنا الأستاذ محمد صالح يعقوب صاحب الكتاب المذكور، أن الأستاذ حسن نجيلة، وصف المجتمع في ما كتبه بعنوان «ملامح من المجتمع السوداني - أكتوبر 1959» بأنه كان مجتمعا خاليا من الملاهي العامة التي يجد فيها الناس متنفسا. كان جافا إلا من تلك الجلسات الخاصة التي تعقد في الدور خلسة لانتهاب المسرة. فلا دور رياضة، ولا أندية، ولا حدائق عامة، كانت توجد دار وحيدة للسينما لكنها كانت صامتة. والشوارع والبيوت مظلمة، لم تصلها الكهرباء إلا عام 1928، الماء يجلب من الآبار، لم يكن يوجد التاكسي، المواصلات بالحمير، وبعدها دخل ترام البخار. ويحكي الأستاذ حسن نجيلة كيف دهش الناس عندما ظهر أول بسكلت (عجلة)، وكان لأحد كبار الموظفين البريطانيين.
  على الرغم من أن المرأة قد بلغت المدى الذي تقود فيه صوالين الأدب والفن والموسيقى، لكن هذه الإطلالة سبقتها جهود ضخمة، استمرت ثماني سنوات من النضال. فقد انعقدت الندوات في الميادين والأندية وفي كلية غردون (جامعة الخرطوم في ما بعد) ومدرسة أم درمان الأميرية (1920) وعرضت تمثيليات يؤديها طلبة الكلية، كان محورها «تعليم المرأة السودانية» وقد صاغ الشاعر عبدالله محمد عمر البنا قصيدة طويلة خصصها لتعليم الفتاة السودانية، نشرت في مجلة الحضارة بعد أن لاقت استحسانا من الناس، وأضحت أبيات تلك القصيدة حجج المناصرين لتعليم المرأة. وكانت الصراعات بين المؤيدين والمعارضين ضارية. كان رأي المعارضين أن الفكرة شر مستطير أريد به الإساءة إلى أخلاق المرأة السودانية.
 بعد ذلك اختلف حال المرأة في العام 1926 حينما أطلت على دنيا الإبداعات الإنسانية. وبالطبع الحديث عن فوز الموردة يدعو للعجب، فقد شغلت البوليس وجهاز المخابرات بنضالها السياسي، فقد كان صالونها يضم شبابا يصارع الاستعمار رغم عدم التكافؤ، في الوقت الذي لا يدور فيه الحديث عن الاستعمار إلا همسا.
 وفوز الموردة تلك (مبروكة) تتحدر كما دوَّن عنها من أسرة كانت تحتل مقاما اجتماعيا مقدرا. وكانت من رعيل الفتيات المتقدمات في مصاف الثقافة. شغفت بالمعرفة، وتولهت بالكتاب رغم ندرة تعليم الفتيات، خاصة بعد ثورة 1924. والسبب هو تحجيم المستعمر لفرص التعليم أمام الناس كافة والمرأة أكثر تأثرا. لكن في حالة فوز الموردة كما ذكر الأستاذ يعقوب بين طيات كتابه  فإن إرادة المعرفة لا يمكن كبحها بأي حال، خاصة إذا كانت مقدرتها الفطرية على استيعاب  ما يقع تحت بصرها وسمعها جيدة. وقد شهد لها رواد صالونها الأدبي، بأنها سبقت كثيرات من مشاهير البلاد العربية في مجال الثقافة. ومن الذين تحدثوا عنها باستفاضة وتابعوا حياتها، الأستاذ محمد عبدالجليل حقي. فقد حكى عبر محفوظاته عن الكرم وبشاشة الترحيب بالضيوف رغم تمسكها الصارم بأخلاقيات الدين وتقاليد القبيلة، وقد كانت فوز تتصدر المحاورات بملاحظاتها وتعليقاتها الذكية من وراء بلامتها (غطاء الوجه). وذكروا أن الفنان الصغير الراحل إبراهيم عبدالجليل والذي عرف باسم عصفور السودان، كان في كثير من اللقاءات حاضرًا. لكن المؤسف جدا والمحزن أكثر أن حياة مبروكة قد انتهت بطريقة دراماتيكية غامضة، وبطلق رصاص على يد زوجها الثاني الذي انتحر في الوقت نفسه برصاصة أخرى، وكان ضابطا كبيرا يعمل مع الجيش الإنجليزي.
 حقيقة، ورغم أنه ذكر أن هناك سيدات أديبات أخريات غير فوز الموردة, وكلهن لقبن بـ«فوز»، كتعريف لصاحبات الصوالين الأدبية، فإن المؤرخ حصر حديثه في فوز الموردة، ووصفها دونهن بالعفة والأخلاق الرفيعة، وأنها أديبة وصاحبة صالون تحدثت فيه إلى الرجال وحاورتهم في زمان كان يحجر هذا على المرأة.

وضع المرأة السودانية
 ومما سبق، وكما ذكر الأستاذ محمد صالح يعقوب، نلاحظ أن تعتيما حال دون التعرض للمستوى الثقافي لفوز الموردة ولم يذكر شيء مما خطه يراعها من مقالات، ولا نسبت إليها أشعار، مع تسليط قليل من الضوء على فوز أخرى، لكن لم يتطرق أحد لذكر اسمها الحقيقي، مع التأكيد أنها كانت تنادى باسمها الحقيقي  فقط. وهذا يعد إغفالاً من المجتمع الذكوري في ذاك الزمان لإبداعات المرأة وتميزها. وهذا التعمد أو تلك الصرامة لم تجعل أي معلومات تفلت، أو حكايات عن الطريقة التي تلقت بها المرأة تعليمها، وخاصة أنه لم تكن هناك مدارس ولا خلاوي تدرس الفتيات. ولم يشر إلى سيدات يتولين تدريس البنات.
 كانت هناك أسئلة تطرح من المهتمين بهذا الجانب عن المرأة في الخرطوم، فقد تطرق كثيرون للمرأة الـ «أم درمانية» التي تفاعلت مع الحياة من خلال الوجدانيات، رغم المعاناة. وقد ذكر أن الخرطوم حتى ثلاثينيات القرن الماضي كانت تعاني الخراب الذي جره إليها جيش الإمام المهدي في العام 1885.
 عند استطلاع بعض الذين عاشوا تلك المرحلة، تحدثوا عن صوالين مبعثرة في مدينة الخرطوم ارتادتها المرأة آنذاك. لكن كما جاء على لسان أحد شعراء تلك الحقبة (عمر البنا)، كان حديثا يفتقر إلى التفاصيل، فلا رؤية واضحة لما يحدث من إبداعات داخل تلك الصوالين. لكنه أسهب كثيرا في وصفه لصالون أدبي بعينه في الخرطوم يعج بالحركة، تؤمه امرأة . كان الصالون قبلة كبار شعراء الغناء وأشهر المغنين، لم يأت على ذكر اسمها. والجدير بالذكر أن صاحبة هذا الصالون لم يطلق عليها لقب «فوز» الذي كانت تعرف به صاحبات الصوالين في تلك الحقبة، بل ظل اسمها الحقيقي هو المعرفة. كل الشعراء والمغنين الذين يرتادون صالونها كانوا يتبارون في الحصول على رضا تلك الفتاة، التي كما وصفها معاصروها، مع حسنها وأناقة هندامها المسبل وروعة زينتها، وجمال صالونها، كانت تجيد قرض الشعر. وكما جاء من الراوي أن الشاعر والمغني عمر البنا، كان مولعا بالمعارك ومشاركًا في الصراعات في محيط الشعر والغناء، وكان قد ذاع صيته وتجاوزت شهرته السودان إلى القاهرة وحتى بيروت، التي زارها في  العام 1936. وقد حكى البنا أن صالون تلك الفتاة الخرطومية التي لم يفصح عن اسمها أيضا، قد تزايد ضجيجه، ولفت الأنظار، فأصبح منطلق الخيال ونسيج التوهمات، مما أحدث تضجرا عند أسرة صاحبته، فكان لابد لهذه الأسرة أن تتدخل لتحسم الأمر، لذا قررت تزويج فتاتها. ولم تتوقف الحال عند حد التزويج الذي بالضرورة يكفل إغلاق الصالون وبعثرة رواده من أدباء ومغنين، إنما سعت لدى الحكام الإنجليز لنقل العريس، وهو موظف لديهم، إلى أقاليم الجنوب.
 واللافت في الأمر، أن بعض فتيات الخرطوم، لم يردن أن تكون مناسبة سفر صديقتهن صاحبة الصالون مناسبة عابرة، لذا طلبن من الشاعر ود الرضي الذي كان ضمن الكوكبة التي كانت تتبارى في صالون تلك الأديبة، طلبن منه أن ينظم قصيدة في وداعها، حتى يضحي رحيلها من الخرطوم إلى الجنوب حدثا مرتبطا بالأذهان، إكبارا للسيدة التي كانت تملأ الأسماع بسيرتها الكريمة الطيبة، وما يفيضه صالونها من روائع الأدب.
 وعندئذ أتت أغنية رددها المغني ود الرضي، التي جاء مطلعها: «من الأسكله وحله .. قام من البلد وله».
 وذكر مؤلف كتاب «سودانيات في صوالين الأدب» الأستاذ محمد صالح يعقوب، أن عشرات الدواوين الشعرية، التي تحولت إلى أغان، تم تأليفها في تلك الصوالين، التي يتنافس فيها القوم حول الأديبات الرائعات، ووميض العيون الساهمات، وفوحان العطور الحلوة، في الدور المستورة. لذلك، كانت الفتيات والسيدات صاحبات الصوالين الأدبية، يلقين الاعتراض والتضجر من الأسر، التي تتدخل بشكل أو بآخر لوضع حد لتلك الدور.

بائعات الشاي أصبحن بديلاً للمقاهي العريقة التي كانت جزءاً من ثقافة السودان