جمال العربية: في صحبة أحمد السقاف: إنسانًا وشاعرًا

جمال العربية: في صحبة أحمد السقاف: إنسانًا وشاعرًا
        

أحمد السقاف إنسانًا:

          لا أظن أن هذا الوجه المفعم بالنبل والكبرياء والإنسانية يمكن أن يغيب عني، وهو أول وجه التقيته حين قدمت إلى الكويت لأول مرة في ختام صيف عام 1963 مُعارًا من إذاعة القاهرة للعمل خبيرًا في إذاعة الكويت. كان السقاف وكيل وزارة الإعلام وقتها هو صاحب فكرة الاستعانة باثنين من إذاعة القاهرة أحدهما مذيع ومقدم للبرامج الثقافية هو أنا وثانيهما مخرج متمرِّس بالأعمال الدرامية وهو الزميل القدير إسلام فارس.

          في مساء اليوم الأول لوصولنا، كان لنا لقاء معه في مكتبه، في المبنى القديم لوزارة الإعلام، وسرعان ما انعقدت الألفة بيننا وبينه. كان صريحًا وواضحًا ومباشرًا، عندما كشف لنا عن توجّهه القومي العروبي النزعة، وعن حرصه الشديد على الثقافة العربية واللغة العربية، وهو الذي بدأ مشروع مجلة العربي، التي كانت وقتها في عامها الخامس، لتكون يد الكويت الممدودة إلى العرب في كل بلاد العرب، واللسان المعبِّر عن عمق انتماء الكويت حكومةً وشعبًا إلى جوهر الهوية العربية والانتماء العربي. وكيف أنه يريد للإعلام في الكويت نقلة نوعية في الشكل والمضمون، في الصيغة والمحتوى، حتى تكون إذاعة الكويت وتلفزيونها في موضع الريادة والسبق بالنسبة للإعلام في الخليج.

          واحتوانا الرجل بدفء شخصيته وحميمية حديثه، ونجح منذ اللحظة الأولى في كسْبنا جنودًا له في معركته الحضارية، وداعمًا لنا في وجه ما سوف نصادفه من تحديات أو نقص في الإمكانيات، وفي صنع عملية التحول ومرحلة الانطلاق في الدولة الشابة التي تتوهَّج روحها بالتطلع إلى آفاق جديدة رحبة وهي تعيش عصر البناء ودعم الاستقلال في عهد الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح.

          ويومًا بعد يومٍ، بدأ الرجل يتابع خطواتنا في العمل: تدريب المذيعين العاملين، واختبارات لمذيعين جدد يتم التركيز فيها على أبناء الكويت الراغبين في ممارسة العمل الإذاعي، والتخطيط لبرامج ثقافية ومنوعة وخاصة وفنية، والتوسُّع في الإنتاج الدرامي، وفي تدريب المخرجين، وإفساح المجال أمام رموز الفكر والثقافة والإبداع، تدوي أصواتهم من خلال إذاعة الكويت، وتمتلئ البرامج المختلفة بآثار أقلامهم وإبداعاتهم، وتتسع آفاق التعامل مع الإذاعة في شتى مراقبات العمل فيها- التي اجتذبت عشرات من شباب الكويت، في مرحلة ما قبل إنشاء الجامعة، وكم كنت محظوظًا بالتعرُّف خلال العام الوحيد الذي قضيته وقتها على العديد من هؤلاء الممتلئين بحلم المستقبل، والمشحونين بوهج اقتحام آفاقه وتلبية تطلعاته من أمثال صقر الرشود وعبدالعزيز السريّع ومحمد الفايز (سيزيف) وخالد سعود الزيد وعلي السبتي وغيرهم، من الذين كان الرهان على أنهم نجوم الكويت وكواكبها في سنوات قادمة.

          ثم بدأ الرجل يتكشَّف لنا عن كونه الإنساني ومكنونه الفكري حاملاً في أعماقه كما حمل جيله كلّه بتنوعات مختلفة مشروعًا للنهضة، يبادر إلى كل جديد، ويسرع إلى تبني كل فكرة إيجابية لغرس هذا الجديد واستنباته في البيئة الكويتية، ويتطلع دومًا إلى من سبقوا في المضمار، لا يخفي إعجابه بهم، والرغبة في أن يحاذيهم ويكون مثلهم، ويسبقهم لو أمكن، ولم لا .. أليس لديه من الإمكانيات ما يحفزه على القيام بهذا الدور؟

          كان الشاعر فيه منطلقًا للحلم. وكان الإنسان فيه يوائم دائمًا بين انطلاقات الحلم، وضرورات الواقع والتلاؤم معه، واستمر بداخله طويلاً هذا الجدل بين الشاعر ومسئول الإعلام، بين القوميّ النزعة ومن يؤثرون القُطْريَّة والنظرة الجزئية فيما لا يتجاوز الحدود، ولا ينداح إلى خارج الأفق الإقليمي.

          وكان الرجل يبدو لنا وكأنه منذور لرسالة لا يحيد عنها، ومهمة هي بالنسبة إليه تكليف وتشريف، وهو لا يرتضي أبدًا أن ينسب إليه في أي وقت قصور أو عجز أو قلة حيلة، أو توقف عند السهل وهو يحلم بالصعب، أو رضا بالقليل وهو يستطيع أن يحقق الكثير. وبهذا المعنى أصبحت أنا وزميلي إسلام فارس باقترابنا الشديد منه نرى في أستاذيته وفكره قدوة لنا، ولأمثالنا من الشباب الذي يحلم مثله بمستقبل رائع لهذه الأمة، وضرورة إعداد النفس لنضال طويل وشاق من أجل تحقيقه وإنجازه. وكنا محظوظين به، وبروحه الشابة المتوثبة، وتشجيعه الهادئ، وإحاطته بظروف وأوضاع تتداخل وتتقاطع، واكتسبنا منه خبرة نظرية وعملية، ظل تأثيرها فينا إلى اليوم. وعندما تركت الكويت في ختام عام 1964، كنت أحسّ عن يقين أن لي صديقًا وأخًا كبيرًا، قامت بيني وبينه علاقة وثيقة، تجمع بين الشخصي والإعلامي والشعري، وأنها قائمة بيننا وممتدة، فيما هو مقبل من الزمان، وقد كان.

أحمد السقاف شاعرًا

          ينتمي السقاف شعريًّا إلى جيل الكلاسيكيين الكبار الذي استوعب تقاليد القصيدة العربية لدى أعلامها الأول، وأبقاها حية، تتردد أصداؤها بقوة، في محافل الشعر ومنتدياته وملتقياته، لأمد طويل. وهو جيل تلتمع فيه أسماء لكلٍّ منها سمته ومذاقه الخاص وإن تجايلوا أو تعايشوا في زمن واحد، وجمعوا بين نظرات وتطلعات شعرية وثقافية شتى، وكانت انتماءاتهم واهتماماتهم تصب في نهر الشعرية الكويتية. وهكذا اتسع الفضاء الشعري لأحمد العدواني وأحمد السقاف وعبدالله حسين وعبدالله زكريا الأنصاري وعبدالمحسن الرشيد، ومن قبلهم عبدالله سنان وفهد العسكر، لكنهم جميعًا بصورة أو بأخرى نجحوا في أن يدقوا أبواب التجديد الشعري، وأن يفتحوا لتحديث القصيدة بابًا وأبوابًا، وأن يسبح كل منهم في فضائه الشعري وحده، وخاصة أن كثيرًا منهم كانوا يجمعون بين صفات الشاعر المعلم والمربي وصفات الشاعر الوطني والقومي.

          يقول الدكتور سليمان الشطي في تقديمه لمختارات من الشعر الكويتي ضمن مختارات الشعر العربي في القرن العشرين الصادرة عن مؤسسة البابطين (الجزء الرابع - الكويت 2001) وهو يتحدث عن السقاف وجيله من الشعراء: «عندما ننظر إلى هذا الجيل الذي جاء يحمل خط خالد الفرج السياسي، سنجده وضع الهم العام نُصْب عينيه، فأحمد السقاف، مع نشاطه الفكري والسياسي والاجتماعي، يقدم ديوانه الكامل الذي هو سجل فني متفاعل مع كل الأحداث التي مرت على الأمة، فلن تجد حدثًا قوميًّا إلا وشعره حاضر فيه.

          إن السقاف الرجل الشاعر، شاهدُ تصميمٍ وعزمٍ على الغاية الوطنية المتبلورة الواضحة، التي لا تقبل جدلاً كبيرًا. ويقف بجانبه من شعراء القصيدة السياسية ذات الدعوة المباشرة آخرون، منهم عبدالله حسين وعبدالله زكريا الأنصاري، وهو جيل جمع بين الكتابة النثرية والعمل السياسي، وجعل الشعر وظيفة من وظائف الدعوة».

          وهكذا يصدق على شعر أحمد السقاف أن يقال عنه إنه امتلأ بصورة المعلم المربي، والسياسي القومي، وصاحب النزعة المسئولة والفكر النهضوي بالإضافة إلى ما اتسع له المجال من تنفس الذات الشاعرة في مواقف مكابدة الشوق والحنين والالتفات إلى مواطن الذكريات. وهي تنفسات تلتمع كحبات العقد في ثنايا شعره المتوهِّج بالاستجابة الفورية لأحداث الوطن العربي ومعاركه النضالية الفائرة.

          يقول أحمد السقاف في قصيدته البديعة، ذات النزعة الوصفية الإنسانية المرهفة، والحسّ الوجودي الكوني العميق «العصفور الأصفر»، مقدمًا للوحته الشعرية الأخَّاذة بهذه الكلمات: «قصد الشاعر مدينة الحديدة من صنعاء (عام 1966) لتفقُّد مشاريع الكويت، وفي الطريق استراح مع أصدقائه تحت شجرة تحمل مئات الأعشاش، وقد شدّ انتباهه عصفور من تلك العصافير الجميلة حين كان يغيب ثم يعود بالغذاء لصغاره ويطعمها واحدًا بعد الآخر دون أن يخطئ، ورسم الشاعر ذلك المنظر الرائع في هذه القصيدة»:

يا طير يا عصفور يا أصفرُ
ما لي إلى غيرك لا أنظرُ
يهْنيك ما يسْبي وما يسْحرُ
ومنظر يُزري به منظرُ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

يا طيرُ أعشاشك فيها العجبْ
لم ترَ عيني مثلها في الحقبْ
كم غرضٍ راعيت كم من سبب
وكم عذاب ذقت كم من تعب
يا طيرُ يا عصفور يا أصفرُ

                    ***

في آخر الأغصان شيّدْتها
كالمهد للأفرخ أعددْتها
تهزّها الريحُ كما رُمْتَها
أتقنْتَ مبناها وأحكمْتَها
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

السهل بالخضرة ما  أروعَهْ
والأفقُ الممطرُ ما أوسعَهْ
وكلُّ وادٍ أرضهُ مُمرعةْ
والرزق ميسورٌ فعش في دعَهْ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

اللهَ للزقزقة النّاعمة
من أفرخٍ عاريةٍ جاثمة
تُحِسُّ بالأطعمة القادمة
تجلبُها في نشوةٍ حالمة
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

تقضي النهار الحلو بين الجِنانْ
تسعى بروح مفعمٍ بالحنانْ
لم تدْرِ شيئا عن صروف الزمان
والليل تقضيه بِعشِّ الأمان
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

انظر إلى الورقاءِ ذاتِ النُّواحْ
تبكي على عُشٍّ ذرتْه الرياح
وأفرخٍ ضاعت قُبيْل الصباح
لا أرجلٌ تحملُها لا جناح
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

لو أتقنَتْ مثلك ذاك البناءْ
واحتملتْ مثلك بعض العناءْ
لكان فيما شيّدْتهُ النَّجاءْ
فالعملُ المُتقنُ سرُّ البقاء
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

يا طيرُ حدِّثني عن الأقدمينْ
عن حِميرٍ عن سبأٍ عن معينْ
وعن حضارات السّنين السّنين
فأنت قصّاصٌ دقيق أمينْ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

                    ***

لا تحْزنَنْ يا طيرُ للذكريات
فكلُّ ما ولّى تولَّى وفاتْ
فالقوم قد هبُّوا فما من سُباتْ
والمجدُ إن جدُّوا قريبٌ وآتْ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

          هذه القدرة الفائقة على الرسم والتصوير بالكلمات، وهذا التأمل الطويل العميق المستبطن للحظة شعرية نفسية توقفت عند هذا الطائر الذي لم يعد مجرد طائر، بل هو رمز لحياة عريضة متجددة شاملة، ورمز للزمن العابر الذي شهد حضارات الأقدمين من حمير وسبأ ومعين، في يَمَن العصور الخالية، ورمز الدعوة التي ينتقل فيها الشاعر من الخاص إلى العام ومن الجزئي إلى الكليّ مستنهضًا همم الأمة، ونافخًا في صور القوم حتى يهبوا من السُّبات الطويل، ساعين للمجد الذي اقتربت قطوفهُ ولاحت علاماته. هنا تصحو في وجدان الشاعر نزْعته القومية وموقفه الرائع من حركة الحياة نهضةً وبناءً وعمرانا.

          وفي قصيدته المبكرة «أعدّ الحقيبة» التي أبدعها عام 1960، وأصبحت من أكثر شعره حضورًا على الألسنة والأقلام بعد أن تغنَّت بها المطربة نجاة، في هذه القصيدة التفاتة رومانسية عامرة بفيض المشاعر والأحاسيس في لحظة الفراق والسّفر، وفيها أيضًا هذا النزوع المبكر لدى السقاف للخروج من أسْر البناء الكلاسيكي الصارم: لغةً وإيقاعًا وأسلوب تناول. إنه هنا على سجيته وفطرته الشعرية والإنسانية، يتغنى كما يتغنى الرومانسيون، وتتوهَّج كلماته بأصداء الحنين، وتتدافع انطلاقًا من موقف ذاتي محدود لتصبح ساحة للتغني بمعنى إنساني رفيع، يتمثل في قرب اجتماع الشمل واكتمال دائرة المحبة والعودة إلى حيث الهوى الموغل في الزمن والشعور.

يقول أحمد السقاف:

أعدّ الحقيبة ثم ابتسمْ
وأسكر روحي بحلو النغم
وقال: طربتُ إلى سفرةٍ
أزورُ بها مصر أمَّ الهرم
فقلتُ له: ما أمرَّ الفراقَ
ولكن متى شئت يحلو الألمْ
وودّعتهُ في المطار ودمعي
يريد التدفق لولا الشَّمم
وطار فؤادي عليه وعُدْت
إليه أُجرِّرُ مني القدمْ
وحاولت أكتمُ حزني، ولكن
فشِلْتُ ولم يبْق لي ما اكتتم
وكم من ليالٍ سهرتُ أُناجي
له صورةً دونها بدرُ تِمّْ
أقولُ له: إنني في عذابٍ
ومن فرْط حُبِّي له لم أَنمْ
وإني أعيشُ بسجنٍ صغيرٍ
وجسميَ من غير روحٍ ودمْ
وإنّ الذي كنتُ ألقاهُ حُلوًا
تغيَّرَ في ناظري واصطدمْ
فما نزهتي غير تضييع وقتٍ
وما وحدتي غير تجميع همّ
ولما أتاني منه جوابٌ
يؤكد لي شوقه بالقسمْ
ويُعربُ عن عودةٍ في القريبِ
ويكشفُ عن حُبِّه والنّدمْ
مسحْتُ جراحي وقلتُ يعيشُ
هوًى بيننا مُوغلٌ في القدمْ!

          وفي قصيدة حفل التكريم الذي أقامته له رابطة الأدباء في الكويت في الخامس من مايو عام 1999 يفصح أحمد السقاف عن المزيد من مكوّنات نسيجه الإنساني الثريّ، وهو يعتز بصحبة الرفاق، ومؤازرتهم له، وأنه من دون عونهم لم يكن لينهض بكل ما نهض به، وهو موقف يكشف عن تواضع النفس العظيمة، وامتلاء وجدان صاحبها بالزخم الإنساني، والصدق مع الذات ومع الآخرين، يقول السقاف:

يا صحابي إفضالكم فوق جُهدي
حار في شكره فؤادي وودي
إنّ هذا التكريم يا أنجُمَ الحفلِ
لَباقٍ فيما أُكنُّ وأبدي
كيف أزجي إليه شكري وقد صرْ
تُ رهين القديم والمستجدِّ
لكمو الفضل يا صحابي، فقد كُنْـ
تمْ إلى جانبي وما كنتُ وحدي
قسمًا لو بعُدْتُ عنكم لأَمْسى
خاطرُ الشعر واهنًا غير مُجْدِ
أنتمو الوحيُ في القريض، وأنتم
حين يُنْضَى اليراعُ كفِّي وزندي
وعلى الحرف قد تشابكت الأيـْ
دي، لنرْقى به إلى خير قصْدِ
واليراعُ الأبيُّ في صُنْعهِ الحرْفَ
فرِنْدٌ يفوقُ أيَّ فرِنْد!

          صدق أبو أسامة. ولنا من عطره الباقي: إنسانًا وشاعرًا ما يملأ النفس، ويستقرُّ في الوجدان والذاكرة.

----------------------------------

أهوى؟ ولات اليوم حين تصابي
                              وجوى؟ وقد غمز المشيب شبابي؟
والأربعون بقضّها وقضيضها
                              جثمت مزمجرة ، قبالة بابي
يا ميّ ! أشطان الخيال أرثّها
                              متح الوقائع من معين سرابي
وأزاهر الشوق الملحّ أحالها
                              لفح السّموم تغضبا بإهابي
فهواك لم يبرح يعطر نشره
                              مسّ الجنون بحسنك الخلاب
وعيونك السوداء تنظر خلسة
                              وتشع سحرًا من وراء حجاب

عِرَار

 

فاروق شوشة