عائشة التيمورية: شاعرة الطراز الـحزين

عائشة التيمورية:  شاعرة الطراز الـحزين

شقت الشاعرة المصرية عائشة التيمورية أستار القرن الثامن عشر في منتصفه على «حريم» ذلك الزمان بواسطة حد القصيدة وحدها، ومضت تهيئ لمن بعدها من الشاعرات طريق القوافي بأناقة وأناة.. وإصرار تدل عليه آثارها الشعرية والنثرية.. واسمها الباقي كنجمة للريادة.

 تحكي عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا بن محمد كاشف تيمور، بداية الحكاية بسجع ذلك العصر وتكلُّف لغته، تقول في كتابها الذي سجلت فيه جانبا من سيرتها وسيرة العصر «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال»: «فلما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي تقدمت إليَّ ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والإتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران، بأدوات النسج والتطريز، وصارت تجدُّ في تعليمي وتجتهد في تفهيمي وتفطيني، وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرف النساء الترقي، وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، والتهافت على حضور محافل الكتب من دون ارتباك، فأجد لصرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وأتخيل أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس - من شوقي - قطع القراطيس وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام، وأقلد الكتاب في التحرير لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدتي، وتعنفني بالتكدير والتهديد فلم أزدد إلا نفورا، وعن هذا التطريز قصورا، فبادر والدي - تغمد الله بالغفران ثراه - وقال لها: «دعي هذه الطفلة للقرطاس والقلم».
ودعيت الطفلة، المولودة لأسرة أرستقراطية في القاهرة عام 1840م، فعلا للقرطاس والقلم على غير  العادة في تربية البنات وفقا لتقاليد ذلك الزمان العربي المنتكص على أعقابه.  استثمرت تلك الصغيرة النابهة وعي والدها بشغفها المبكر فكانت تقرأ كل ما تجده أمامها من حروف مكتوبة، وعلى الرغم من أنها لم تنتظم في مدرسة فإن والدها أتى لها بمعلمين درست على أيديهم اللغة العربية واللغة الفارسية واللغة التركية وعلوم النحو والصرف والبلاغة والخط والعروض، بالإضافة الى بعض العلوم العصرية الأخرى، وعندما تزوجت لاحقا استعانت بمعلمتين لاستكمال دروسها على يديهما، وكانت في ذلك الوقت قد تفتحت موهبتها الشعرية في إطار التقليد الغارق في فنون المحسنات البديعية، إلا أن قلة منافذ النشر، وربما انعدامها أمام تلك الفتاة الصغيرة ساهم في حبس موهبتها الشعرية بين جدران التكرار طويلا. ويبدو أن زواج عائشة التيمورية وهي دون الرابعة عشرة من عمرها من رجل ينتمي لعلية القوم في ذلك الزمان حدَّ قليلا من تنامي موهبتها الشعرية بشكل حر، فكانت تتحرج - كما يبدو - من طرق موضوعاتها الشعرية كما يفعل مجايلوها من الشعراء على سبيل المثال. ولذلك وجدت تلك الموهبة متنفسها الأوسع في فن الرثاء الذي أقبلت عليه التيمورية بحرقة قلبها المكلوم بوفاة وحيدتها «توحيدة». ظلت عائشة تكتب المرثية تلو المرثية في تلك الصغيرة التي رحلت عن الحياة مبكرا تاركة أمها الشاعرة تتوجع في مفازاة الحزن شعرا يقطر عذبا وشجنا، من دون أن يتخلى عن الوجع الذي أثقله وكبل جناحيه، ويبدو أن التيمورية التي بالكاد استطاعت الخروج من الشرنقة النسوية التقليدية بنشر قصائدها ومقالاتها ومكاتبة أديبات عصرها في مصر ولبنان لم تكن تقوى على أكثر من ذلك ليس لضعف موهبتها في القول الشعري، كما قد يبدو من قراءة دقيقة لشعرها، بل لأن التقاليد الاجتماعية المفروضة عليها بصفتها امرأة أولا في مجتمع كان لايزال يناقش حق المرأة في تعلُّم القراءة والكتابة وحسب، وبصفتها ابنة إحدى الأسر المصرية العريقة التي ترتبط بصلات وثيقة بقصر الخديو آنذاك، وهو ما حتم عليها الانتباه كثيرا لكل ما تنشره حتى لا يساء فهمه أو يؤول لما يضر بوضع والدها. ولولا وعي هذا الوالد المثقف وإيمانه بموهبة ابنته وتفهُّم كثير من أبناء الأسرة التيمورية، التي خرَّجت في ما بعد أسماء أدبية كثيرة ساهمت في تكوين المشهد الثقافي المصري، لما استطاعت عائشة أن تستمر في الكتابة والنشر.
حبست الشاعرة التيمورية قصيدتها في إطار الرثاء سبع سنوات متواصلة إثر وفاة ابنتها، وبقيت تعيش في حزن دائم تفاقم مع إصابتها بمرض في المخ عانت منه أربع سنوات حتى أسلمت الروح المثقلة بأحزانها في العام 1902م، تاركة وراءها ديوانا باللغة العربية عنوانه «حلية الطراز»، وآخر باللغة التركية عنوانه «ديوان عصمت».  ورغم أن بعض من كتب عنها يتحدث عن ديوان شعري لها باللغة الفارسية، فإن هذا لا يبدو دقيقا، فلم تكتب بالفارسية إلا بعض القصائد التي كانت تحتفظ بها ابنتها، وأحرقتها الشاعرة لاحقا مع ما أحرقت من أوراق لها بعد وفاة ابنتها لأسباب غير معروفة تماما.
بالإضافة إلى  الشعر، نشرت الشاعرة كتبا نثرية أشهرها «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال»، سجلت فيه جوانب من سيرتها بالإضافة إلى بعض القصص التربوية، وآخر عنوانه «مرآة التأمل» عن قضايا أدبية سائدة في ذلك العصر. كما تركت وراءها أيضا رواية بعنوان «اللقاء بعد الشتات»، وأخرى غير مكتملة بقيت مكتوبة بخط اليد. ورغم أن التاريخ الأدبي يسجل لعائشة التيمورية ريادتها الشعرية ونضالها في سبيل تحرر المرأة العربية  مع نهايات القرن التاسع عشر، فإنه يذكر لها أيضا أنها نشرت عددا من المقالات عارضت فيها الآراء التحررية لقاسم أمين.. الكاتب الذي يعتبر أحد أهم وأول من دعا لتحرر المرأة العربية.. ويا للمفارقة.