تجربتي في مجلة «الحياة المسرحية»

تجربتي في مجلة «الحياة المسرحية»

 في عام 1976، سنة تأسيس «الحياة المسرحية» و«المعهد العالي للفنون المسرحية» بدمشق، كنا مندفعين بحماسة كبيرة لوضع أحجار الأساس العلمية - الفنية الضرورية للنهوض بالمسرح السوري على قاعدة متينة، ولاسيما أن «مهرجان دمشق المسرحي» كان قد حقق بضع دورات ناجحة، وطرح في ندواته ولقاءاته الإشكاليات الرئيسة التي تواجه المسرح العربي فكرياً وفنياً.
كنا حينذاك موظفين، والمجلة الوليدة تابعة لوزارة الثقافة، لذلك لم يخطر في بالنا عند التأسيس مناقشة الأمور الإدارية والمالية للمجلة، إذ اعتبرنا ذلك شأناً بديهياً في إطار وزارة. فكانت النتيجة أن أمضينا كل سنوات عملنا في غرفة واحدة في مبنى مديرية المسارح والموسيقى، دخلاء عليها إدارياً، من دون مراسل ولا حتى ضارب آلة كاتبة. وتبيّن أنه لا مخصصات بالقطع الأجنبي للمجلة لدفع مكافآت كتَّابها العرب بحوالات مصرفية، ما أعاق إلى حد كبير إمكانيات التعاون مع الكتَّاب والنقاد والمترجمين من خارج سورية.
لقد كان قرار إصدار المجلة مرتجلاً من دون دراسة تحضيرية، وذلك تلبية لرغبة الكاتب سعدالله ونوس من طرف د. نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية آنذاك. لكن هذا القرار لم تتبعه إجراءات تحدد النظام الداخلي للمجلة وجهازها الإداري ومخصصاتها المالية وغير ذلك. فكان هذا يضطرنا مع كل عدد جديد إلى خوض معارك جانبية ومماحكات بيروقراطية مع بعض مديريات الوزارة أعاقت عملنا كثيراً.
كما أننا بذلنا جهوداً مضنية مع وزارة المالية لإقناعها بجعل التعرفة السارية في مديرية التأليف والترجمة تشمل بقية مجلات الوزارة كالحياة السينمائية والموسيقية والتشكيلية، بدلاً عن مبدأ المكافآت الرمزية التي لا تشجع أحداً على الكتابة أو الترجمة لنا. وعلى الرغم من أن هذه التعويضات لا تقارن طبعاً بما تدفعه المجلات الثقافية الخليجية أو الصادرة في لبنان، فقد صمدنا، لأننا بقينا لفترة طويلة المجلة العربية الوحيدة المتخصصة بالمسرح، بعد توقف المصرية، ولاعتمادنا إلى حد كبير على الجهود المحلية وعلى إسهامات كتاب عرب قدّروا أهمية التخصص وتوجه المجلة فكرياً وفنياً.

مشروع طموح
وعلى صعيد السياسة الثقافية، كان مشروعنا في المجلة طموحاً، وقابلاً للتحقيق، إن توافرت له الشروط المناسبة على صعيد الممارسة العملية، آخذين بعين الاعتبار الاحتياجات العلمية لمدرسي وطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية حاضراً ومستقبلاً، ولاسيما أن المنهاج التدريسي قد اعتمد على مراجع حرة بدلاً عن كتب تعليمية مقررة، وذلك للتحفيز على البحث العلمي - الفني؛ ما دفعني لاحقاً بصفتي رئيس قسم الدراسات المسرحية ثم وكيل المعهد إلى إصدار «مطبوعات المعهد العالي للفنون المسرحية»، التي نشرت من خلالها أمهات المراجع المسرحية، والتي توقفت مع الأسف الشديد مع إحالتي إلى التقاعد عام 2005.
وقد ركزنا في خطتنا في المجلة على تقديم التجارب المميزة في تاريخ المسرح عالمياً، قديمه وحديثه، على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا والدراماتورجيا والأزياء والماكياج والإضاءة والعمارة ونظريات التلقي والنقد والرقص والموسيقى والتقنيات. وكان من أهدافنا استكشاف آفاق جديدة ودراسة خصوصياتها عبر وسائل تعبيرها، فالتفتنا إلى المسرح الإفريقي المتنوع ومسرح بلدان أمريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا والهند. وقدمنا هذا كله للقارئ من خلال ملفات شاملة تضم الدراسات النقدية التوثيقية، إلى جانب الصور والرسومات التوضيحية. ولتحقيق ذلك كان لابد من استقطاب مترجمين مثقفين لخوض تجارب جديدة من نوعها في أراض بكر على صعيد اللغة العربية.
وعلى خط موازٍ، حاولنا جهدنا للتعريف بالتجارب المسرحية اللافتة في البلدان العربية من جميع جوانبها. وكانت المهرجانات المسرحية في القاهرة وتونس ودمشق مناسبات مهمة للالتقاء بأصحاب هذه التجارب أو بمن عرفهم من قرب وعمل معهم، ولجمع المعلومات عنهم وتوثيقها، إضافة إلى المراسلات طبعاً.
وعند اختيار نص مسرحي ما للنشر، لم يكن غرضنا التعريف بالنص ومؤلفه، أو إضافة نص جديد إلى المكتبة المسرحية بالعربية، بل كان منطلقنا الرئيس أهمية النص الراهنة وقابليته للتنفيذ على خشبات المسارح السورية والعربية.
 وقد خصصنا مساحة تعادل ربع العدد تقريباً لمتابعة الفعاليات المسرحية المحلية والعربية والعالمية، ولاسيما المهرجانات، بمقالات نقدية تطبيقية، بعضها مترجم، وذلك لتعريف القارئ المهتم بفن المسرح بما يجري من حوله، لتعويض جزء من الفقر المدقع بصرياً في إمكان اطلاع المهتم بنفسه على هذه العروض، ولاسيما أن تلفزيوناتنا العتيدة لم تول اهتماماً حقيقياً بالمسرح الفني إلا لإبراز وجوه المسؤولين الذين حضروا هذا العرض أو ذاك.
على إثر مرض سعدالله ونوس وخضوعه للعلاج الكيميائي، تسلمت مهام رئاسة التحرير في مطلع، تسعينيات القرن الماضي، وكان المسرح العربي عامة في حالة نكوص، نتيجة للوضع السياسي والاقتصادي والثقافي ككل. حاولت ما أمكنني الحفاظ على مستوى المجلة، لكن الأمر كان عسيراً في سياق التدهور العام للثقافة وموقعها ضمن اهتمامات الدولة. وأمضيت سنوات عدة أدير شؤون المجلة من بابها لمحرابها وحدي.
أما على الصعيد الشخصي، فأقول إني قد استفدت فنياً وفكرياً إلى حد كبير من خلال عملي في المجلة، من حيث الاطلاع المستمر والمعمق على كل ما يجري في المسرح عالمياً، والاتصال بالكتاب والنقاد والمترجمين، والاطلاع على مختلف وجهات النظر والتأني في تقويم المادة وعدم الانبهار بالأسماء البراقة.
إضافة إلى أن العمل مع الراحل الكبير سعدالله ونوس كان ذا خصوصية من خلال النقاشات المستمرة في شؤون المسرح والثقافة والسياسة .