المجلات الفنية وثقافة «الخوف من الثقافة»

 المجلات الفنية وثقافة «الخوف من الثقافة»

في هذه الظروف الاستثنائية العاصفة، التي اجتاحت بعض البلدان العربية، بدا واضحاً أن الثقافة والفنون السبعة، بفروعها وألوانها المتجددة، توقفت في نقطة الصفر، وتجمدت، أو أوشكت أن تختفي في منظومة «كان يا ما كان في قديم الزمان»، وقبل ذلك انتشرت في تلك الأطراف المعصوفة ثقافة الخوف من الثقافة، بتدرجات متقاربة من العزلة والانطواء والانكفاء إلى الداخل، في ظل سيطرة الخطاب الفئوي السياسي المستهلك، أو السلفي غير المتصالح مع العالم كله، وغير المتسامح مع «الآخر»، أو مع نفسه أولاً وأخيراً، وكانت المجلات الثقافية والفنية مرهونة بالاستقرار، ومحكومة بمسايرة الخطاب الرسمي وما فيه من هوامش ضيقة ومتعرجة ومرصودة، وهذا ما يحبط المبادرات الشخصية للتطوير والتحديث، فالخوف من الثقافة هو المسيطر على الكاتب والقارئ والرقيب العتيد، الذي يخاف من نفسه أولاً، فتدور رحى الثقافة في مكانها المعتم، ويتوقف الزمن مع الشعارات والأغاني الوطنية الهابطة، بعد أن
«ألهت بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم»
وبدا أن بعض تلك البلدان لا تعمل شيئاً سوى استيراد الجوع وتصدير الخوف.
وكانت أكثر المجلات الثقافية والفنية في تلك البلدان تشكل منابر للخطابة المطبوعة في قالب مسبق الصنع، في الشكل والمضمون واللون، ولا يمكن مقارنتها مع المجلات الثقافية والفنية والصحف اليومية العالمية في القرن التاسع عشر وما بعده، تلك التي واكبت الفورات المتواصلة في تحديث الفن، وطورت فكرة نشر الروايات في حلقات مسلسلة، لتشويق القارئ وتحفيز الكاتب معاً، ومن هنا طلعت روايات مبهرة لكبار الكتـّاب ومنهم شارلز ديكنز، وكونان دويل وهنري جيمس، وتـــــــــــــولستوي، ودستويفسكي، وهــــيرمان ميلــــفيل، وألكسندر دوماس، ونشر غوستاف فلوبير روايته المثيرة للجدل «مدام بوفاري» ونشر تولستوي رواية «آنا كارينينا» على مدى أربعة أعوام، ونشر دستويفسكي «الإخوة كارامازوف» و«الجريمة والعقاب»، وقيل إن القرن التاسع عشر قرن الرواية والقرن العشرين قرن السينما، واستمرت تلك التقاليد حتى اليوم، وأضيف إليها تقليد النشر في المجلات والمواقع الإلكترونية.

بين خيارين
كان على الكاتب السوري أن يسلك أحد اتجاهين: ثقافة الإبداع الحر، أو ثقافة الخوف من الثقافة، التي تخضع لتعدد الرقابات الملتبسة، ومع كل هذا وذاك برزت على الساحة تيارات ومواهب فردية حرة مستقلة، في الكتابة والرواية والقصة والرسم والسينما والمسرح والموسيقى، وهي مواهب غير مدجنة، تعزف على أوتارها الخاصة خارج السرب أو القطيع التائه.
وفي عقد السبعينيات اختفت الدوريات الثقافية والفنية المصرية، ومنها مجلات السينما، المسرح، الفكر المعاصر، تراث الإنسانية، فتركت فراغاً واسعاً في مفكرة القارئ العربي، وأطلقت د. نجاح العطار، وزيرة الثقافة السورية السابقة، مشروعات ناجحة عدة، تمثلت في مهرجان دمشق المسرحي، ومهرجان دمشق السينمائي، وحزمة مجلات فصلية (الحياة المسرحية، الحياة السينمائية، الحياة التشكيلية، الحياة الموسيقية)، وكانت أكثر أعباء العمل في هذه المجلات تنصب على شخص واحد، فكان عملي في «الحياة السينمائية» مثلاً يشمل تأمين أكبر عدد من المطبوعات السينمائية بلغات مختلفة، واختيار أفضل المواد فيها وتوزيعها على المترجمين الذين تواصلت معهم، كما تواصلت مع عدد كبير من الكتَّاب والنقاد العرب، وإضافة إلى المقالات النظرية كانت المجلة تعنى بتقنية السينما وعلاقتها مع الفنون الأخرى، وترصد أهم الأفلام الجديدة في العالم والأفلام الفائزة بجوائز المهرجانات وجوائز الأوسكار، وتنشر ملفات خاصة عن أهم التيارات السينمائية العالمية، كالموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية والتعبيرية الألمانية والواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، ومما ساعد على التواصل مع هذه الثقافات توافر عدد كبير من المترجمين من اللغات الحية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والتركية والفارسية والكردية، وإلى جانب الملفات كانت المجلة تنشر ترجمات لسيناريوهات أفلام نادرة في تاريخ السينما، وفصولاً من مذكرات كبار المخرجين والممثلين، وكنت حريصاً على تجميع أكبر عدد من الكتب السينمائية المختارة بلغات مختلفة، من المكتبات الشهيرة في العواصم والمدن التي زرتها في الشرق والغرب، فقدمت اقتراحاً إلى د. نجاح العطار، بإصدار سلسلة كتب سينمائية بعنوان «الفن السابع» لا تخضع للدور الذي تخضع له كتب الوزارة، فوافقت على الطلب، ولكن تنفيذ الفكرة تأخر عامين، وأخبرني الروائي حنا مينة، الذي كان يعمل مستشاراً في الوزارة، بأن أحد النقاد السينمائيين طلب إلغاء المشروع، لأنه اتفق مع ناشر لبناني على إصدار سلسلة كتب سينمائية أفضل، لكنه لم ينشر سوى كتابين هزيلين من تأليفه، ثم اختفى فجأة، وكان من النوع الذي لا يليق به إلا التجاهل، فتابعت الموضوع مع مدير المؤسسة آنذاك، الذي عاتبني لأنني أخذت الموافقة من الوزيرة باليد، دون المرور بالتسلسل الوظيفي، ثم قال: ليس لدينا مخصصات لنشر الكتب، فهل لديك اقتراح؟ فاقترحت عليه فكرة طارئة وغريبة، تتمثل في تغطية تكلفة الكتب من مخصصات تصليح السيارات، فالكتاب محرك مثل محرك السيارة، ويمكن تنزيل كتاب مع تنزيل محرك السيارة، فأعجبته الفكرة، وولدت أول سلسلة كتب سينمائية عربية متواصلة منذ عام 1992، صدر منها مئتان وخمسة وستون كتاباً سينمائياً حتى الآن، وهو رقم قياسي في نشر الكتب السينمائية بالعربية.
وفي سنوات عدة من عقد التسعينيات، بدأت المجلة تتعثر وتتأخر بسبب خضوعها لمراقبة مدير عام سابق، فحينما تكتمل المواد كان يتأبطها ليقرأ كل ما فيها في المنزل، ولا يعيدها إلا بعد شهرين أو ثلاثة، بعد أن يحذف ويضيف ما يوحي بأنها تحت السيطرة، واحتل صفحتين في أول المجلة لتغطية أخبار إنجازاته الفريدة، وخصص الصفحة الأخيرة لخواطره الملتوية في المدح والقدح، وكان عملي يشمل تصحيح لغة المواد والأخطاء الطباعية وتجهيز الصور، وحينما يحرد المخرج، مطالباً بزيادة الأجرة، كنت أضطر إلى إخراج المواد كاملة بالطريقة القديمة (قص الأعمدة المطبوعة وتلصيقها على ورق الماكيت) في جلسة طويلة واحدة.
ومنذ البداية أقنعت السيد المدير السابق بأهمية احترام الكتـّاب والمترجمين، فلا نحسب أجورهم بعدد الصفحات، ولا بالتسعيرة الرسمية الهابطة، وإنما بأهمية الموضوع وجودة الكتابة وأخلاق الكاتب ومستواه المعيشي، فالقريب من الفقر أو الذي يعاني أزمة صحية نزيد له الأجر، واتفقنا على دفع الأجور قبل صدور المجلة أو الكتاب، واستمر هذا التقليد، كأنه قانون رسمي.
وفي عام 2000 أعلنت وزيرة الثقافة الجديدة أنها قررت دمج المجلات الفنية الأربع، في مجلة فنون واحدة، ودعت رؤساء التحرير إلى اجتماع لتنفيذ القرار، وحينما وصلني الخبر اتصلت بهم وطلبت منهم تجاهل الاجتماع، وكتبت إلى الوزيرة الجديدة يومذاك بأن قرار دمج المجلات ليس إنجازاً ثقافياً، وسبق أن أخفقت هذه الفكرة في مصر، والأفضل أن يزيد عدد المجلات، فتصدر مجلات جديدة عن «الحياة المعمارية» أو «الفنون الشعبية» مثلاً، وجاءني الرد سريعاً، بالموافقة على مضمون رسالتي والتخلي عن قرار الدمج العشوائي.
 وحينما مللت من السينما والخطابة، عملت سنوات عدة مديراً للنشر في دار المدى التي لم تخضع لسلطة الرقابات، المعلنة أو الخفية، حينما كان مقرها في دمشق.
للعمل وقت، وللحب وقت آخر... ولا وقت للبكاء على الأطلال.