الشعر العربي... ذلك المتهم البريء!

الشعر العربي...  ذلك المتهم البريء!

هل تتحمّل العبقرية العربية المبكرة في إنشاد الشعر، المسؤولية التاريخية في انصراف المبدع العربي منذ العصور الجاهلية، مروراً بالعصور الإسلامية المتأخرة، عن التعاطي مع النثر، قصة ورواية ومقالاً ونصاً مسرحياً؟! 
فقد نقل لنا التاريخ صوراً مشرقة عن الإنسان العربي القديم، الذي كانت القصيدة الشعرية هي مجاله الذي وضع فيها جل طاقته، واختصر في عمقها كل إمكاناته اللغوية والفكرية وحتى العلمية، من أجل أن يعبّر بشكل أكثر وضوحاً عن نفسه أو مجتمع القبيلة الذي كان يعيش فيه وينتمي إليه ويدين له بالولاء والطاعة. 

لم يترك تراثنا العربي من الشعر، مدحا وهجاء وحكمة ونصحا وإرشاداً ورثاء ووصفا، قضية إلا وحدثنا عنها، ولم يخــــرج مـــن مشهد أو حادثة أو واقعة إلا وأدخلنا معه فيها، ولم يتوقف عند حكمة أو طرفة أو نصيحة إلا وأرغمنا على التحليق في معانيها، والتفكّر في مضامينها... تراثنا العربي من الشعر أيقونة الأقدمين، وتاريخ عصور شربت من الشعر إلى حد الثمالة.
فهل كان للشعر دوره المثبط والمميت لأجناس أدبية أخرى كان لها فرضية أن تظهر مبكراً على ألسنة العرب القدامى؟!... أولئــــك الذين عركوا الحياة وكانت لهم أحداثهـــــــم وأحلامــهم وآلامهم، في بيئة صحراوية قاحلة، أجبــرتـــهم على خوض المهالك في سبيل البقاء، ولم تترك لهم المفاضلة بين خيارين: التحدي أو الفرار من مصائرهم، فجعلتهم يقبـــلون على الصمـــــود فـــــي عجلة ومن دون تفكير، بغــــية أن يبقى ذكرهم في سجلات الزمن، وعلى حبات الرمال الحارقة!
هل تجنّى الشعر- كما يرى أدباء وباحثون ودارسون- على أشكال أدبية أخرى كالرواية والقصة والمسرح؟! بحيث إنه استحكــــم بحلقــــــاته على أفئدة وألسنة ومُهــــج الـــــعرب القدامى، فيما لم يأخذ حيّزه المرموق في وجدان أمم أخرى، فشقت الأجناس الأدبية الأخرى طريقها جنبا إلى جنب مع الشعر أو حتى تفوقت عليه.
وهل أثر هذا الوجــــود الأوحــــد للشعر على مسيرة الأدب لدينــــا، لنقــــول إن الأدب العربي ولد منقوصا لأنه لــــم يحــــتـــو إلا على الشــــعر؟!
ولن نبرر أو نسوق الحجـــج التـــــي تتحــــدث عن أن العرب القدامى في تاريخهم المتأخـــــر عرفوا النثــــــر من خلال أهازيج الكهــــان، وأنهــــم طوّروا في مسألة التعاطي مع الأدب لتظهر المقامات وخلافه... لن أقــــول ذلك لأنني على قناعة كبيرة بأن الشعر- شكلاً ومضموناً- سيطر سيطرة كاملة على وجدان العــربي القديـــم، وجعله غير مدرك لأي شكل أدبــي آخر غيره، ولم يتمكن بأي حال من الأحـــــوال
مــــن أن يبتكر شكلاً أو اسمـــاً أدبياً آخر غير الشعر!
هذا ما خلص إليه وجداني في رؤيتي الشخصية، تلـــك التي أرى أنهــــا تتقـــبل الاختلاف قبل الاتــــفـــــاق، إلا أنها رؤيــــة سيطرت على مشاعري وأصبحت مقتنعاً بها تماماً.
وفي المقابل، أنكر كل الإنكار أن يكون الأديب العربي القديم- دعنا نصفه بالأديب كي تكتمل الفكرة- كان روائياً بارعاً وقاصاً متمرساً ومسرحياً ملهماً... كيف؟!
سأقول كيف: حينما نتأمل إحدى قصائد الشعراء العرب الجاهليين، ولنختر مثلا معلقة الشاعر عنترة بن شداد، وبقراءة متأنية، لا يسحرنا فيها الشكل الشعري، سنكتشف أدبها وما تحمله من رؤى عامة لا تحمل فقط الرؤية الشعرية الضيقة التي وضع فيها النقاد تحليلهم، ولنكن منصفين ونقرأ القصيدة برؤية القارئ للرواية أو القصة أو النص المسرحي وسنرى الحقيقة:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ
أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـمِ
يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي
وَعِمِي صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِي
فَوَقَفْـتُ فيها نَاقَتي وكَأنَّهَـا
فَـدَنٌ لأَقْضي حَاجَةَ المُتَلَـوِّمِ
وتَحُـلُّ عَبلَةُ بِالجَوَاءِ وأَهْلُنَـا
بالحَـزن ِفَالصَّمَـانِ فَالمُتَثَلَّـمِ
حُيِّيْتَ مِنْ طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْـدُهُ
أَقْـوى وأَقْفَـرَ بَعدَ أُمِّ الهَيْثَـمِ
حَلَّتْ بِأَرض الزَّائِرينَ فَأَصْبَحَتْ
عسِراً عليَّ طِلاَبُكِ ابنَةَ مَخْـرَمِ

عنترة هنا- في معلقته- يكتب قصيدة، غير أنه أيضاً يكتب قصة أو رواية فيها الأماكن والأحداث والتشويق، كما أنه يكتب النص المسرحي الذي يحتوي على الفرجة المسرحية، وأيضاً يكتب المقال الذي يعبر فيه عن نفسه وبيئته وتطلعاته، ولولا خوفنا من تهمة المبالغة لقلنا إنه يرسم لوحة تشكيلية مكتملة الأركان والعناصر، ولكنها لوحة تشكيلية مكتوبة وليست مرسومة، وربما لم يفطن الشاعر العربي القديم إلى أن هناك أجناساً أدبية أخرى غير الشعر، ليقتحمها أو ليكتب تحت اسمها روائعه الأدبية، ولو فطن لكتب أجمل الروايات والنصوص المسرحية والمقالات.
وفي معلقة أخرى للشاعر العربي القديم النابغة الذبياني:

يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ، فالسَّـنَـدِ
أَقْوَتْ، وطَالَ عَلَيهَـا سَالِـفُ الأَبَـدِ
وقَفـتُ فِيهَـا أُصَيـلانـاً أُسائِلُـهـا
عَيَّتْ جَوَاباً، ومَا بالرَّبعِ مِـنْ أَحَـدِ
إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيـــــــاً مَــــــــــا أُبَـــــــيِّنُــــــهَـــــــــــــــا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ
رَدَّتْ عَلـيَـهِ أقَاصِـيـهِ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِـي الثَّـأَدِ
خَلَّـتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ، فالنَّضَـدِ
أمْسَتْ خَلاءً، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَـى لُبَـدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَـرَى، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَـى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ

ولو بحثت في هذه القصيدة عن الأدب - قصة ورواية ونصاً مسرحياً ومقالاً وحتى ملحمة شعرية - بالتأكيد ستجده... وبقوة، ولن يمنعك تحكّم الشاعر في أدواته الشعرية الفذة، وسيولة الكلمات التي تجري في عروق قصيدته، بدمها الشعري الساخن، من أن تكتشف أن النابغة الذبياني روائي مقتدر وقاص محنك، ومسرحي من الطراز الأول، وكاتب مقال متمرس، وأيضاً فنان تشكيلي موهوب.
فلو تحرينا الدقة في بحثنا عن مقومات الرواية والقصة والنص المسرحي والمقال في شعر الأولين من شعرائنا العرب، لوجدناها شديدة الوضوح، غير أن هالة الشعر غطت عليها، ولم تمنحها الفرصة للظهور، وأن الشاعر العربي القديم وهو يكتب الأدب لم يكن متاحاً أمامه إلا شكل القصيدة الشعرية، كي يحكي فيها ويسرد. 
وما كان يحتاجه فقط الفطنة لبعض الترتيب والتنسيق في سياق الأحداث والرؤى، كي تكتمل المسألة. ونقول إن ما يكتبه رواية أخذت الشكل الشعري السائد.
هذا التحري ربما لا نجده في الشعر العربي بعد ظهور أجناس أدبية أخرى موازية له ومنافسة لوجوده، إلا عند هؤلاء الشعراء الذين ظلوا محافظين على الشكل الشعري القديم كما وصل إليهم من التاريخ.
لقد تجنــــى الشعر العربــــي بالفــــعل على الأجناس الأدبية الأخرى، ولكنه كـــان تجنياً شكلياً أو بالاسم فقط، ولكن المضـــمون ظــل أدبياً شمل واستوعب كل ما وقــــف عــــنده الإنسان على مر العصور من إبداع أدبي إنساني .