تـذوُّق التـاريخ

تـذوُّق التـاريخ

إن التعامل مع الماضي يختلف تمام الاختلاف عن تعاملاتنا اليومية في الحاضر أو حتى تطلعاتنا نحو المستقبل، فالأمس البعيد لا نملكه ولا نراه إلا في صورة آثاره أو ما كتب وروي عنه. أما الأمس القريب فقد دوناه وفسرناه وصورناه وحللناه، فأصبح مادة مفهومة وواضحة لمن سيأتي بعدنا في المستقبل. والأمس البعيد هذا هو مقصدنا وكيف نتناوله بصورة صحيحة حتى نحصل على رؤية واضحة وصادقة مع إمتاع مقرون بالفائدة والرغبة في معرفة المزيد.

لتكن الحضارة المصرية القديمة ساحتنا في استكشاف وتذوق التاريخ لأكثر من سبب:
- الإنسان المصري القديم قد اندثر قطعا ولم يعد له وجود إلا على حوائط قبوره ومعابده وتماثيله وبردياته... أو أصبح محنطاً متيبساً منذ آلاف السنين البائدة.
- اللغة المصرية القديمة بكل صورها (الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية) هي لغة ميتة لا تنطقها الألسن والأفواه في الحياة اليومية منذ أزمنة غابرة.
- ثراء ما تركه المصري القديم من آثار في جميع ربوع الدولة المصرية وانتشارها في متاحف العالم، بالإضافة إلى أعداد غفيرة من علماء المصريات وما تركوه – ومازالوا يتركونه – من اكتشافات ودراسات وتحاليل لانهائية عن كل صغيرة وكبيرة تركها المصريون القدماء فوق الأرض أو تحت الثرى.
لذا فنحن أمام سجل حافل من التراث الإنساني لم يعد صاحبه موجوداً ليرشدنا عن مسببات ودوافع نتاج حضارته الفذة، وما علينا سوى استقراء واستنطاق الأثر لتفسير كل ما نراه ونتلمسه، ليصبح الأمس واضحاً كحاضرنا، فنتطلع إلى المستقبل بخطى واثقة قوية مرتكزة على علم ومعرفة بأصول وجذور وبدايات حضارة بني البشر من مهدها حتى يومنا الحالي، وذلك باعتمادنا على الإدراك الكلي (Conception)  لا الحسي (Perception)، حيث تكون ذاتية صانع الأثر هي أساس إدراكنا، والانبهار يكون بالعامل والفنان قبل الانبهار بالهرم والمقبرة، والإعجاب بالموظف والملك قبل الإعجاب بالدولة نفسها ومدنيتها، حيث تكمن معجزة الحضارة في أفرادها قبل آثارها، وفي مبدعيها قبل بدائعها، ويثبت التاريخ أنه من دون بشر لما وجدت الحضارة، ومن دون شعب لما وجد الملك، ومن دون الإنسان المصري القديم خاصة لظلت أرض وادي النيل على حالها. طبيعة صماء بكر، الجبل حجر، والنيل نهر، الذهب خام، والقبر عظام، البردي ساق، والقمر بدر ومحاق، الشمس تشرق وتغرب، والنهر يفيض وينحسر على لا شيء.
وها نحن في قلب المتحف المصري بالقاهرة، وتحديداً داخل قاعة آثار الملك الأشهر (توت عنخ آمون)، تصطف أمامنا تحف باهرة ونجول بأبصارنا حتى نجد عيوننا مثبتتة على تحفة ذات عينين آسرتين لم تطرفا منذ عشرات القرون وتحملقان في وجوه المشدوهين أمامهما. إنها القناع الذهبي للفرعون الذي أبهر الدنيا منذ وقت اكتشاف مقبرته في عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. عمر هذا القناع يتخطى الثلاثة آلاف عام من تاريخ البشر، وهو قطعة تخلب لب كل من يشاهدها وتطبع أحاسيس متفاوتة من الإعجاب والتعجب والانبهار، حيث يشعر كل من يقف أمامها بأنها خرجت من يد صانعها بالأمس القريب – أو كأنه انتهى منها في صباح اليوم – فلا يوجد أي تأثير لمرور ثلاثين قرنا كاملة أزاحت حضارات وملايين البشر من فوق الأرض من دون أن تخدش هذا القناع، فالمعدن برَّاق، والملامح بضة، والانحناءات ملساء، والتركيبات متقنة، ولكن لنقف هنا لحظة! فلو كان انبهارنا بهذه التحفة كانبهارنا بقطعة حلي خرجت من يد صائغ ماهر فتذوقنا للتاريخ منعدم، ومَن قطع المسافات وتكبد النفقات والمشاق من أجل المثول أمامها لهذا الغرض فقد أهدر كثيراً من دون طائل، وكان يكفيه صورة الأثر ليراها على الحاسوب أو يبتاع نسخة مقلدة لها، فيوجد كثير من الزوار الذين لا يرون هذا القناع وما يشابهه من آثار إلا في صورة كنوز نفيسة حبيسة واجهات المتاحف ومخازنها، ويجوبون أرجاء العالم من أجل التمتع الزائف بمظهرها الخلاب من دون تذوق جوهرها وتمني تملكها الفردي أو إجازة وشيوع تجارتها وتثمينها بما لا يمكن تثمينه بنقود اليوم. تماما مثل المفتون بكتاب قديم بديع الطباعة من دون قراءته ومعرفة أسرار صفحاته. ولتذوق التاريخ حلاوة لا تماثلها أي حلاوة، فهو تعاطف ومشاركة وجدانية لما نراه، فكأننا نزج بأنفسنا في عصر الأثر الذي أمامنا وتتحدد مشاعرنا وفقاً للأحداث التي جرت وقتها، والمعتقدات التي سادت حينها، وللمكان الذي وطئناه بأرواحنا. وها نحن على مشارف تذوق التاريخ في صورة بضعة أسئلة من المفترض أن تجول في أذهاننا ونحن أمام هذا القناع الذهبي:
- لماذا صنع هذا القناع؟ وأين وجد تحديدا؟ ولماذا الملك بتلك الهيئة؟ وما تلك الأفعى وهذا النسر اللذان يحطان على جبهته؟ ولماذا لحيته بهذا الشكل؟ ولماذا صنع من الذهب تحديداً؟ وأخيراً... من هو هذا الملك؟ 
أولاً: صنع هذا القناع كي يوضع على جثمان الملك بعد تحنيطه وإيداعه بداخل التابوت، ويسمى قناعاً جنائزياً كونه من معدات الأثاث الجنائزي للمقبرة الملكية، ويقام عليها بعض الطقوس من قبل الكهنة قبل إغلاق القبر للمرة الأخيرة، وسبب وضعه على الرأس تحديداً يرجع لحماية مزدوجة للملك، إحداهما وقاية الجزء العلوي من المومياء، والأخرى طرد الأرواح الشريرة كما يقول كتاب الموتى، ومع الاعتقاد بأن الروح تعود في العالم الآخر إلى الجسد شرط سلامته، فهو مرهون بجودة التحنيط ودقته. ومع افتراض سوء عمل المحنط أو فساد المومياء لأي سبب، تكون هناك مشكلة في تعرف الروح على جسدها – وفق المعتقدات المصرية القديمة – فلجأ المصري القديم إلى عمل قناع مماثل لملامح المتوفى يوضع على الجثمان لضمان تعرُّف الروح على الجسد حتى مع فساده، كما لجأ لعمل تماثيل عدة توضع في أرجاء المقبرة للغرض نفسه مصحوبة لتماثيل خدم – تسمى أوشابتي – تقوم بخدمة المتوفى في عالم الموتى لينعم بحياة رغدة من دون منغصات كما كان يحياها في الدنيا.
ثانياً: وجد هذا القناع على مومياء الملك في مقبرته الكائنة بوادي الملوك الواقع بمدينة الأقصر جنوبي مصر عام 1922، التي تحمل الرقم 62، وتم اكتشافها على يد المستكشف الإنجليزي هوارد كارتر.
ثالثا:ً هيئة وجه الملك ممثلة برداء رأس ملكي مخطط شبيه بلبدة الأسد (يعتقد أنه كان قلنسوة من قماش الكتان) يرتديه الملك في أثناء جلوسه على العرش ويتدلى على كتفيه ويربط من خلف الرأس بجدائل ذهبية، كان هذا الغطاء يسمى بتاج النمس.
رابعا: الأفعى التي تزين رأس الملك - وهي الكوبرا تحديداً - تسمى «وادجت»، وتعد رمز ومعبودة الوجه البحري في مصر، أما النسر- وهي أنثى العقاب الأقرع تحديدا - فتسمى «نخبت»، وتعد رمز ومعبودة الوجه القبلي، وتعد أنثى العقاب وحية الكوبرا مجتمعتين في لقب يحمله الملك يسمى «نبتي»، لذا كان ملوك مصر القديمة يتزينون بهما على رؤوس تيجانهم مهما تغيرت أشكالها كدليل على حكمهم لبلاد وادي النيل بشطريها الجنوبي والشمالي.
خامسا: وجود اللحية بهذا الشكل يرجع لمعتقد ساد في تلك الفترة بجعل اللحية رمزاً للهيمنة الذكورية وفرض السيطرة، فصارت جزءاً أساسياً من الشكل الرسمي لملك مصر القديمة والموحدة.
 أما اللحية المعقوفة، فقد لوحظ أن المعبودات المصرية القديمة التي تزينت بلحى كانت ذات شكل معقوف من أسفلها، فاعتبر أن الملك بعد وفاته يتشبه بالمعبودات ويسير في زمرتها متخذاً بعض صفاتها.
سادسا: الذهب، وهو موضوع متشعب كثر فيه الحديث، ولكن خلاصته أن المصري القديم لم ينظر للذهب مثلما قال عنه ابن قيم الجوزية بأنه زينة الدنيا وطلسم الوجود ومفرح النفوس ومقوي الظهور، ولم يقدّره كما نفعل نحن في عصرنا الحالي على أنه معدن نادر ونفيس، بالإضافة لكونه احتياطياً نقدياً منقطع النظير، بل اعتبره المصري القديم مادة الشمس المضيئة ولحم المعبودات، فهو المعدن اللامع غير القابل للفناء، فأصبح في نظره معدناً إلهياً يضفي الحياة الخالدة على من يقترن به، فصنعت الأدوات الجنائزية من الذهب أو قشوره بقدر الإمكان، وغطيت الأجسام به لتحظى بحياة خالدة من دون عطب. وهذا هو سر الذهب في عقيدة المصري القديم.
سابعا: من هو توت عنخ آمون؟ هذا الفرعون الصغير ذو النظرات الغامضة، إنه بكل بساطة ملك بلا أي تاريخ يذكر، ولم يحظ بشهرته الفائقة تلك إلا عندما تم اكتشاف مقبرته الكاملة والزاخرة بكنوزها من دون أن تمتد إليها أيدي اللصوص، ولكن سيرته لا تخرجه من قوائم الملوك النكرات في التاريخ المصري القديم، حيث اعتلى العرش في الحادية عشرة من عمره إبان عهد الدولة الحديثة في فترة صراعات مريرة بين أنصار سلفه الملك «أخناتون» وكهنة المعبود «آمون» أصحاب النفوذ والسطوة في تلك الحقبة. وكان ألعوبة في يد كبار الكهنة حتى لقي حتفه في بدايات عقده الثالث وسط نظريات متعددة باحتمالية اغتياله عمداً، وتولي كبير الكهنة المسمى «آي» الحكم من بعده. 
ويجب أن نعلم بأنه رغم تذوقنا التاريخي السريع لهذه القطعة الساحرة، فهي قطعة واحدة من آلاف القطع التي اكتشفت في تلك المقبرة. وحتما لكل قطعة تذوقها الخاص، ولكل حقبة طعم خاص، بل ولكل ملك وفرد ومعبود قصة تمتزج بها الحياة مع الموت، ويعترك فيها الفناء مع الخلود في حرب لازمت بني البشر وسوف تبقى ليوم الدين. كما يجب أن نقدر دور علماء الآثار الذين اقتلعوا كل ما تم اكتشافه من فم الزمان والمكان على السواء، المكان في الأثر محل البحث والوصول إليه، والزمان في تأريخه وتحليله. إن دور عالم الآثار ليس باليسير أو الهين إطلاقاً، حيث يتحتم عليه أن يقسم وقته بين أعمال التنقيب والجَرْد ودراسة ما يتم اكتشافه، وذلك برسم خرائط بأماكن البحث وتصوير الآثار وشواهدها وبيان مظاهر التلف وتسجيلها. وأيضاً نسخ ما يجده من نصوص واستنباط قواعد اللغة ومعرفة طرق كتاباتها وقراءة المخربشات والإلمام بأنواع المخطوطات، كما يجب على عالم الآثار أن يكون ملماً بعلوم الترميم وتأريخ فنون الحقبة التي يعمل عليها، وخبيراً بالديانات والمعتقدات في تلك الفترة، وأن يستخدم العلوم المتلازمة والمكملة لعمله، مثل علوم طبقات الأرض والتاريخ الطبيعي، وعلم النبات، وعلم الكيمياء، وعلم دراسة حضارة الإنسان أو علم الأناسة (Anthropology)، وفي بعض الأحيان دراسة علوم البناء، والتشريح والسلالات وقواعد اللغات المقارنة .