خريطة مهملة للمعمار والجغرافيا «العربية» ولهجاتها

خريطة مهملة للمعمار  والجغرافيا «العربية» ولهجاتها

المطلع على رحلة المستكشف البريطاني برترام توماس (1892-1950) عبر  الربع الخالي  بين العامين 1929 و1930 يجد شواهد إضافية على عدد من شظايا الكشوفات المتداولة حول المناطق المجهولة في التاريخ العربي، وبخاصة تلك التي يحيط بها غموض شبيه بما يحيط بالأساطير  عادة. أهم هذه الشظايا يتعلق بمسألة تقسيم الأدوار التاريخية للغات، ومدى انتشارها على تضاريس الجغرافيا العربية وبين منحنياتها، بالإضافة إلى قدم وأصول طوابع المعمار العربي الملحوظ في مدن مثل البتراء وتدمر  والحضر في شمالي الجزيرة العربية. 

على صعيد اللغات، من الملحوظ أن الأبجدية الراهنة تم التعرف على أصولها الغارقة في القدم في الجزيرة العربية، وبخاصة في ضوء الخط المسند المفهوم خطأ أنه خط جنوبي الجزيرة فقط، ثم اتضح، كما لاحظ عالم الآثار البريطاني توماس جيوفري بيبي (1917-2001) في كتابه «بحثاً عن دلمون»، أنه خط كان شائعاً في أرجاء الجزيرة العربية. 
وفي ضوء اكتشاف «قرية الفاو» على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي في سبعينيات القرن الماضي، وهي مدينة تبين أنها كانت تعتني بالكتابة منذ القرن الرابع ق.م، تأكد رسوخ معرفة الأبجدية بين العرب منذ وقت طويل. ويلاحظ أن ما تعارف عليه الدارسون من تقسيم وتصنيف تاريخي وجغرافي لما يسمونها «اللغات السامية» بدأ يثبت خطأه. فهم يصنفون لغات (هي لهجات عربية في حقيقة الأمر) مثل الإرمية والكنعانية والأقرتية والإيبلائية ضمن ما يسمونها سامية شمالية، ويضعون العربية ضمن اللغات السامية الجنوبية. ويتبع هذا التصنيف الجغرافي تصنيف زمني، حيث أصبح ظهورها متعاقباً، وظلت فكرة تزامنها مستبعدة. 
في هذا السياق، تؤكد رحلة برترام توماس في جبال القرا، وفي أعماق الربع الخالي، أن صيغ الأسماء الكنعانية كثيرة هناك بشكل لافت للنظر، سواء كانت أسماء جبال أو وديان أو مدن أو يـنابيع أو آبار، وهذه أسماء يصعب أن تتغير عبر الأجيال، حتى لو لم تعد الأجيال المتأخرة تفقه معناها أو سبب التسمية أو مناسبتها. هنا نجد ودياناً مثل «ريكوت» و«تيدوت»، ومناطق مثل «صبروت» و«أربوت»، وعيوناً مثل «خينوت»، وينابيع مثل «صحنوت»، بالإضافة إلى وجود أسماء بصيغ إرمية. 
 ويتجاور كل هذا بالطبع مع أسماء ذات صيغ عربية مألوفة. وهذا يعني أن ما تم الاصطلاح على أنه لهجات قبائل عربية تختلف عن لهجة قريش، لابد أنه بصمات لهجات متنوعة قديمة، وأن سيادة العربية التي نعرفها جاءت سيادة للهجة أكثر تطوراً من اللهجات الأخرى، لهجة احتفظت بخصائص جامعة أكثر من غيرها. وطرح عدد من الباحثين افتراضاً مفاده أن اللهجتين، الكنعانية والإرمية، كانتا لهجتين للحواضر، بينما كانت العربية لهجة الأعراب البعيدين عن الحواضر، وجاء صعود هذه اللهجة في مرحلة متأخرة بعد انهيار الحواضر المعروفة آنذاك، مثل البترا وتدمر، وغير المعروفة حتى وقت قريب مثل «قرية» و«أوبار» (التي تروي المأثورات المحلية أنها كانت مدينة تجارية مزدهرة دفنت تحت رمال الربع الخالي) و«الجرعاء» المعروفة في المصادر اليونانية باسم «جرها» التي لم يبق منها سوى اسمها. 
مثل هذا الافتراض، إن صح، لا يرسم خريطة جديدة للغات فقط، بل يؤدي إلى إعادة النظر في علاقة العربية بهذه اللهجات التي رغم ظلالها العربية ألسنياً، مازال هناك من يتنكر لصلتها الحميمة بالعربية، ويصادفنا هذا الإنكار في إرجاع عديد من الألفاظ العربية إلى الإرمية أو الكنعانية، وكأنهما لغتان غريبتان من لسان آخر غير اللسان العربي، بينما يمكن العثور على جذور هذه الألفاظ في المعجم العربي بسهولة. 
ويبدو لنا أن مثل هذه الأفكار ناتجة عن سوء فهم تقليدي للتاريخ العربي. هذا التاريخ لا يبدأ في نظر بعض الدارسين مع الأصول القديمة التي يطلق عليها «السامية»، بل يبدأ مع الظهور الثاني للعرب في القرن السابع الميلادي. وأفضل من يعبّر عن سوء الفهم هذا الذي يقوم على تخيل قطيعة بين «الساميين» و«العرب» هو المؤرخ اللبناني/الأمريكي فيليب حتي (1886-1978) في كتابه «تاريخ سورية ولبنان وفلسطين».
 يقول بمناسبة سقوط بابل (538ق.م) إنه «بسقوط بابل انتهى العصر السامي، وبدأ عصر جديد هو العصر الهندو/أوربي، وانقضت أيام الإمبراطوريات السامية، ولم تعد إلا بعد أكثر من ألف عام، وكانت هذه المرة برعاية ممثلين جدد هم عرب الجزيرة، الذين لم يكن لهم شأن يذكر في العلاقات الدولية القديمة». ويصح هذا التقرير إذا صح أن عرب الجزيرة لا شأن لهم بالإمبراطوريات المسماة «سامية» (الأكدية: بابلية وآشورية)، وبدول المدن الكنعانية على امتداد الساحل السوري، وبدول جنوبي وشرقي الجزيرة، وهو أمر غير صحيح بالطبع، لأن هذه الإمبراطوريات والمدن قامت على أكتاف عرب الجزيرة. إن الفصل بين «الساميين» و«العرب» فصل مصطنع، حدث نتيجة المصطلح الأسطوري لا التاريخي المستمد من شخص اسمه «سام»، يقال إنه تحدرت منه «شعوب» و«قبائل»، يوزعهم بعض المؤرخين على عدد من الهويات، بينما هم يمتلكون في الحقيقة هوية واحدة كجماعة عاشت في بيئة جغرافية واحدة، وتكلمت لغة واحدة، وأنشأت أفكاراً ونظماً وعقائد متقاربة، ولولا ذلك لما ظلت الإرمية العربية لغة سائدة تحت كل ظروف الحكم الهندو/أوربي، إلى أن أخلت مكانها للعربية الناضجة بسهولة. 
كتاب برترام توماس يمدّنا بمعلومات جديرة بالاعتناء في سياق تتبعه للأساليب المعمارية التي وجدها في المناطق التي زارها. أوبار ذات القلعة الذهبية في الخيال الشعبي، التي يتوارث حكايتها الأهالي في مناطق الربع الخالي، ليست وحدها ما يشير إلى أن العرب كان لهم شأن في العلاقات الدولية، وليس طريق البخور وحده ما يشير إلى هذه العلاقات المهمة، بل هناك هذا الطابع الموحد للأساليب المعمارية في إشارته إلى أنه لا انقطاع في المسيرة العربية، سواء أطلقت عليها صفة «السامية» في أطوارها المغرقة في القدم، أو أطلقت عليها صفة «العربية» في أطوارها الأحدث عهداً.  يكتب برترام توماس: «إن المباني العالية المتعددة الطبقات، والمبنية من الأحجار المنحوتة، تشكل مشهداً ساحراً، فضلاً عن الزخرفة والتشكيلات المتنوعة التي كانت في مجموعها رمزاً لعصر من العصور. وتعتبر زخرفة السقوف التي تسمى بلهجة أهل المنطقة «التباشير» السمة المميزة للبيوت الكبيرة، وتقع هذه الزخرفة في زوايا السقوف والأطراف، وهي تشبه الزخرفة التي كانت سائدة في البترا ومعان في عهد الأنباط، وقد علمتُ أن هذا النوع من الزخارف منتشر في منطقتي الشحر والمكلا وغيرهما من مناطق حضرموت».
ويصف المعالم الأثرية في سهل «الحصيلة» قائلاً: «إن هذا السهل تتناثر فوقه كثير من المعالم الأثرية، أبرزها صف من الأعمدة البدائية البسيطة المثمنة الأضلاع، والمقامة على قواعد حجرية مربعة. وتوحي هذه الأعمدة، مع القواعد المقامة عليها، أنها بنيت كحاملة للأقواس».
ويضيف واصفاً منطقة الآثار في وادي «نضور»: «كانت الكتابات بحروف متفرقة يبلغ طولها بوصة ونصف البوصة، وهي مكتوبة بطريقة بدائية. ونظراً لتآكل الألواح، فإن معظم الكتابات لم تكن واضحة عدا واحدة منها. ولكنني استطعتُ استنساخ أفضل المجموعات من تلك الكتابات كاملة، وحالت وسائل النقل دون إحضار أكثر من عينة واحدة من تلك الأحجار، وكانت تحمل صورة جمل، وأهديتُ هذا اللوح إلى المتحف البريطاني». والمطلع على هذه البقايا الأثرية (الأساليب المعمارية والكتابة)، يدرك أنه يكتشف جذور المعمار العربي الذي انتشر وشاع في القرون الميلادية الأولى في مدن شمالي الجزيرة العربية، ثم تطور بعد القرن السابع الميلادي، واستقرت طوابعه المعروفة في فن المعمار الإسلامي بزخارفه وكتاباته.
المدهش في رحلة برترام وغيره، أن المعطيات التي تنقض الكثير المتداول عن التاريخ العربي ومكانة العرب في التاريخ، تتزايد بشكل مثير، ومع ذلك هناك إهمالٌ في تجميعها وترتيبها وجلاء الصورة كاملة؛ صورة الحضارات العربية في مراحلها المتعددة الكامنة وراء التسميات المضللة التي يحرص الخطاب الغربي، في غالبية اتجاهاته، على إطلاقها، ماحيا بذلك أي علاقة للعربي المعاصر بجذوره الغارقة في القدم.
هذه الصورة الآن تشبه شظايا لوحة متناثرة جغرافياً وألسنياً وتاريخياً وفنياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، يتعامل معها الباحثون منفردة على أساس أنها وحدات متكاملة وليست شظايا من لوحة أكبر تحتاج إلى إعادة تجميع .