حاضر الغناء العربي

حاضر الغناء العربي

لنستّل من ذاكرة العرب، بعض الإنجازات الفنية الأكيدة، على سبيل التعويض لا غير. ثمة ماض لهم في الموسيقى والغناء، موضوع تناولنا هنا، أضاء وأغنى أجيال العرب في القرنين التاسع عشر  والعشرين، خصوصاً في مصر، ما يجعلنا ندخل في تناقضية تعاكسية، تُقاربُ ماضي الغناء العربي قديماً وراهناً.

يصعبُ على المتتبعين والمهتمين بحال الغناء العربي غير المنفصل عن موسيقاه بالطبع، الوقوع على سوية ما، في عملية تراكم فنّي حضاري كان من منطق السيرورة حصولهُ. غير أن ما آلت إليه الأمور يعاكس ذلك، فالانقطاع بائن، ومُدّوٍ، وصارخ، ومُفارق بالقطع لكل التراث الغني والمُضيء الذي حازهُ العرب يوماً في هذا المجال، كما لو حدث خلل أكيد قطع السياق ونال من كل الحيوية الحضارية، ليس على صعيد الغناء فحسب، بل على جميع الأصعدة، أولها السياسية التي أرخت بثقلها على مرافق كثيرة، طالت الثقافي والاجتماعي والفكري والفني وسوى ذلك.
ثمة إنجازات في المدرسة الفنية الغنائية، حصلت على وجه التحديد في القرن العشرين، لم تتوسّع وتتطوّر وتتعمّق وتذهب إلى آفاق أكثر رحابة، بل تهاوت على أيدي المغنيين اليوم، كما لو فُرّغت من مضامينها ودواخلها الثرية، غير مُستفيدة من إنجازات سابقة، بل منقلبة عليها في حركة قصدية هدفت إلى تسطيح الفن بحجة جعله متماشياً مع العصر، ومفارقاً لثوابت جمالية ماضية.
مقاربة راهن الغناء العربي، ليست مهمة صعبة، فما نسمعهُ لا يحتاج إلى تمحيص كثير، ويُنافي ما عرفناه عن تراثنا الذي أرّخ لحقبة إبداعية عالية الرفعة. أيضاً لا بأس من التداعي هنا، فلا الشعر شعر، ولا الغناء غناء ولا الموسيقى موسيقى. إننا لسنا بعد - لا في الأزمنة العظيمة، حيث وجد ابن رشد نفسه أمام معضلة ذات طبيعة فلسفية، متعلقة بالمؤلف الضخم الذي ساغهُ ابن رشد أمام الأجيال: شرح أرسطو - ولا حين جلس برموثيوس على حافة العالم منشداً قصائده الأولى، ولا في تلك الأزمنة المضيئة، حيث تلاقح العالم بالعالم عبر الثورات لخير الإنسانية.
ما يحدث اليوم يبعث على الغرابة والقلق الذي يصل حد العجز، كما يحصل في نفي المغنيين والمغنيات وقوعهم في فخ الاستسهال والنشاز: أم كلثوم كانت تُنشز..! يتحدثون عن «السيدة» التي قصمت بموتها ظهر الغناء العربي، كما لو أترابها، وأندادها، وشبيهاتها.
صغيرات الغناء وصغارهُ، جانب من جوانب الشقاء الذي نعانيه. ليست مجرد نرجسية، بل انقلاب على جوهر الغناء، ومن يحب الغناء لا يقتلهُ. غير أن كثيرين بقلب آليات القتل، من قلة السعة الفيزيائية للأصوات، ومن غاية الربح السريع، ومن عدم احترام وابتعاد عن لغة الغناء، وهي لغة لا علاقة لها بالصوت وحده، بل بالعمل على الصوت وتدريبه وتهذيبه، ولغة على علاقة بالموسيقى أيضاً وبالرحابة الروحية وبالكلام المُغنّى وبالأحاسيس، وبالصمت أحياناً.
الكلام على صغيرات الغناء، هو التمهيد للكلام على سيداته. طبعاً، هذا ليس زمن أم كلثوم ولا منيرة المهدية ولا سليمى مراد ولا أسمهان أو ليلى مراد أو نجاة الصغيرة أو فايزة أحمد أو نجاح سلام، ولا كل اللاتي غنين بأصواتهن المطلقة وأحجام تلك الأصوات. انتهى عهد السيدات والسادة، آباء الأغنية العربية وبناتها، ولا شيء بعد سوى بعض الأصوات الواعدة لشبان وشابات سرعان ما يوقعونهم في فخ الاستهلاك الرخيص بحجة مواكبة العصر ذاتها. لا شيء بعد سوى الذكريات والبكاء على الأطلال واستعادة الجميل من الماضي، ولا شيء سوى الاستهلاك الرخيص وغياب المعايير.
ثمة الآن عنف المغني على الأغنية بدل عنفوانها. كبرياء الغناء ذهبت إلى غير رجعة، ولغة الجذور انقرضت، وبقي بعض الخلف غير الصالح، الساعي إلى قتل آبائه بكل ما أوتيت الحناجر من وعيد. ثمة الآن استعباد للأغنية ولسامعها، لا ترجمة حضورها في القلب والأذن. غناء مُشوّه تتصدّره الديكورات الخارجية من ملابس وسواه عبر أصوات وقحة غير مُدرّبة.
لم تُمنح المطربة الراحلة صباح شهادة من نقابة الفنانين في مصر في حينها، لأن النقابة لم تجد في صوتها المعايير الباهرة الواجب حلولها في الصوت. غنت المطربة الكبيرة صباح بأشكال إطلالاتها الخاصة وظهورها الخاص وبصوتها الخاص، بتجويدات فاقت فيها كثيرات من المكرسات حائزات الشهادة من النقابة. وهو أمر لا ينتقص من قيمة السيدة الكبيرة، بقدر ما يُشير إلى وضع المعايير الصارمة في ذلك الحين لكي لا يقترف المغني أو المغنية الجريمة الافتراضية بحق الجمهور.
علم الغناء كان ركناً أساسياً في ذلك الزمن، لذلك لا نعرف سوى تعداد الأسماء العالية في عالم الغناء والمشاهير الفعليين. الآن نندب حظنا مع جحافل الأصوات المنشدة، كما لا نفلح – لو حاولنا - في حفظ «كوبليه» واحد من أغانيهم، لاسيما في الحقيقة أن أغانيهم لا تتعدى «الكوبليه» الواحد، ما يجعلهم متشابهين، فلا نعود نُميّز في الأصوات الصادحة بين هذا وتلك. شروط الغناء كانت صارمة لذلك الزمن، زمن الموازين الدقيقة والشروط الحاملة، خوفاً من محارق المبتذل وحفاظاً على رفعة الذوق. 
في رغبة سيادة الفن الراقي والهجس به، كانت الحرب بين سيدتين لا تتكرران في عالم الغناء: أم كلثوم ومنيرة المهدية، شارك فيها الملك فاروق وجمال عبدالناصر، إلى أن رحلت منيرة المهدية في «معديتها» بعد أن خسرت الحرب.
سجن عبدالحليم حافظ نفسه، وسواه من مشاهير الغناء في الإذاعة المصرية خلال العدوان الثلاثي على مصر، وقد عكفوا على تسجيل أكثر الأغنيات والأوبريتات الوطنية تعبيراً عن التضامن الوطني من دون أن «يؤشكلوا» وضع الأغنية على صعيدها المعياري الفني، كذلك فعل سيد درويش، وفعلت أم كلثوم وكبار غيرهما.
حداثة مكتملة في تلك الأيام البعيدة، وانحطاط وتقزيم لحضور الأغنية اليوم، حيث أصبحت تُشبه أي شيء ما عدا الأغنية. كانت الأغنية ابنة رجالاتها، ابنة زمان ما، ومكان ما، وانتماء ما، لا أغنية طائرة بنت ساعتها كما هي اليوم: أغنية بلا صلات وصل بالتجارب القديمة التي فاقت حداثتها المشغولة جيداً على أي حديث يتناطحون للكلام عنه الآن ويستعملونه في كل مناسبة لإخفاء عجزهم. القصبجي كان مُحدثاً عظيماً... أين منه من يدعي الحداثة اليوم؟
لا أغنية اليوم بالمعيار الفني الجيد، بل هي الأغنية المشكلة وإشكالية الأغنية. عبور فردوس سريع «عنوان قصيدة لدانتي» لا يختلط فيه المطرب بأغنيته، فما من مضمون يختلط به وما من صوت أجهد نفسهُ في سبيل أن يصل إلى أفئدة تتوق إلى مخارج ألفاظ سليمة ومعانٍ مفهومة وصوت مُدرّب وموسيقى متآلفة ووقفات تعرفها الأغنية الجيدة والموسيقى الجيدة سواء.
الأغنية جزء من انتشال الزمن، وأغنية اليوم هي نشل الزمن بعيداً من التاريخ والشراكة بين الواقع والمبدع. كل أغنية «تهشّ» التي سبقتها، لأنها سائبة لا أصول ولا فروع لها. يكفي أن تملك المال حتى تصبح «شيخ طريقة» لا هوية عينية ولا روابط جامعة، وكلمات على هوى الهوى، ولحن يلفظ أنفاسه، وصوت بلا روح ولا عشق للأغنية المؤداة نفسها وما يشبه احتقار المستمع وإذلاله بالمادة المسلطة على أذنيه.
ماتت اللجان الفاحصة بالإذاعة اللبنانية، حدث هذا بعد أن ماتت الإذاعة نفسها. لم تصدر في الزمن البعيد أغنية إلا عن الإذاعة، بعد مرورها على لجان التحكيم. كانت لجان بأسماء مزلزلة في عالم المعرفة والضبط، مثل: توفيق الباشا وزكي ناصيف وحليم الرومي والأخوان رحباني وآخرين. غنت فيروز ضمن كورس الإذاعة ومحمد فليفل اكتشفها من الكورس المذكور. طوّر الأخوان صوتها وحضوره بعد أن جبلاه بكل ما هو صديق له. من الطبقة المناسبة إلى بناء الجسور بين الحيوات الماضية والحيوات الجديدة، حملا الأغنية عبر الصوت من المطولة العربية إلى أغنية غزل البنات التي ما إن تنساب حتى تذوب بهواء رئتي سامعها.
لا سحر اليوم مع انتشار الإذاعات المغرضة، العالم المرعب لترويج الأغنية الفتاكة والقاضية على ما بقي في صدورنا من حب، كلام مسفوح عن الهوى في عالم لم يعد يعرفه .