أبناء التعبيرية الألمانية وأحفادها

أبناء التعبيرية الألمانية وأحفادها

لا شك في أن إلهام السينما الألمانية كان رائداً بالنسبة للعالم أجمع، حتى بالنسبة لعاصمة السينما الأمريكية هوليوود، فالثقافة الألمانية تشمل في الواقع النمسا ومقاطعات من هنغاريا وبولندا وسواهما، خاصة أن الهجرة إلى الولايات المتحدة ازدادت مع نشوء النازية والغزو الهتلري لأوربا، الذي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية في النصف الأول من القرن العشرين. 

 الغريب أن عنوان أول فيلم ألماني حظي بالشهرة هو «خوف» (1917)، إخراج روبرت واين (1873-1938)، وهو الشعور الذي هيمن على مضامين الحركة التي أطلق عليها اسم «التعبيرية الألمانية». هناك أفلام ألمانية تشكل حتى الآن لبنات أساسية من صرح تاريخ السينما، منها «عيادة الدكتور كاليجاري» (1920) و«أصيل» (1920) و«يدا أورلاك» (1924) من إخراج روبرت واين، و«نوسفيراتو» (1922)  و«الضحكة الأخيرة» (1924)  و«فاوست» (1926) من إخراج ف. دبليو. مورنو, و«طالب من براغ» (1913) من إخراج هانس هينز إيورز وستيلان راي، و«القط والكناري» (1927) من إخراج بول ليني، ثم «متروبوليس» (1927)، و«شهادة الدكتور مابوز» (1933) من إخراج فريتز لانغ (1890-1976). هذه الأفلام وكثير غيرها تدرس حتى الآن في معاهد السينما في مختلف دول العالم المتقدمة، ومعظمها تنتمي لنمط الرعب، وإن حمل بعضها مضامين سياسية/اجتماعية أيضاً.
في أوائل الألفية الثالثة، أقام «معهد جوته» في دمشق عرضاً سينمائياً لفيلم «متروبوليس» من إخراج فريتز لانغ، مع عزف حي على البيانو يرافقه، كما كان يجري إبان إطلاق ذلك الفيلم الصامت في عام 1927. كانت تجربة فريدة حقاً، فالمؤثرات الموسيقية الحية رافقت الصور، وأضافت تعبيراً إلى إيحاءاتها البصرية. اللافت للنظر في الفيلم الرائد «متروبوليس» هو المغزى السياسي النقدي المبكر الكامن وراء خياله العلمي عن مجتمع رأسمالي مستغل لا يأبه بالعواطف الإنسانية. لكن فريتز لانغ ليس الرائد السينمائي النمساوي الوحيد الذي ألهم السينما العالمية قبل وبعد عمله في هوليوود. إن نمط «التعبيرية الألمانية» الحريص على الخيال المجازي في تناوله رعب الراهن، بل ورعب المستقبل الغامض، كان التيار الملهم بقوة حقاً في أوربا وأمريكا معاً. في الواقع، ترك عديد من المخرجين المتحدرين من الثقافة الألمانية بصمات رائدة في صناعة السينما، نذكر منهم خاصة ماكس سكلاندانوفسكي، أرنست لوبيليتش، دوغلاس يرك، ألكسندر كلوغ، أندرياس دريسن وإدغار ريتز.
لا نريد أن نتوقف عند المخرجين الألمان والنمساويين الكبار الذين صنعوا مجد السينما الأمريكية في البدايات، ومنهم جوزيف فون ستيرنبرغ مخرج «الملاك الأزرق» (1930)، وويليام وايلر مخرج «إجازة في روما» (1953)، و«بن هور» (1959)، وبيلي وايلدر مخرج «البعض يفضلونها حامية» (1959) و«الشقة» (1960)، وسواهم من كبار الرواد. أما الجيل التالي، فقد ضم أسماء لامعة مثل وولفغانغ بيترسون مخرج فيلم «طروادة» (2004)، ورولاند إيمريتش مخرج فيلم «يوم الاستقلال» (1996).  هؤلاء – كما يقال – «غيض من فيض».
هنا، نريد التركيز على أبناء – ومن ثم أحفاد– تيار «التعبيرية الألمانية»، وهم المخرجون الكبار الذين صنعوا أفلاماً كبيرة تتراوح بين القسوة والرعب، بينما نأى بعضهم الآخر عن النوع ليخرج أفلاماً اجتماعية وسياسية. أحد أبرز هؤلاء هو فارنر هيرتزوغ، مخرج فيلم «آغيرا، غضب الرب» (1972)، و«نوسفيراتو: مصاص الدماء» (1979)، وكلاهما من بطولة النجم كلاوس كينسكي، ويعتبران رائعتين سينمائيتين. أخرج هيرتزوغ 70 فيلماً، أحدثها «ملكة الصحراء» (2015)، من بطولة نيكول كيدمان وجيمس فرانكو بمشاركة جاي عبدو، وهو لا يعد بين أفلامه البارزة، رغم أن هذا المخرج يكون في أفضل أحواله مع الأفلام التاريخية. 
المخرج الآخر المهم من أبناء «التعبيرية الألمانية» هو فولكر شلندورف مخرج «شرف كاترين بلوم الضائع» (1975) مع المخرجة مارغريتا فون تروتا، «الطبل الصفيحي» (1979) عن رواية غونتر غراس، و«أسطورة ريتا» (2000). تميز شلندورف بموضوعاته الدرامية القوية، بحيث انتقل بشكل طبيعي سلس إلى العالمية، وتصدى لإخراج أفلام عن مناطق ساخنة من العالم وعالج شخصيات وصمت بالإرهاب، كما أخرج مسرحية أمريكية شهيرة لآرثر ميلر هي «موت بائع جوال» من بطولة داستن هوفمان.
نصل إلى مخرج أكثر شباباً، يعتبر بحق الوريث المعاصر للتعبيرية الألمانية وأفلام الرعب الغرائبية فيها، هو توم تيكوير، مخرج فيلم «اركضي يا لولا، اركضي» (1998)، ثم فيلم «عطر» (2006)، وفيلم «غيمة أطلس» (2012)، اللذين وضعاه في مصاف العالمية. في الواقع، فإن «عطر» المقتبس عن رواية باتريك زوسكيند، بالرغم من كونه فيلماً أمريكي الإنتاج، هو أكثر أفلامه استلهاماً لروح «التعبيرية الألمانية»، فهو فيلم رعب بامتياز, إذ يقدم شخصية قاتل متسلسل شاب في باريس يسلخ جلد ضحاياه من النساء الجميلات ليصنع منه عطرا فريداً لا مثيل له بحيث يسحر من يستنشقه ليقدس العشق. إن رؤية تيكوير البصرية مذهلة، وجمالية فيلمه تضارع الرواية بحق، إن لم تتفوق عليها، وهو نادراً ما يحدث لدى استلهام الأدب. 
أحد أبرز مخرجي السينما الألمانية هو راينر فيرنر فاسبيندر (1945-1982)، الذي توفي عن 37 عاماً فقط وهو في ذروة عطــــــائه بعد أن شـــكل وحده تياراً متفرداً شديد الغنى والتنوع. 
أخرج فاسبيندر أفلاماً تعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما الألمانية الحديثة، منها «دموع بيتر فون المريرة» (1972)، «الخوف يأكل الروح» (1974)، «زواج ماريا براون» (1979) و«ليلي مارلين» (1981). معظم تلك الأفلام يعالج فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها عبر قصص حب ونضال، أو كلاهما معاً. فاسبيندر مخرج متمكن خلق هوية مميزة للفيلم الألماني المعاصر، وعبر عن غربة الإنسان في مرحلة الحرب وما بعدها، التي تظلل الروح بألوان رمادية كئيبة. 
مخرج آخر مهم في السينما الألمانية هو فيم فيندرز، مخرج فيلم «باريس، تكساس» (1984)، و«أجنحة الرغبة» (1987).  استطاع فيندرز أن يشق طريقه من المحلية إلى العالمية، بتناوله موضوعات إنسانية متنوعة وثرية في عمقها. يشكل فيدرز مع شلندورف وفاسبيندر تياراً متكاملاً، دون إغفال السمات الشخصية الاحترافية لكل منهم. يضاف إلى جميع من ذكرنا بعض المخرجين الألمان الذين حققوا شهرة عالمية ببعض أفلامهم، مثل فلوريان هنكل فون دونرسماك صاحب فيلم «حيوات الآخرين» (2006)، وولفغانغ بيكر مخرج فيلم «وداعاً يا لينين» (2003)، وأوليفر هيرشبليغر مخرج فيلم «السقوط» (2004) عن أيام هتلر الأخيرة. ويجدر بالذكر التوقف عند بروز نجم مخرجات ألمانيات، منهن: أولريك أوتينجر، هيلما ساندرز- براهمز، مارغريتا فون تروتا، بريجيت هاين وليني ريفنستاهل.
 هنا، لابد أن نذكر من نجوم ألمانيا المشاهير في تلك الحقبة من السبعينيات كلاً من كلاوس كينسكي وهانا شيغولا وأنجيلا ونكلر، رغم أن الريادة كانت من نصيب الممثل الكبير إميل جننغز. تألقت نجومية هافا شيغولا في عديد من أفلام فاسبيندر، بينما لمع نجم كينسكي في عدة أفلام لهيرتزوغ، وبرزت وينكلر في أفلام شلندورف خاصةً. كلهم وصل إلى العالمية، وظهر في أدوار بطولة في أفلام أوربية وأمريكية مرموقة. يذكر أيضاً أن فيرنر هيرتزوغ نفسه مارس التمثيل بغزارة في السينما الهوليوودية بشكل موازٍ لعمله كمخرج.
أنجب تيار «التعبيرية الألمانية» - سواء بمخرجيه الألمان أو المنتمين إلى الطيف الأوسع جغرافياً من الثقافة الألمانية – نهراً متدفقاً من المخرجين والمخرجات على مر السنين، غزا عديد منهم استديوهات السينما الأوربية والأمريكية، محققين نجاحات مرموقة. لاشك في أن التعبيرية تمخضت عن اتجاهات ومقاربات أخرى بعيدة عن الرعب المباشر، عالجت غربة الروح وخيبة أمل الحب واندحار الطموحات ضمن موضوعات عديدة مبتكرة أخرى. مازالت أشعة شمس السينما الألمانية تشع على السينما العالمية بين حين وآخر بفيلم يحظى بالجوائز ويدوَّن عنوانه في السجل الذهبي لتاريخ السينما .