الحرف العربي... وأفق الخيال
اللغة نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة في المعرفة، وتعتبر اللغة أهم أدوات التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. ومن دون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً. فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. فقط في اللغة تحصل الفكرة على وجودها الواقعي. واللغة ترمز إلى الأشياء المنعكسة فيها.
كذلك تمثل الكتابة واللغة مقومًا من أهم مقومات الأمم الثقافية، فهما وسيلة سجلّ تراثها وثقافتها ورمز قوتها وحريتها، ومعْلم من معالم حضارتها، وهمزة وصل بين أجيالها المتعاقبة، لذا كانتا محل عناية الأمم واهتمامها، ويعظم شأنهما حين تكونان وعاء إرث خالد، اختاره الله لغةً لخاتمة الرسالات السماوية إلى الأمم كافة ولغة لكتابه الكريم، المعجزة الخالدة التي تحدّى الله بها فصحاء العرب وأبهرهم بسحر بيانها وروعة معانيها ودقة نظمها.
كما يمنح الخط العربي الفنان قدرة على التجويد والانطلاق، فهو حقل مفتوح للإبداع والتنوع ودرجات التجسيد في مسارات مختلفة.
وعلى شاطئ مدرسة الخط العربي نبغت ألوان عدة حافظت على النقاء الكلاسيكي وبهر التدفق من ينبوع لا ينضب أبداً.
كذلك، فالخط العربي هو هوية المنطقة وألحانها الفنية، كما أنه يعطي مساحة للاجتهاد والاقتراب من أفكار جديدة وموضوعات تستوعب لغة العصر وتلقي بظلالها عليه.
ودائماً الخطاط العربي في بؤرة الاهتمام وفي مركز الضوء، لأن الفن الذي يقدمه يعتمد على دراسة طويلة ومعرفة عميقة بالقرآن الكريم والعلوم النحوية وقواعد الإملاء وفنون الزخرفة والتشكيل، ومدرسة الخط العربي متنوعة وتعطي دائماً فرصة للنبوغ في هذا العالم الثري الذي يجدد نفسه دائماً بالتأمل في الخط القرآني وقواعد الكتابة، وإشراقات العطاء.
لقد حمل المسلمون قيم الإسلام العليا وأخذوا في نشرها وتعميمها في أرجاء المعمورة كافة، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوربية الغربية في ما بعد.
ومع مرور الزمن نتجت حضارة إسلامية جديدة، أسهمت بتلاقح وتفاعل تراثها الفكري والمعرفي والفني الإبداعي في إنضاجها لمكونات حضارات الشعوب والأمم التي دخلت الإسلام.
ولم يلبث هذا النضج أن أنتج فنّاً إسلاميّاً رائعاً قُدر له أن يكون من أجمل الفنون جمالاً وكمالاً ومن أكثرها تقبلاً في مهج وقلوب الناس جميعاً.
فنٌّ ازدهر في جميع بقاع الأرض وما تخالط أو تمازج مع فنٍ آخر إلا اكتسب تآلفاً وتناغماً شديدين، فدخل في العمارة والفنون الزخرفية والتطبيقية والفنون التشكيلية بمختلف جوانبها.
فنٌّ يتسم بخاصية التنوع في الوحدة، ويتميز بالحيوية والتفاعل مع غيره من الفنون تأثراً وتأثيراً، فهو فن لا يشيخ أبداً.
عندما يكتنف الغموض أسرار اللوحة الخطية من حيثيات ومجريات التطبيق الفعلي فإن اللوحة الواحدة ذات نوع ومقاس مشترك وحجم موحد ونص محدد، وفي مشغل الإنجاز كل على حدة ووزِّع على خيرة الخطاطين والمبدعين في العالم لنتجت من ذلك لوحات تصدح عبقرية ورؤى متنوعة قلَّ أن تتطابق في فعلها لوحتان.
يدلنا هذا على أن النسيج الخطي يأخذ توليفات متنوعة في تصميم اللوحة الخطية التي تنفرد بآفاق بعيدة واختلافات عديدة، ما يعطي لهذا الفن كل الحيوية والنماء على مواكبة العصر والبحث في دراستها بحذق وموضوعية شاملة.
إننا الآن نسير في الأفق الرحب الذي يتماشى مع عبقرية الخط التي تلامس جوهر الثقافة روحاً وعطاء، ومن الواجب علينا أن نثري هذا الأفق في إعطاء الأهمية البالغة لهذا الفن الذي يواكب العصر ويتواءم مع التحديث وينأى في الدخول بين متاهات العولمة.
لقد وقف هذا الفن بكل شموخ أمام جميع التحديات، وحتى هذه اللحظة مازلنا نكتشف فيه الجديد والثمين.
إن المحافظة على صناعة وتطوير هذا الفن الجميل ونشره في كل وسائل الإعلام، باتت مطلباً يسعى إليه كثير من المنتديات والمؤسسات الثقافية تأكيداً لهويتها السمحة التي تتمتع بها.
وفي إطار التنظيرات والاجتهادات التي تهدف إلى المحافظة على هذا التراث، ينبغي الوعي التام بالدور الذي يمكن أن يساهم به هذا الفن الجميل نحو بناء جسور التواصل الإنساني والحوار الحضاري العالمي.
إن الفن عموماً والخط العربي منه خصوصاً، هو أصدق أنباء التاريخ، وهو واحد من أهم علوم هندسة الروح والجسد وأكثرها سمواً ورقياً، ذلك لأنه قادر كموسوعة وقوّة خازنة لخيال الأمم على تحقيق التواصل والتفاعل الحضاري.
وقد لعب فن الخط العربي دوراً كبيراً في خلق حوار فنّي حضاري متميّز، لأنه انطلق من هويته وحافظ على خصوصيته الثقافية فاستطاع من خلال جمالية إبداعه الفني تقديم الوجه الحقيقي لحضارته وإعطاء فيض هائل من المفردات المتنوعة التي تحاول التغني بها والتفاعل معها.
فالحركة الفنية التي تعج بالحياة والبناء صنعها يراع الخطاط، من تراصف الحروف، وازدحام التشكيل، وإيقاع الكلمات، في هندسة بنائية تضيف إلى الفن الإسلامي لونا آخر من ألوانه العريقة، ارتبط بعروبة اللغة، وعربية القرآن.
وما أحوج أجيالنا اليوم لأن تتذوق جمال الخط العربي، وعذوبة انحناءاته، وانزلاق رسومه، ولاسيما أن الفن قد ارتبط بصخب الموسيقى، وفضيحة الصورة في إيقاع يخطف البصر، ويفسد روعة الفن في زمن العولمة، فضلاً عما اقترن بالأذهان من أن الحاسوب قد حلًّ مكان أنامل الخطاطين.
والأمر في حقيقته كمن يشم الأزهار البلاستيكية بأريج البنفسج والياسمين.
وليست هذه الصورة خيالية، فيا لكثرة ما تخرّب الذوق الفني، والإحساس الجمالي في زحمة العبث بالفطرة، والاستمتاع بالرعب، والطرب بالأصوات المنكرة.
كما أن الحروف العربية تستطيع أن تعبر عن المشاعر والأحاسيس، فضلاً عن أنها بتنوع أشكالها وأساليبها هي لغة تعبير بصرية.
فالفن هو لغة أشكال وألوان، ولعلَّ التنوع الكبير لأساليب الخط يجعله لغة رحبة وميداناً فسيحاً للتعبير.
فالخط الديواني بليونته ورقة حروفه تجعله رومانسياً موسيقياً، والكوفي بهندسته وصلابته أحياناً وزخرفته تجعله لغة معمارية، وخط التعليق هو خط رقيق خفيف بصرياً هو خط الشعر والطيران، وأنواع تتفرع إلى مائتي نوع.
والخطاط المتمرس على الخط بكل أشكاله وأنواعه يمر بمرحلة طويلة من التدريب حتى ينفتح له الخط في تجلياته وإشراقاته وكأنه يشرق من داخله هندسة روحانية، وقد يخفق ولا يوفق أحياناً لعدم جلاء أفق الخط له، وهذا مرتبط بحالة الصفاء الداخلي.
وإن من خاصية الحرف العربي، الميلان أثناء الكتابة، والذي يحمل قيمة صوفية، تتجلى في الثقافة العربية كلها، كالرقص الصوفي، والميلان الروحي، الذي نجد له مثيلاً في الحركة الطبيعية، كانحناء الأشجار والأنهار، وتموجات الرمل الأساسية، والتي ربما كان لها أكبر الأثر في تشكيل هذا الميلان، بما يرينا أن الحرف العربي، ليس وليد الصراع أو الانقلاب، بل وليد التواصل الطبيعي، واستلهامه حضارياً، حيث يواصل الخط الطبيعي، ميلانه بكل حرية (لأن الميلان ميزة أساسية في الخلق الكوني)، فلا يجد ثقافياً واجتماعياً ما يؤدي إلى تحريف هذه الطبيعية، أو يضغط عليها ليقولبها في أطر ثقافية جامدة، وحتى الخط الكوفي الذي يعتمد على وضع الحدود الهندسية للحرف، لم يسمح بقيام مثل هذه الرؤية فيه، بل إن هندسيته قامت أساساً على الميلان وتوظيفه بالقدر نفسه مع التحديد، وهذا يعطينا فكرة عن المرونة التي يتميز بها الخط العربي، والحرية التي يتيحها لاستيعاب متضمنات الطبيعة، وإدماجها في الأنساق الاجتماعية والثقافية.
كما أن بعض الخطاطين المشهورين ينعتقون مع حروفهم ويتحولون معها إلى ما يشبه ترنيمة سماوية، تتجاوز فيها الحروف وتتعانق في سيمفونية بصرية تفيض بأجواء روحانية، وكأن الحرف بمنزلة شيخ صوفي حمله الوجد ليتطلّع إلى السماء بحثاً عن فضاءات أكثر اتساعاً وحرية.
فالمزاوجة الواضحة بين جماليات الخط ورقي المضمون سمة واضحة في أعمال الخطاطين المبدعين ليستمد الحرف مما يحمله من معان روحاً جديدة وقوّة كامنة تتوالد عنها تركيبات وتكوينات تعكس قدرة الفنان على سبر أغوار الحرف وأسراره، وتوظيفها ببراعة في إطار جمالي يتداخل فيه الإيقاع والحركة مع اللون في لوحات بصرية ولونية تعكس بشموخ الرشاقة والتآلف، فيستشعر المتلقي مع حركة الحرف واتجاهه الدائم نحو الارتقاء.