الجانب الإسلامي في مسرح توفيق الحكيم

الجانب الإسلامي  في مسرح توفيق الحكيم

اعتمد توفيق الحكيم (1898 - 1987م) في صوغ الجانب الإسلامي من إبداعه المسرحي على التراث الإسلامي، فكتب «أهل الكهف» التي نشرت طبعتها الأولى مكتبة مصر عام 1933م، وكتب «سليمان الحكيم» ونشرت طبعتها الأولى من قبل دار النشر المذكورة عام 1943م، وللحكيم أيضا نص مجهول لم ينل الشهرة نفسها، لأنه لم يعرض للنقد ولا العرض بقدر ما عرضت بقية مؤلفاته التي لم تقتصر على المسرح بقدر ما تنوعت كما نعلم بين السرد الروائي والقص والمقالات الفكرية والنقدية.

وهذه الحوارية الدرامية بعنوان «محمد» ، اتكأ في صوغه لها على السنة النبوية العطرة، ونشرتها مكتبة مصر بالقاهرة أول طبعة عام 1936م، ثم أعيد نشرها في مارس 1959م، وهي من النصوص المسرحية النادرة التي عالجت السيرة النبوية في الفترة القصيرة الواقعة بين معرفة العرب للمسرح وإدراك أهميته وبين صدور الفتوى الأزهرية الأولى بتحريم تشخيص الرسل والأنبياء وعلى رأسهم محمد  وكذلك المبشرين بالجنة، وكان ذلك على إثر إقدام ألمانيا على صناعة فيلم سينمائي عن نبي الإسلام، واختيار الفنان المصري الشهير آنذاك يوسف وهبي للقيام ببطولته، الأمر الذي دفع الحكيم إلى حجب هذا العمل بشكل ما، بحيث لم تظهر أي من طبعاته القديمة على نطاق واسع إلا بعد وفاته، بالتزامن مع ظهور مخطوطة بخط يده لمسرحية «أهل الكهف» كان قد أوصى أيضاً بعدم نشرها إلا بعد وفاته، كما يصنف النص في أعمال الكاتب بأنه «سيرة حوارية» لمحمد ، وما المسرح على حد علمنا إلا قصص مصونة في هيئة حوارية.
إذا مسرحيات توفيق الحكيم ذات الصبغة الإسلامية التي اتكأ الحكيم في كتابته لها على القرآن الكريم هي كما قلنا «أهل الكهف»، التي تصدر نصها المطبوع قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (سورة الكهف: 11 - 12)... تبدأ أحداث «أهل الكهف» باقتحام حاملي المشاعل لكهف مظلم بحثاً عن كنز من النقود الذهبية القديمة، فيجدون «مشلينا» و«مرنوش» و«يمليخا»، ورابعهم كلبهم في حالة هزال شديد بشعور مبعثرة وأظفار طويلة وملابس عتيقة قديمة مهلهلة كأنهم الكنز المرتقب.
وتمضي الأحداث نحو بـــــهو الأعمدة بقصر الحاكم، حيث تلتقي بريسكا ذات الملابس البيضاء شديدة الشبه بجــــدتها التي كانت تدعى أيضاً بريسكا مع مشلينا حبيب الجدة العائد من الكهف الذي يراها تحمل الصليب الذهبي ذاته الذي كان أهداه جدتها مع نسخة من الكتاب المقدس، فيناجيها ظناً منه أنها حبيبته التي يجــــهل رحيـــلها منذ مئات الأعوام. 
هرب هؤلاء الرجال من الملك الروماني دقيانوس عدو المسيحية الذي ما إن عرف عن إيمانهم بالمسيحية حتى قرر أن يجعل منهم عبرة لكل من يفــكر في مثل ذلك، فهربوا إلى الكهف ليضيع الله على ذلك الملك الظالم فرصة الانتقام ويشرح قلوب المزيد من العباد إلى الإيمان، لاستشعار حقيقة أن الأمر أبعد من إرادة ملك من البشر مهما كانت قوته. 
اختار الحكيم من بين الأعداد المذكورة في القرآن الكريم ثلاثة رجال هم مرنوش ومشلينا من حاشية الملك، أما الثالث فهو يمليخا الراعي الذي قادهم إلى الكهف وذهب بعدما استيقظوا يشتري لهم الطعام، لأنه لا أحد يعرف بأمر إيمانه بالمسيحية، وعاد ليخبرهم بأن العملة التي لديهم انقرضت منذ مئات الأعوام، وجاء الأهالي خلفه بحثاً عن الكنز.
أُعلن الدين المسيحي ديناً رسمياً للدولة الرومانية عام 313م، ولذلك اعتبرهم الملك قديسين لأنهم قطعوا هذه الرحلة الطويلة عبر الزمن بعد أن ناموا  كل هذه السنين ليجعل من موتهم المؤقت أو نومهم الطويل آية على ما حاول الحكيم أن يناقشه بالنص الذي عالج فكرة علاقة المرء بالزمن وما لها من آثار اقتصادية كعلاقة الراعي بأغنامه، التي تجعله يقرر العودة إلى الكهف في انتظار الموت الذي رآه أفضل من حياة بلا حلم، وآثار اجتماعية كما جرى لمرنوش الذي افتقد زوجته الطيبة وابنه الذي تركه رضيعاً وعاد ليجده قد مات منذ سنين وهو في عمر الستين، بعد أن كافح كفاحاً عظيماً في صفوف الجيش الروماني، فيرجع حزيناً لموت ولده ويقرر العودة إلى الكهف وانتظار الموت الذي لا بديل له في حياة بلا إطار أسري، ويبقى الحب الرهان الأخير لمشلينا العائد بلهفة إلى الأميرة بريسكا التي ارتبط معها بعهد مقدس، والذي لم يشعر بكل هذه السنين التي غاب عنها فيها مادام قد رآها حاضرة شاخصة أمامه في صـــورة الحفيدة التي تشبهها تماماً، والتــــي من شدة تواصلها معه تحمل الصليب الذي كان قد أهداه لهــــا، فيجري بينهما حوار طويل حول علاقة الحب بالزمن وإمكان التواصل العاطفي بين رجال وفتيات من عصور مختلفة، وهل الحب الذي نشأ وترعرع ونما في ظل القهر الروماني للمسيحية سيكون الحب نفسه بعد انتشار المسيحية واعتبارها الديانة الرسمية للدولة الرومانية الأكثر سيطرة على أكبر مساحة من العالم؟ وعبثاً تذهب كل محاولات التواصل سدى ليضطر بدوره إلى اللحاق برفيقيه بالكهف في انتظار الموت المحتم كحلٍّ أفضل من الحياة في عصر غير العصر الذي خلق للعيش فيه.
يرى الحكيم أن الإنسان يؤثر في عصره ويتأثر به، وأنه مهما حاول المرء أن يحيا في زمان غير الزمان ما استطاع، وأنه حتى الحيوان لا يمكنه ذلك، إذ بالرغم من تهميش دور الكلب في نص «أهل الكهف» للحكيم، فإن الحقيقة أن مصيره ارتبط بمصير أهل الكهف جميعاً، وفي النهاية يلتزم الملك بنصيحة مستشاريه بدفن «أهل الكهف» في كهفهم مع وضع فئوس يستطيعون بها إن عادوا للحياة مرة أخرى شق طريقهم إليها. 
جعل الحكيم الصراع في هذه المسرحية بين الإنسان والزمن، وبين الحقيقة والواقع، وهذا الصراع هو ما جعل هذه المسرحية التي قدمها الحكيم على أنها غير قابلة للتشخيص على خشبة المسرح، وقال إنها للقراءة فقط كأحد نصوص «المسرح الذهني» التي درسها وعرف عنها في رحلته إلى فرنسا التي كانت لهدف الحصول على دكتوراه فلسفة القانون، ولكنها اتجهت إلى الدراسات المسرحية لتجد طريقها إلى المسرح، فعرضت سنة 1934م في افتتاح المسرح القومي بالقاهرة من إخراج الرائد المسرحي زكي طليمات.
آخر ما كتب الحكيم من النصوص المسرحية ذات الصبغة الإسلامية «سليمان الحكيم»، وتتكون من سبعة مناظر وليست فصولاً، تأكيداً من الكاتب على أنها مكتوبة للقراءة فقط لا للتمثيل أو العرض على المسرح، لذلك كتب عنها الباحث والناقد محمد عبدالوهاب صقر في كتابه «الروائع السبع لمسرح توفيق الحكيم»: «إذا كانت مسرحية بجماليون هي مسرحية الفن التشكيلي، فبراكسا جورا أو مشكلة الحكم هي مسرحية الماكياج، ومسرحية شهرزاد الموسيقى، ومسرحية أهل الكهف مسرحية الملابس المسرحية، فإن مسرحية سليمان الحكيم هي مسرحية الخدع والحيل المسرحية»، لأن خروج العفريت من القمقم ودخوله مرة أخرى يحتاج إلى حيل مسرحية بارعة، وفي النص أيضاً تنطفئ الأنوار، ثم تعود من جديد ومعها عرش بلقيس الذي رأيناه في المنظر الأول، فإذا به يظهر من جديد في صدر البهو قبيل حضور بلقيس لزيارة سليمان.
وتبدو الخدع المسرحية أكثر عندما يكون سليمان وبلقيس على بساط الريح، ويمكن في حالة عدم إمكان إتقان هذه الحيل أن يذكر ذلك على سبيل الرواية.
أما الشخصيات الأكثر أهمية في هذه المسرحية، فهي شخصية بلقيس ثم منذر وسليمان وشهباء، لكن بقية الشخصيات ثانوية.
تقول المسرحية إن الإنسان إذا ملك القدرة فإنه يسيء استعمالها لتنمو بنسبة أكبر من نسبة نمو الحكمة، وهذه هي مأساة الإنسانية. إن سليمان الذي سخر الله له الجن والإنس والرياح وكل القوى الطبيعية لم يستطع أن يجذب إليه قلب بلقيس، لأن القلب البشري كما رأى توفيق الحكيم هو الأعجوبة العظمى، حيث لا تحب بلقيس سليمان بقدر ما تحب أسيرها منذر الذي لا يحبها وإنما يحب وصيفتها شهباء، ومهما كانت بلقيس ملكة لها عرش عظيم واستطاعت أن تهزم الأمير منذر وتأسره،  فإنها بهذا السلطان لم تستطع أن تثني منذر وتجعله يحبها، وأن الدول الكبرى تملك القدرة المتمثلة في القنبلة الذرية وغيرها من أدوات التدمير، وأن الأمم المتحدة التي ترمز إليها الحكمة لا تستطيع كبح هذه القدرة المدمرة.
وهكذا أظهرت هذه المسرحية قوة الإنسان الخارقة بما سخره الله له من إنس وجن وطير وريح وما إلى ذلك، ومفارقة عجز كل ذلك أمام عاطفة الحب التي لا علاقة لها بالقوة.
استثمر الحكيم جل موهبته الإبداعية وخبراته الدرامية في صوغ السيرة النبوية، وقد أخبر عن ذلك في مقدمة نص مسرحيته الإسلامية بقوله: «... فعكفت على الكتب المعتمدة والأحاديث الموثوق بها واستخلصت منها ما حدث بالفعل، وحاولت على قدر الطاقة أن أضع كل ذلك في موضعه كما وقع في الأصل...». والمطالع للنص يجد الحكيم صاحب المسرح الذهني والعبثي والكاتب الدائم التفكر والتدبر في مختلف المواقف الإنسانية منع نفسه وفكره وبكامل إرادته من أي اجتهاد في ما يخص السيرة، ملتزماً بزمان الأحداث ومكانها، ومسارعاً للإشارة إلى أي خروج أو تجاوز للضرورة الدرامية، قائلاً في أحد تعليقاته بالمقدمة المذكورة: «الوقائع الواردة في هذا الكتاب كلها صحيحة مروية في الكتب السابق ذكرها، على أن ترتيب هذه الوقائع وتنسيقها لم يتبع فيه النظام الزمني المعروف في كتب التاريخ لما هو مفهوم من أن هذا الكتاب ليس عملاً تاريخياً ولا علمياً، وإنما هو عمل فني». 
الكتب التي اعتمد الحكيم عليها في كتابة السيرة النبوية بطريقة مسرحية درامية هي على سبيل الحصر «سيرة ابن هشام» وتفسيرها للسهيلي وطباب ابن سعد، و«الإصابة» لابن حجر و«أسد الغابة» لابن الأثير، وصحيح البخاري، وتاريخ الطبري، وتيسير الوصول، والشمائل للترمذي.
يبدأ النص من قبل مولد الهادي سيدنا ونبينا محمد ، مروراً بلحظة ميلاده الجميلة، ثم جميع المواقف المؤثرة والأهمية التربوية التعليمية ذاتها في حياة محمد ، ويستمر الحكيم في سرد السيرة النبوية الشريفة بحب وصدق وشفافية، متتبعاً حياة محمد  حتى رحيله، بعد أن ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً. 
أعلن مصطفى صادق الرافعي إعجابه الكبير بمسرحية «محمد» للرائد المسرحي توفيق الحكيم، على عكس كثير من الآراء المتحفظة وقتها في شأن المسرح الإسلامي الذي يشخص قصص الأنبياء والمرسلين كما علمنا، وهو ما حال بالطبع دون تنفيذ هذا العرض والتوسع في نشره وتوزيعه، بعكس أغلب كتابات الحكيم المسرحية التي يعتبر هذا النص المسرحي من أهمها من حيث المستوى الناضج وصوغ المواقف العظيمة المؤثرة من حياة سيد المرسلين  ، وقد أفاض الرافعي في الحديث عن ذلك في كتابه «وحي القلم» بقوله: «عمل الأستاذ توفيق الحكيم في تصنيف هذا الكتاب أشبه شيء بعمل كريستوفر كولومبوس في الكشف عن أمريكا وإظهارها من الدنيا للدنيا، لم يخلق وجودها، ولكنه أوجدها في التاريخ البشري وذهب إليها، فقيل: جاء بها إلى العالم، وكانت معجزته أنه رآها بالعين في عقله، ثم وضع بينه وبين الصبر والمعاناة والحذق العلم، حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة. 
قرأ الأستاذ كتب السيرة وما تناولها من كتب التاريخ والطبقات والحديث والشمائل بقريحة غير قريحة المؤرخ، وفكرة غير فكرة الفقيه، وطريقة غير طريقة المحدث، وخيال غير خيال القاص، وعقل غير عقل الزندقة، وطبيعة غير طبيعة الرأي، وقصد غير قصد الجدل، فخلص له الفن الجميل الذي فيها، إذ قرأها بقريحته الفنية المشبوبة، ومررها على إحساسه الشاعر المتوثب، واستلهمها من التاريخ بهذه القريحة وهذا الإحساس كما هي في طبيعتها السامية متجهة إلى غرضها الإلهي محققة عجائبها الروحية المعجزة». 
هذا إسهام بالرأي ومساندة لنص أدبي مسرحي يستحق المساندة، وهذا الإسهام من قامة أدبية كبيرة مثل الرافعي يعزز قيمة هذا النص ويؤكد أهميته، وقد اختتم الرافعي كتابته عن نص «محمد»  بما نختم به مقالنا وهو قوله: «وحسب المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذب السيرة تهذيباً تاريخياً على نظم التاريخ، وإن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيباً فنياً على نسق الفن» .