فن الفيديو...هيمنة التكنولوجيا

فن الفيديو...هيمنة التكنولوجيا

شكل «فن الفيديو» واحداً من فنون ما بعد الحداثة التي أبدلت في شكل الصورة ودورها، ونعني بذلك «الصورة المتحركة» التي عرفناها مع السينما والتلفزيون كموضوع وتقنية. إلا أنّ فن الفيديو يختلف بشكل كلي عن هذين النمطين من التكنولوجيا العلمية؛ فالأمر لا يقتصر على نقل صورة من الواقع مع موضوع معيّن وبداية وخاتمة وزمن تقليدي في فيلم مصوّر، بل إنّ ما حصل هو خارج التصوّر والجماليات التي اعتدناها.

بين عشرينيّات القرن الفائت وستينيّاته كانت السينما التجريبيّة حاضرة بفاعلية على الساحة الفنيّة للصورة المتحرّكة. جرّبت نفسها كعامل تفكيريّ وتضميديّ للجرح المتداول في ذاك الوقت. ثمّ جاءت حركة «الفلوكسس» Fluxus ومعها «فن الأداء» La performance اللذان فرضا سيطرتهما وحضورهما في ما بعد على كل الفنون حتى وقتنا الحاضر.
ابتدأ فن الفيديو مع مجموعة «الفلوكسس» الذي يعني «التغيير»، أي من أصول «مفهومية» بامتياز (نسبة إلى الفنّ المفهومي القائم على مبدأ «الفكرة» وغلبة المادّة المّصنّعة سلفاً Ready made). وقد دخلت آلة الفيديو على «فن التجهيز L`Installation» في السبعينيات منذ صناعة أوّل آلة تصوير محمولة. تمثل هذا الاتجاه الفني الجديد بالنحاتين ريتشارد سرّا R.Serra وبــــروس نيومان B.Nauman وكيت سونيي K.Sonnier وفناني التمثيل، أو الأداء، أمثال جون جوناس J.Jonas، وربّما أكثر هذه الأعمال طموحاً تعود للفنانين الأمريكيين بيل فيولا B.Viola وجوديت باري J.Barry.
يُصنف فيولا الفيديو بأنه أسلوب تأمّل الحقيقة والدخول في الوقت نفسه إلى عالم يخبّئ الحقيقة.
لكن مع التطوّر التقني للوسيط، فإنّ فناني الفيديو تملكوا ما يُسمّى المجال الفني المعرفي – العملي. شكّلت الفلوكسس امتداداً للحدوثية Happening الأمريكية، التي تعتمد على الجسد وحركاته، والمتمثلة بنشاطها الخارج عن المألوف، إذ ضمّت خليطاً من الموسيقيّين والراقصين والمُصوّرين والنحاتين والشعراء المنتمين إلى جنسيات مُختلفة.
الفلوكسس كالدادائيّة تطمح إلى التحرّر من مُختلف أنواع الكبت الجسدي والعقلي والسياسي كتعبير عن الفوضى، ورفض الحواجز المصطنعة بين الفنون والحياة.
كانت لـ «نام جون بيك  Nam June Paik» محاولات عدّة لدمج الفن بالموسيقى عبر التكنولوجيا، حيث قام بعرض شاشات تلفزيونية عدّة بأحجام مختلفة متصلة بالفيديو، وكلّ شاشة تحوي عرضاً موسيقياً.
يمكننا ترجمة مُصطلح «فيديو» باللغة العربية بمصطلح «الصور المتحركة المتحرّرة»، أو «الصور الإلكترونية» المرافقة للتسجيل الصوتي
L`Audio-vidéo.
فن الفيديو هو بوتقة لجمع الفنون. وفنونه المبكرة يُمكن أن تُرى بالواقع كتسجيل أداء ومآثر فناني الأداء أو البرفيرمونس La performance السباقة.
قد يستغني فن الفيديو عن الممثلين؛ فوجود هؤلاء ليس شرطاً أساسياً أو ضرورة لتنفيذ الفكرة والعمل. لا داعي للحوار كما في السينما التي هدفها دعوة الجمهور إلى المشاهدة. يستخدم فنان الفيديو هذا الوسيط ليُعبّر عن نفسه كفنان يتعامل مع وسيلة فنيّة خاصّة جداً.
يُعرّف الفنان الفرنسي إيرفيه نيسّيك Hervé Nissic الفيديو بأنه تقنية ومجال فني أخطبوطي يتناول التجربة الفنيّة بمستويات عدّة: موسيقى، تصوير فوتوغرافي وأدب، اجتمعت كلها في عمل من الصور، نستطيع التدخل فيها في كل الأوقات. يمكن أن يُستعمل الفيديو كوسيلة إظهار وعرض أنظمة أخرى متعدّدة، وهو أيضاً بالنسبة لفناني الفيديو وسيلة تعبير تلقائي لخلق نوع من مغلف صوت وصورة.
إذا شئنا التحديد أكثر، فقد ولد فن الفيديو ضمن سياق الفنون البصرية عام 1963. فهو إذن، جزء من تاريخ الصورة المتحرّكة. لقد عالج الفنان ن.ج. بيك N.J.Paik صورة عرضها في كاليري بارماس Parmass، ضمن معرض حمل عنوان «معرض الموسيقى الإلكترونية exposition of music electronic television». بعد عامين صوّر زيارة الأب بولس السادس Paul VI لنيويورك، مستعيناً بتجهيزات محمولة استقدمها من اليابان. استعمل الفيديو في أداءاته  Ses performances التي حلت شيئاً فشيئاً محل الموسيقى التي درسها في هونغ كونغ وألمانيا. في الفترة نفسها استعمل الفنان الألماني وولف فوستيل Wolf Vostell آلة الفيديو في أداءاته وتجهيزات (المنحوتات).
بعد تطوّر فن الفيديو في سبعينيات القرن الماضي أصبح نموذجه الانعكاس الخاص، مفتشاً عن خصوصيّته، ولاسيّما بالنسبة للسينما.
في الثمانينيّات، وبشكل مغاير، تحوّل فن الفيديو نحو الرقص والموسيقى والسينما والتلفزيون. وأقام أيضاً علاقات مع فنون السرد narratifs والبورتريه والتبادلات الرسائلية، فخلق مزيجاً مشوّشاً من الكلمات وحركة الأجساد والأصوات. استعان بتـمثيل أشخاص مشهورين وأشخاص مجهولين، متطرّقاً إلى السياق المعيش. ولم يعد ينتقد التلفزيون كما في ستينيات، وسبعينيات القرن الماضي في سياقه الإنتاجي، لكنه حاول الدخول في تحقيقات قصيرة العرض Courte durée.
العلاقات بين الفيديو والسينما معقدة جداً. ففي الفيديو نشهد موقفاً تحليلياً قياساً للسينما. خاصّية الفيديو بالنسبة للأخيرة توجد في المعالجة المباشرة للصورة. عمل مباشر أثناء التصوير أو أثناء التقاط الصورة، وبعدها حركة أو فعل يدخل في الواقع الحقيقي La réalité، معادلاً لفن التصوير.
رائد الفيديو نام جون بيك هو من أوائل فناني الفيديو، وأبرزهم، نظراً للدور الكبير الذي لعبه في هذا المجال. على يده حصل التركيب الأوّلي للصور عبر ابتكاره آلة تمتلك الصور بمساعدة شخص تقني كهربائي.
فنان كوري ومؤلف موسيقي وُلد في سيول Séoul في كوريا عام 1932، درس الموسيقى وتاريخ الفن والفلسفة.
هو رائد في فن الفيديو، وقد أعطى صورة عن بهلوان. تعامل مع الفيديو و«فن التجميع L’assemblage» على طريقته الخاصة، التي تختلف عن طريقة الفنان آرمان Arman، حيث يقوم عمل نام جون بيك على رصف الشاشات المنتجة للصور والأضواء بالمئات مبتكراً مفهوماً جديداً للعمل الفني. أقام عملاً أسماه برج بابل لمناسبة الألعاب الأولمبية عام 1988 في سيول التي وُلِد فيها.
مواقفه عبثية ساخرة (وهذا مبدأ أساسي من مبادئ ما بعد الحداثة) تُعبّر عن أزمة العلاقة بين الفن والمجتمع. أبرز أعمال نام بيك هو تمثال بوذا الجالس قبالة صورته على التلفاز الذي هو عبارة عن دائرة مُغلقة. هناك عمل آخر تحت عنوان Positive Egg عبارة عن مجموعة من بيض الطيور معروضة على خلفية سوداء في سلسلة من شاشات الفيديو. يتعرّض البيض إلى تكبير في الحجم شيئاً فشيئاً، ليُصبح بعد ذلك من مستحيلات الصورة؛ لعبٌ على مفهوم أصل الكائن وأصل الحياة والواقع المفترض في لعبة الفن... وقد تكون آلة التلفزيون البديل عن الثياب التي نرتديها بمزيج من السخرية ولعبة الكنايات، حيث أصبح الإنسان عبداً للآلة التي تنتج الصورة لتحلّ مكانه، ولتشكل عريه حيث يتحوّل الجسد إلى آلة انتفت منها العواطف والرومانسية وكل ما حمله الإنسان من حضارات عبر عصوره. ظهر هذا الشيء في أعماله المتنوّعة؛ ففي عمل «حمالة الصدر» الذي نفّذه عام 1969 تحوّلت الفتاة شارلوت المكشوفة الصدر إلى مُجسّم تلفزيوني كرداء لها بدل ثيابها، ونفذه عام 1989 بناء على طلب من بلدية باريس لمناسبة المئوية الثانية للثورة الفرنسية.
له عمل آخر بعنوان «جوزيف بويز J.Beuys 1988» عبارة عن شكل منحوتي يرمز لهذا الفنان، مؤلف من مجموعة أجهزة فيديو على رأسها قبعة الفنان الشهيرة. وهناك أيضاً «الجيتار»، وهو عبارة عن مُجسّم مؤلف من مجموعة تلفزيونات أُضيفت إليها يد الجيتار وأسلاكه.
وبالتطرّق إلى أعمال الفنانين الآخرين، فإنّ عمل الفرنسي جان بول فارجييه J.P. Fargier جاء في مجال الفن المقدّس، حيث قدّم سلسلة من الأعمال التركيبية Installations vidéo حول موضوع مأخوذ من الإنجيل.
وفي موضوع زيارة السيّدة العذراء للقدّيسة أليزابيث قدّم تركيباً من اثنتين وخمسين شاشة بمنزلة فيتراي / فيديو، مؤلفة من ثلاثية تروي لقاء العذراء بقريبتها أليزابيث، والاثنتان حبالى.
عمَلُ غاري هيل Gary Hill  «تعليق لعدم الإيمان بمريم» مؤلف من ثلاثين شاشة تلفاز معلقة على عمود أفقي مصنوع من الألمنيوم، يرتفع ست أقدام عن الأرض. صور تظهر لنا حطام جسد امرأة وجسد رجل يرفرفان بتسلسل عبر الشاشات، تتلاقى، يتداخل بعضها في بعض، ثمّ تتلاشى بصمت وهدوء؛ شهوانية، ولكن تحايلية موجودة بحيويّة، ولكن لا يمكن الوصول إليها. هذا المونتاج المغري يُقدّم الصور متسلسلة بخفة، يناشد فكرة الاتحاد، ويمنعها في آن واحد.
يقوم عمل غاري هيل على إقامة علاقة بين الصورة والصوت (الصوت الخفيف، اللغة، أكثر الأحيان النص المكتوب، وهنا المقروء)، وعلى مواجهة اللغة مع الحقيقة التي يفترض أن تقدّمها.
الفنان تيري كانتزل T. Kuntzel، بدوره، اعتمد في عمله على الفلسفة والألسنية وسيميولوجيا الصورة، من السينما خاصة، بمادة مطواعة أكثر من الفيلم.
الفنان بالديسّاري Baldessari صوّر نفسه في لباس أبيض على خلفية بيضاء لمّاعة، يقوم بحركات بسيطة ودقيقة تُسمّى بالإنجليزية Decidely unchorographed مع إدخاله بعض الكلمات المكرّرة لبعض العناوين، ليبتكر من هذا كله جوّاً خاصاً وتأثيرات وإحساسات منوّعة.
الفنان الألماني حنا وايك Hannah Wike اكتشف ديناميكية الفنّ عبر جسد امرأة، مقرّباً آلة التصوير (الفيديو) نحو وجهها بحركات إيمائية غرائزية. وبالتدريج، تصبح الصورة مشوّهة من خلال التحريف في ملامح وجهها. الهدف من هذه الأعمال هو صدم المشاهد وإغراقه في هذه الموجة الجديدة، وقيام علاقة ما بين الجمهور والمؤدّي. في عمل إيرفيه نيسّيك  «غزو حقيقي L`invasion du réel» نرى مشروع فيلم فيديو تبيّنه هذه الوثيقة. يتعلق الأمر هنا بفيلم طويل. نرى تقنيـــات عــــدّة تتدخــــل مبــــاشرة على الفيلم مع مركب كيميائي، ستتداخل كلها مع وسائط إلكــــتـرونيــة على صـــورة التركـــيــب La synthèse. سيكون هذا العمل قصّة خيالية، حيث ستكون المؤثرات التشكيلية مهمّة بمقدار أهميّة الأشخاص. ستدور في مكان متخيّل، انصهار لثلاث مدن: باريس، برلين ولشبونة. يودّ الفنان من خلال هذه الرؤية القول إن عمله يقع في مركز الإدراك، أكثر منه في جانب الرؤى الطبيعيّة.
أمّا عمل الفنان بول فارجييه بعنوان «الزيــــارة La visitation» فيبدو قريباً جداً من فن الفيتراي (الزجاج المعشق) مع ضوئه الذي ينبع من الداخل وتشعّباته التي توجب بأنّ الفيتراي فيديو سيرى النور يوماً ما. وإذا كان الفيديو بهذه الطريقة قام بزيارة للفن المقدّس، فقد حصل هذا الشيء بوساطة هذا العمل المركب الذي نفذ عام 1988 في مونبيلييه الفرنسية. عرض من خلال تسع عشرة شاشة لقاء والدة السيّد المسيح بالقدّيس يوحنا المعمداني. في وسط الفيتراي عُرضت صورة أشعّةٍ تذكيراً بأنّ الفيديو هو أيضاً صوت تحوّل إلى صورة، صورة تتجسّد، حيث الكلمة صارت جسداً حسب التعبير اللاهوتي. إنّ هدف الفيديو هو إشكالية الصورة المعاصرة، نسبة للتصوير الفوتوغرافي والسينما والتلفزيون والتقنيات الأخرى الجديدة. إنّ الصورة التركيبية الصافية هي نتيجة مسار علم الرياضيات، يستطيع، أو يحاول الفنان من خلالها تحقيق مشروع البرمجة المستقبلية .