الانفجارات المعرفية أخطر من الأسلحة النووية

الانفجارات المعرفية أخطر من الأسلحة النووية

إن حرباً تشنها دولة كبرى لن تخرج عن إطار استثمار التفوق التكنولوجي واستخدامه لإحداث تدمير سريع كثيف يشل قدرة الخصم على المقاومة، ولذا تتزايد أهمية الاعتماد المتزايد على المعلوماتية لتطوير التقنيات الحربية لحسم المعارك سريعاً، بما يحقق أقل خسائر بشرية للطرف الأقوى المتفوق تقنياً. 

لقد أصبح شل قدرة الطرف الضعيف على المقاومة والرد والنفاذ من نقاط ضعف الطرف القوى وثغراته عنصراً رئيساً في تطوير كثير من الأسلحة الجديدة. وبــرز دور التطبيقات الحربية للتقنيــات الحديثة التي أطلقتها الثورة المعرفية  في هذا المجال واضحاً وشديد الفاعلية، خصوصاً بعـدما شكلـت الآفــــاق الواسعة للمعلوماتية في الحــروب التقنية بديلاً لا يقل خطورة وفاعلية عن الأسلحة النووية ويلعب اكتشاف الفيمــتو ثانية وتحطيم الزمن دوراً في ذلك.
تلاحقت الانفجارات المعرفية في عصرنا بتسارع هائل وتزاحمت بتواتر شديد. عناوين قليلة تكفي لتوضيح التفوق المذهل، كمّاً ونوعاً، لما تم إنجازه اكتشافاً وابتكاراً واختراعاً في العقود الأخيرة مقارنة مع ما سبق على امتداد آلاف السنين. من هذه العناوين: الانشطار النووي وتطويع الإلكترون والفوتون والنيوترون بما قاد إلى آلاف الاستخدامات والتطبيقات السلمية والحربية، وتنويع مصادر الطاقة البديلة، وصولاً إلى استخدام وقود من أكسجين أو هيدروجين الهواء، واستنباط المواد التركيبية بخصائص مرغوبة، واستنباط آلاف الأصناف من الأدوية متواكبة مع تقدم هائل في معالجة الأمراض، وصولاً إلى زراعة أعضاء الجسم، واكتشافات وابتكارات مذهلة في الهندسة الوراثية والتقنيات الحيوية وصولاً إلى استنساخ حيوانات وبشر، فضلاً عن التحكم في مضاعفة كميات إنتاج المحاصيل النباتية عشرات المرات واستنباط نوعية متحكم في خصائصها مسبقاً، بل أصناف من الحيوانات ذات مواصفات وخصائص حسب الطلب، مع تأكيد أن الخطوة القادمة هي بشر بخصائص وقدرات مقررة سلفاً!
لكن يجب ألا ننسى أن أصحاب هذه الإنجازات لايزالون عاجزين وحائرين أمام القدرات الطبيعية لأضعف المخلوقات وأبسطها، مثل النمل والنحل والخفاش. 
مع ذلك، نحتاج إلى وقفة مطولة عند عنصر بالغ الأهمية ميز الإنجازات المعرفية في العقود الأخيرة، وما ترتب عليها من تطبيقات عسكرية ومدنية في عنصر السرعة المتعاظمة، إلى أن وصل الأمر حداً وصفه الخبراء بـ «بتحطيم الزمن» عبر التوصل إلى القياس بالفيمتو ثانية Femtosecond، إذ جاء هذا الوصف عندما تم فعلاً القياس بالفيمتو ثانية، أي بجزء من مليون مليار جزء من الثانية (جزء واحد من واحد أمامه خمسة عشر صفراً من الثانية)، وكتب عنه د.أحمد زويل في مذكراته: «الفيمتو ثانية بالنسبة إلى الثانية التي اعتدناها أصغر وحدة لقياس الزمن في حياتنا العادية كمثل الثانية بالنسبة إلى 32 مليون سنة!»، وعلى هذا الإنجاز نال جائزة نوبل.

تحطيم الزمن بين المفهوم والمحسوس
 قبل الفيمتو ثانية كانت لدينا وحدة قياس هي البيكو ثانية Picosecond، وتساوي جزءاً من ألف مليار من الثانية (واحد مقسوماً على الرقم واحد وأمامه اثنا عشر صفراً)، ثم النانو ثانية Nanosecond فتساوي جزءاً من مليار من الثانية (واحد مقسوماً على واحد أمامه تسعة أصفار)، ثم الملي ثانية Millisecond، وهي جزء من مليون جزء من الثانية (واحد مقسوماً على واحد أمامه ستة أصفار). ولئن جاءت تسمية مللي من رقم ألف باللاتينية والفرنسية، والميكرو من كلمة «صغير» في اليونانية، والنانو من كلمة «قزم» في اليونانية، والبيكو من كلمة «صغير» في الإسبانية، فإن الفيمتو جاءت من كلمة (فمتن) FEMTEN الإسكندنافية التي تعني أن الرقم أمامه خمسة عشر صفراً. 
 ويستخدم علماء الفيزياء النووية وحدة القياس فيمتوميتر، وهي جزء من مليون مليار جزء من المتر لقياس أبعاد النوبات الذرية المسماة فيرمي. وهناك وحدة قياس أصغر من الفيمتو هي أتو ثانية Attosecond وهي جزء من مليار مليار جزء من الثانية (واحد مقسوماً على واحد أمامه ثمانية عشر صفراً)، «أتو» مشتقة من الرقم ثمانية عشر باللغة الإسكندنافية. 
إن التعامل بهذه الأجزاء المتناهية الصغر من الثانية لم يعد مجرد عملية حسابية افتراضية نظرية، وإنما بات له تطبيقاته ومجالاته المختلفة، بحيث ظهر مثلاً مصطلح الفيمتو كيمياء، الذي يربط مقياس الزمن المتناهي في الصغر بالمادة في دراسات حركية الروابط الكيميائية، ومصطلح الفيمتو فيزياء الذي يبحث في حركة الظواهر الفيزيائية في هذا الزمن المتناهي في الصغر... وما إلى ذلك.
 إننا هنا أمام خصائص ومعطيات جديدة تماماً في التعامل والتطبيقات المختلفة وشتى مجالات الحياة؛ فما دامت القدرة على رصد حركة جزيئات المواد غير المرئية في هذا الجزء الصغير جداً من الثانية قد توافرت، فإن الدقة في الأداء باتت مطلوبة بما ينسجم مع هذه القدرة. ولم يعد الزمن مسألة هامشية Marginal على نحو ما اعتادت معظم مجتمعات العالم أن تتعامل معه. وهنا نقف عند تمييز العالم الإنثروبولوجي إدوارد هول لمفهومين ثقافيين للوقت في عالمنا:
1 - التعددية الزمنية Polychronism السائدة في ثقافات يقوم أفرادها بعمل أشياء عدة في الوقت نفسه، كما في منطقتنا العربية وإفريقيا ومعظم أنحاء آسيا (عدا اليابان، وإلى حد ما الصين التي يسودها مزيج من المفهومين الأول والثاني) وأمريكا اللاتينية. يبدل أصحاب هذا المفهوم خططهم بشكل متكرر، ويتعاملون مع الجداول الزمنية كأهداف في حد ذاتها، لا كإطار لإنجاز العمل خلاله، وهم يعطون العلاقات بين الناس أولوية خاصة متقدمة تكون غالباً علاقات وطيدة طويلة الأمد.
 2 - الأحادية الزمنية Monochronism، وهو مفهوم ثقافي للزمن يسود في أوربا الغربية والوسطى، وإلى حد ما في شرقها، إضافة إلى امتدادها الحضاري في شمال أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا، وكذلك اليابان، فيقوم الأفراد في هذه المجتمعات بعمل شيء واحد يجري التركيز عليه في زمن معين، ويلتزم الأفراد بالخطط الموضوعة ويعملون على تنفيذها بدقة من دون تسويف أو إبطاء، ولا تحظى العلاقات بين الناس أصحاب هذا المفهوم الثقافي للزمن بأهمية كبيرة، وهي غالباً علاقات قصيرة الأمد.
إن مسألة الزمن وتعاملنا معه، وتعامله معنا أيضاً، تأخذ أكثر أبعادها خطورة عندما يتعلق الأمر بحروب بات التدمير فيها شاملاً والحسم خاطفاً. لقد عشنا مثلاً وصول الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق إلى حافة الهاوية عندما عبأ الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان مجتمعه وحرضه لدعم ما أسماها بـ «مبادرة الدفاع الاستراتيجي»، أو ما سمي بـ «حرب النجوم»، بعدما أوضح أن الاتحاد السوفييتي قد تفوق في كثير من عناصر القوة، مما يحتم وجود قفزات أمريكية كبرى لردم الهوة.

أجيال جديدة من أسلحة الضــوء
بيير جالوا Pierre M.Gallois لخص جوهر تلك المبادرة التي كانت فخاً وقع الاتحاد السوفييتي فيه فانهار وتفكك، بأنه «عسكرة تقنيات عجز العلماء عن السيطرة عليها مخبرياً»، مثل القدرة على التدخل الفعال بسرعة الضوء وبسلاح غير مادي، وأن تتولى حاسبات إلكترونية تجري مليار عملية في الثانية اتخاذ قرار تحطيم الخصم. ولنا أن نتصور أي وضع يائس سوف يكون لطرف محارب يواجه تدميراً واسع النطاق لأفراده وتجهيزاته وأسلحته ينجم عن أشعة غير مرئية يطلقها خصم عن بعد، حتى عبر القارات والمحيطات، أو من منصات في الفضاء الخارجي. إن التفوق في استخدام الطيف الكهرومغناطيسي والتحكم أكثر في تطبيقاته أهم عناصر الانتصار في حروب اليوم. لكن هذه الحقيقة تفتح باب الأمل للطرف الأضعف عسكرياً أيضاً، فيستطيع باستخدام بارع ذكي لتقنيات الأشعة تحييد أو تعطيل أو تدمير منظومات أسلحة وأنظمة قيادة وسيطرة واتصال وتجهيزات أخرى هائلة للطرف الأقوى المتفوق.
لقد ظهر جيل جديد من الأسلحة الضوئية أو الشعاعية في السنوات الأخيرة، تقتل بصمت، من غير أن يراها الضحايا، وتدمر من دون ضجيج، وتشل فجأة قدرات قتالية وتجهيزات تكنولوجية حيوية ضخمة، مثل مراكز القيادة والسيطرة، أو حركة الطائرات والسفن والقطارات، أو شبكات الاتصالات ومحطات الطاقة الكهربائية وإمدادات المياه، أو البنوك والمؤسسات الإنتاجية والإدارية، فقد طرأ تطوير هائل على أسلحة الطاقة الموجهة Directed Energy Weapons ) DEW) التي تشل الخصم عبر إطلاق شحنات من الذبذبات أو الأيونات منذ بدأ ابتكار تطبيقات حربية لتقنياتها قبل نحو خمسين عاماً في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق؛ فهذه الأسلحة من حيث المبدأ شعاع محدد قوي من الطاقة الإلكترومغناطيسية ينطلق بسرعة الضوء، وبخط مستقيم تقريباً، أسرع من طلقة البندقية مثلاً بثلاثمائة وخمسين ألف مرة، وفي عنصر السرعة هذا ما يعطي فكرة عن القدرات التدميرية الفعالة لأسلحة الطاقة الموجهة. 
كذلك هو شأن الليزر Laser  الذي تتزايد استخداماته الحربية المختلفة، وهو أساساً كما يدل اسمه المكون من الأحرف الأولى لتعريفه «تقوية الضوء عبر بث الإشعاع المحرض» Light Flmplification by Stimulated Emission of Radiation، أي بتسليط حزمة متجانسة من فوتونات موحدة الطول، وبموجة ذات طول واحد أيضاً، تمتاز أساساً بقدراتها على اختراق أكثر الأجسام صلابة وأقساها، خلافاً لبعض أنواع أشعة أخرى، نشير أيضاً إلى التطبيقات الحربية لأشعة الجزيئات Partical Beams التي تستخدم لتدمير المستشعرات الإلكترونية وشبكات الاتصال ومحطات الرادار وأجهزة القيادة والسيطرة، فضلاً عن تسببها في إتلاف البصر لدى البشر.
وقد تكاثرت التطبيقات والاستخدامات المختلفة للأشعة من خلال السيطرة على هذا التفكك والتحكم في مساراته، أي توليد كمية هائلة من الطاقة ثم تحويلها إلى ميكروذبذبات وإطلاقها على شكل حزم من ذبذبات إشعاعية انتشارية ذات تأثيرات مختلفة على الأهداف المعادية البشرية والمادية، مثل التحكم في الانشطار النووي واستخدام الطاقة الهائلة المتولدة عنه. 

أسلحة الطاقة الموجهة
لقد التبس أمر أسلحة الطاقة الموجهة وسواها من التطبيقات الحربية على كثير من غير المتخصصين نتيجة لمحاولات جهات ذات مصلحة أساسية في إيهام العامة بأن هذه الأسلحة تمثل إنجازاً كبيراً على طريق أنسنة الحرب، ولكن واقع الأمر أن تلك الأسلحة تحجب الشمس عن بقية الأرض المستهدفة، مما يهدد بإبادة البشر ومعظم الكائنات الحية فوقها. من هنا فإن تضافر تأثيرات أسلحة البيئة والأسلحة الإشعاعية يؤذن بمرحلة بالغة الخطورة من العبث بحياة البشر - خاصة المدنيين - وبمصير الحضارة الإنسانية عموماً.
إن خوض الحرب بشكل خاطف عن بُعد، وعبر المحيطات والقارات، سواء بالصواريخ أو القذائف الموجهة أو الأشعة، يلغي الأحاسيس والقيم الإنسانية إلى حد بعيد، لمصلحة طغيان المعادلات والمعطيات الرقمية، مع ذلك، هناك من يصرون على أن دور التكنولوجيا مهما تعاظم لن يقهر دور الإنسان. 
يقول الجنرال الفرنسي المتقاعد فانسان ديبورت Vincent Desportes: «الروح المعنوية وحدها ستتيح غداً إيجاد الحلول للأزمات والنزاعات غير المنظورة، والروح المعنوية وحدها ستتيح عدم الانحراف وراء التقانة، فثمة حل واحد هو العودة إلى النظريات، والعثور على ما صاغه الفكر العلمي عبر قرون، والتجهز بوسائط الفهم والإدراك، وباختصار: العودة إلى نظام الروح بغية فرض سيطرة أفضل على النظام المادي ونظام المصادفات والظروف. فقد حاولت الصناعة والميكنة والمعلوماتية عبثاً ودون طائل قلب أشكال الحرب، ولكن استمرت المقومات الدائمة للهزيمة والنصر في عكس الصورة الطبيعية الدائمة للظاهرة الاجتماعية التي هي الحرب. إن طاقات الإنسان وحدوده الجسدية والنفسية يمكن أن تلغي كل ما أنجزته الثقافة في لحظة واحدة... الإنسان لا يتغير، وتعود الحرب هي هي». 
 إن الركون إلى كفاية التقنيات وفاعليتها المذهلة غالباً، قد يشكل مقتلاً حتى لأكبر الجيوش وأقواها، ولعل مكمن المعضلة الكبرى للتكنولوجيا المتطورة المعاصرة هو في تحولها إلى نقطة ضعف على الرغم من مضاعفات القوة التي تتضمنها وتقدمها، عندما تغذي وهما بإمكان انتزاع انتصار خاطف سهل من دون خسائر بشرية، بعدما كان التفوق هو لب الترويج لها والدافع إلى تطويرها، سواء أنتجت أسلحة مميتة أم غير مميتة.
 لقد دفعت البشرية ثمناً باهظاً في القرنين الأخيرين للمصالحة بين المفهوم والمحسوس، والممكن والمرغوب، والثقافة المتوارثة وتلك الغازية، والحق الذي كان قوة، والقوة التي باتت تغتصب الحق وتفرض بعنفها واقعاً. لكن ما هو قادم مع قرننا الجديد أشد وطأة في ظل انهيار الوهم لدى معظم المجتمعات البشرية بالقدرة على الإمساك بالواقع، والإمساك بالزمن .