التعاطف مع الذات

 التعاطف مع الذات

يعني التعاطف مع الذات أن نعامل أنفسنا بلطف ورعاية وحب وتفهم عندما لا نكون في أحسن أحوالنا، مثلما نفعل عادة عندما نواسي شخصاً عزيزاً علينا في معاناته أو في مواقفه العصيبة حين نلتمس له ألف عذر، ونشد من أزره.

يساعد التعاطف مع ذواتنا على التقليل من القلق والاكتئاب، ويعين على تحسن مهارات التوافق العاطفي والتعاطف مع الآخرين. ويتضمن التعاطف مع الذات - كما ترى كرستين نيف، أستاذة التنمية البشرية المساعدة في جامعة تكساس بأوستن، ومؤلفة كتاب «توقف عن جلد نفسك وابتعد عن عدم الأمان»- مكونات ثلاثة: أولها الطيبة مع الذات، أي أن نصبح لطفاء مع أنفسنا ونتفهم أنفسنا عندما نعاني؛ وثانيها الإنسانية المشتركة التي تعني أن ندرك أننا لسنا وحدنا في المعاناة، ولسنا وحدنا من يخسر ويفشل ويفقد ويرتكب أخطاء ويواجه بالرفض، بل نرى في ذلك جزءاً أساسياً من التجربة الإنسانية المشتركة؛ وثالثها الحضور الذي يتضمن ملاحظتنا للحياة كما هي من دون إصدار حكم على أنفسنا أو كبت أفكارنا ومشاعرنا.

المقربون منا 
مثل ذواتنا، الأشخاص المقربون منا، كأفراد أسرتنا الذين نعاملهم أحياناً بقسوة ولا نتعاطف معهم، بل نكون  أكثر ميلاً لمهاجمتهم، ولاسيما في حالات الغضب أو الخوف عليهم، أو إذا ما شعرنا أنهم يضايقوننا أو يتنافسون معنا على موارد أو فرص أو تتعارض مصالحنا مع مصالحهم. ورغم كونهم الأقرب إلى قلوبنا، بل بمنزلة أنفسنا، فإننا لا نحترمهم كما نحترم الغرباء، ولا نتعاطف معهم في أوقات وقوعهم في الخطأ. وفي الوقت الذي يتأنق فيه معظمنا أمام الغرباء، لا يفعل ذلك في البيت، ويجامل الناس بتقديم هدايا، ويتجاهل أفراد الأسرة في مناسبات عديدة، ويتحدث بصوت رقيق وهادئ خارج المنزل، ويعلو صوته لأتفه الأسباب في داخله؛ ويكظم الغضب في العمل، ويتسامح، بينما ينفجر في وجوه أولاده، ويمطرهم بالنقد.

الشعور بالبؤس
لا يعد نقد الذات دافعاً محفزاً، كما يعتقد البعض، فلا يوجد في ذلك ما يحفز، في الحقيقة، وحتى لو ساعدنا نقد الذات على تحقيق إنجازات رائعة في وقت من الأوقات، فسنظل نشعر بالبؤس؛ ففي بعض الأحيان لا تنفع القسوة ولا يجدي العقاب، كما هي الحال مع تربية الأولاد، بينما تفيد المساندة ويعزز التشجيع. ويكون التعاطف مع الذات بالنسبة لنا مثل الوالدين المحبين، حيث نلقى الدعم والقبول والحب بلا شروط، حتى لو لم يكن أداؤنا على ما يرام، أي أن نقبل حقيقة أنه من الطبيعي ألا نكون مثاليين. وإذا كان نقد الذات يمكن أن يجعلنا نشعر بأننا سيئون، فيركز التعاطف مع الذات على تغيير سلوكنا الذي قد يجعلنا غير سعداء.
ومن المهم أن نعلم بأن التعاطف مع الذات ليس رثاء لها، ولا دوران في فلكها، لأن الرثاء يعني أن ننغمس في مشكلاتنا، وننسى أن الآخرين يعانون أيضا، بينما يعني التعاطف مع الذات رؤية الأمور كما هي تماما، لا أقل ولا أكثر، والاعتراف بمعاناتنا ومعاناة الآخرين التي تشبه معاناتنا- وربما تفوقها- في الظروف المشابهة. كما لا يعني التعاطف مع الذات الجري وراء المتع هاجرين مسؤولياتنا، بل التركيز على تخفيف معاناتنا، قدر المستطاع، والتهوين على أنفسنا.

استراتيجيات التعاطف
   من استراتيجيات التعاطف مع الذات:
- التفكير في كيفية التعامل مع الشخص الآخر؛ وأبسط ما يمكن أن نفعله، تخيل ما الذي سنقوم به لو جاءنا شخص عزيز علينا بعد تجربة مريرة من فشل أو رفض؛ ماذا سنقول له؟ وكيف سنتعامل معه؟
- مراقبة لغتنا، فقد نكون معتادين على نقد الذات، بحيث لم نعد ننتبه لما نفعل أو نقول، ودليلنا تلك التصرفات أو الكلمات التي يمكن أن نقولها لأنفسنا، بينما لا نفكر في توجيهها للآخرين حرصاً منا على مشاعرهم.
- تهدئة أنفسنا بحركات جسدية، لأن للحركات الجسدية الطيبة أثراً فورياًَ على الأبدان، كأن يضع الشخص يده على قلبه، أو يحضن نفسه.
- تذكر مجموعة من جمل التعاطف، أي الكلمات المتعاطفة مثل «هذه لحظة معاناة، والمعاناة جزء من الحياة»، لنجد أنه لا مفر من أن نكون طيبين مع أنفسنا.
-  ممارسة التأمل، لأن ذلك يمكن أن يساعدنا على تهدئة العقل، ليصبح التعاطف مع الذات أمراً طبيعياً. 
وحتى لو بدا تطبيق مثل هذه الاستراتيجيات غير طبيعي في البداية، فسيفضي الاعتياد إلى نتائج إيجابية في النهاية.

الحضور والتعاطف مع الذات 
    يعتبر الحضور من الموضوعات ذات الصلة الوثيقة بالتعاطف مع الذات، وهو ما تأكد عبر دراسات متزايدة أجريت في العقدين الماضيين حول فوائد الحضور ونوعية الانتباه. أما الحضور- وفقا لبيشوب وزملائه- فيتكون من عنصرين أساسيين هما انتباه المرء لخبرة اللحظة الراهنة كما تحدث تماما، وربط هذه الخبرة بموقف فضول وانفتاح وقبول. 
   وقد ثبت أن للحضور آثاراً نفسية إيجابية، وقدرة عالية على تخفيف الأعراض العاطفية السلبية. فالتعاطف مع الذات يقترح التأثر بشخص يعاني، وظهور رغبة في تخفيف معاناة هذا الشخص، ومعاملة الذات بفهم واهتمام، ولذلك صلة بجميع خبراتنا الشخصية المتعلقة بالمعاناة الناتجة عن عدم الملاءمة والفشل ومواقف الحياة المؤلمة عموما؛ ويتضمن - كما سبقت الإشارة - مكونات الطيبة مع الذات في مقابل الحكم عليها؛ والشعور بالمشاركة الإنسانية في مقابل العزلة؛ والحضور والتأمل في الموقف وتقديره كما هو في مقابل المبالغة عند مواجهة انفعالات وأفكار مؤلمة متعلقة بالذات.
ومرة أخرى تعني الطيبة مع الذات الميل لرعايتها وتفهمها بدلا من نقدها بقسوة. ويتضح قصور الطيبة وغياب الدعم والمساندة في التركيز على ملاحظة الجوانب غير المحببة فينا، واستخدام لغة عنيفة. والأفضل دائماً أن نستبدل بالهجوم وجلد الذات تصرفا أكثر ملاءمة، وقبول الذات قبولا دافئا. وعلى المنوال نفسه، تستدعي ظروف الحياة الضاغطة استجابة تعاطف مع الذات بالتوقف أولا، والتهدئة والتقاط الأنفاس، ثم السعي للسيطرة على الوضع بحل المشكلة.
ويتضمن الشعور بالإنسانية المشتركة في التعاطف مع الذات، إدراك أن البشر جميعهم غير كاملين؛ وأن الناس كلهم معرضون للفشل وارتكاب الأخطاء والحماقات، ومواجهة تحديات الحياة الصعبة. ويربط التعاطف مع الذات الظرف الخاطئ، الذي نمر به، بظرف إنساني مشترك، بحيث يتم تناول الذات من منظور أشمل. وينبغي ألا نلاحظ أمرا لا نحبه فينا أو في حياتنا، ونشعر أن ذلك ما كان يجب أن يكون؛ كي لا تغيب مشاركة خبرات الفشل وخيبة الأمل مع الآخرين، مما قد يشعرنا بالعزلة عمن يفترض أن نعيش معهم حياة طبيعية.
ويتضمن الحضور في سياق التعاطف مع الذات، الوعي بخبراتنا المؤلمة بطريقة متوازنة، أي من دون تجاهل أو تضخيم. ومن الضروري أن نكون على وعي بمعاناتنا الشخصية حتى نتمكن من التعاطف مع أنفسنا. ومن المهم في الوقت نفسه، الانتباه بطريقة تمنع حدوث الاستطراد في شرح المعاناة إلى حد تشتت التركيز، والدخول في منطقة المبالغة. 
جدير بالذكر أن هناك نوعين من الحضور: نوع يتضمن التعاطف مع الذات، وهو محدود المجال، ويعني الوعي المتوازن بالأفكار والمشاعر السلبية في المعاناة الشخصية؛ ونوع آخر عام يعني القدرة على الانتباه لأي خبرة -إيجابية كانت أو سلبية أو متعادلة- وقبولها قبولا متوازنا. ويميل حضور التعاطف مع الذات إلى التركز على الخبرة الباطنية والأحاسيس والمشاعر والأفكار؛ كالشعور بألم ما في أسفل الظهر. ويمكن للوعي الحاضر أن يوجه لتغيير الإحساس بالألم، بينما يهدف التعاطف مع الذات إلى توجيه الشخص الذي يعاني من ألم الظهر. ويركز التعاطف مع الذات على تهدئتها، والتخفيف عنها في المحن؛ كأن يتذكر المرء أن هذه الخبرات جزء من الطبيعية البشرية. 
ومما تشير إليه الأبحاث العلمية، أن الأفراد الذين يتعاطفون مع أنفسهم، يتمتعون عادة بصحة نفسية أفضل مقارنة بالأشخاص غير المتعاطفين؛ وتعيش الفئة الأكثر تعاطفا مع الذات مستويات قلق واكتئاب أقل، الأمر الذي يتعلق بنتائج أخرى مثل انخفاض الكوليسترول، وتحسن أداء القلب. كما يرتبط التعاطف مع الذات بمستوى أقل من التفكير في الكمال والخوف من الفشل؛ إضافة إلى مستوى أقل من كبت الأفكار غير المرغوب فيها، واستعداد أكبر للاعتراف بأهمية المشاعر السلبية؛ والتمتع بقوى نفسية إيجابية كالسعادة والتفاؤل والحكمة والفضول والاستكشاف والمبادرة الشخصية والذكاء العاطفي؛ وقدرة على التوافق بفاعلية مع أسباب التوتر ومع الفشل الأكاديمي، والألم المزمن. 
ومن جانب آخر يستطيع المتعاطفون تحسين علاقاتهم بالآخرين، فيتسامحون ويتعاطفون بصورة أكبر. كما يشجع التعاطف مع الذات عديداً من السلوكيات الصحية، مثل الالتزام بنظام غذائي جيد، والابتعاد عن التدخين، والمداومة على ممارسة الرياضة، وهو ما أثار اهتمام عديد من المتخصصين في علم النفس بطرق تعزيز التعاطف مع الذات، كما تشير مجلة علم النفس الإكلينيكي .