استراحات وتأملات فكرية

استراحات وتأملات فكرية

كعادتي في أوقات الراحة، أنتقي كتاباً مريحاً في الأدب، في الشعر أو القصة أو التاريخ. ولطالما أنسى ما تقادم من قراءاتي، أو ربما أحن إلى ما قد قرأته منذ زمن طويل، فالحنين إلى الماضي يدفعني إلى دهاليز كتب الأدب التي أجد فيها هدوءاً نفسياً وراحة بال، فأعود أبحث عنه في مكتبتي لأقرأه مرة أخرى. وعندما أبحث عن كتاب، تقاطعني بعض عناوين الكتب الأخرى، فأجمعها، وكأني أجمع باقة من الزهور لأضعها في مزهرية النفس المتعبة من عناء الألم. 

لا أدري كيف جاء على خاطري بيت من القصيد فرددته:
كــم ضــــعــــيف بكــــى ونـــــــادى 
فراحت لبكاه تقهقه المدفعية
فتوالت بعد هذا البيت أبيات من القصيدة نفسها:
ها هي الحرب أشعلوها 
فرحماك إلهي بالأمة العربية
يا بني الفاتحين حَتَّامَ نبقى
في ركودٍ أين النفوس الأبيَّة
غيرنا حقّق الأماني وبتنا
لم نحقق لنا ولا أمنية
فاتجهت إلى ركن الدواوين الشعرية أبحث فيها عن ديوان الشاعر الكويتي فهد العسكر، الذي جمعه وقدّم له وشرحه الأستاذ الأديب عبدالله زكريا الأنصاري - رحمه الله -، سحبت الكتاب من مكانه، وجلست أتصفحه من جديد. كان الشاعر فهد العسكر من أعلام شعراء الكويت المجددين، والتجديد في زمن التقليد كان مرفوضاً، فاعتزله المقربون بعد أن رموه بتهم الكفر والإلحاد والفجور، وعاش في شبه وحدة، وهو الكفيف العفيف، وهرب من الظلم والظلام، ساكباً همومه وأحزانه في بحور الشعر وأقداح الراح. وبهذا زاد كلام الناس عليه، حتى تمنى الموت على الحياة.
رسم التاريخ صورة الشاعر فهد العسكر بألوان كاذبة، ورسخت تلك الصورة في أذهان الأجيال. فرأيت لزاماً أن أصحح يسيراً من تاريخ هذا الشاعر الذي اتهم بتهمٍ أقل ما يقال فيها إنها تُخْرِج شاعرنا من ملة الإسلام. كان فهد بحسه القومي العروبي رافضاً لكثير من الأوضاع السياسية التي كانت تعصف بالعالم العربي، وكان يشجبها في شعره صارخاً ساخراً وقد أضناه السّهَر:
ماذا أقولُ وإنْ شَكَوْتُ فَمِن
جورِ القضاءِ وقسوةِ القَدَرِ
مالي أُحيِّي الشمسَ مغتبطاً
عند الغروبِ بأروعِ السُّوَرِ
مالي أودعها إذا طَلَعَت
بمدامعي وأعودُ بالكَدَرِ
مالي أرى جاري يُكَفِّرُني
ويُقدِّمُ القُربانَ للحَجَرِ
مالي أرى الغربانَ طائرةً
والصقرَ دامي القلبِ لم يَطِرِ
مالي أرى المسكين يلهث في
هُوجِ الرياحِ وهاطل المَطَرِ
مالي أرى «شمعونَ» يظلمه
ويَبِيتُ مرتاحاً على السُّرُرِ
مالي أرى «ألبِيرَ» مُنتفخاً
وقميصه قد قُدَّ من دُبُرِ
مالي أرى «ساسونَ» يَجْرَحُني
ويقول لابنةِ عَمِّه اعتذري
مالي أرى «حزقيلَ» يَقْتُلُ مَنْ
يهواه مِن أنثى ومن ذَكرِ
سَرَق ابن آوى ديكَنا سَحَرا
ودجَاجُنا مِنْه في خَطَرِ
والفأرُ يَشْرَبُ بَيْضَها طَربا
أبداً فيا لتبلبلِ الفِكَرِ
دنيا المهازل والشذوذ غدت
نارَ الليوثِ وجنّة الحُمُرِ

أهزلٌ هذا أم شكوى أم رثاء للنفس والمجتمع؟! أم هي بليل مظلم داج يكتنفه السكون صرخة تستيقظ الأرواح والعقول؟! أم هو اليأس بعد أن ضاعت كل الأماني والأحلام؟! 
ونطوف بالقصائد فنرى مزيجاً من الألم والأمل، ألم صراع الأمة العربية وتفككها، وأمل تكاتفها ووحدتها ضد أعدائها، بهذا المعنى يُنشد فهد قصيدته «بسمة ودمعة» التي نختار منها ما يلي:
كفكف بربك دمعك الهتّانا
وافرح وهنئ قلبك الولهانا
واهتف وصفّق واحْسُ من راح اللقا
كأساً لكيماً تطرد الأحزانا
واسكب أناشيد اللقاء بمسمع الـ
ـدهر المُصِيخِ وردد الألحانا
وفي القصيدة نفسها يستشرف الشاعرُ المستقبلَ، وكأنه شاهد على أحداث اليوم:
أبناء يعرب والكوارث جمة
هيا انبذوا الأحقاد والأضغانا
وتآلفوا وتكاتفوا وتساندوا
 متراصفين وحرروا الأوطانا
الأرض ترجف والسماء مغبّرة
وبكل ناحية ترى شيطانا
غاز وألغام بها كمن الردى
والطائرات تطارد الإنسانا
ومدافع الموتِ من أفواهها
أَجْرى الدماءَ وفرّق الأبدانا
وقنابل صرعُ القلوب صراخها
ويلاه تمحو الدُّور والسُكّانا
أفراد يعرب والعروبة تشتكي
هلا شفيتم قلبها الحيرانا
كل الشعوب تقدمت وتحررت
أيروقكم سجن الحياة مكانا
يا نشء يا أمل البلاد وسُؤْلها
أَقْسِم على أن لا تطيق هوانا
فالله نِعْم العوْن جل جلاله
إن تَعْدَم الأنصار والأعوانا
كان هذا هو فهد العسكر، بالله واثقاً ومؤمناً بالحرية وللأمة العربية منتمياً.

استراحة مع كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ
وبين الحين والآخر تكون استراحتي بين كتب الأدب، وصدق ابن خلدون عندما قال: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أنّ أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين؛ وهي كتاب «الكامل» للمُبَرِّد، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها». إلا أنّ ظُرف الجاحظ يجذبني، ولِمَ لا وهو أول من كَتب للعامة بقصد نشر الثقافة والأدب. ويتناول الجاحظ في كتاباته ما لم يتناوله كتَّاب عصره ولا من سبقوهم، فببساطة القول إنهم كانوا يكتبون بسمت العلماء في التعليم، أما الجاحظ فكان باحثاً راوياً وناقلاً للأدب والعلم. وكان ذا أسلوب سلس وباهر ومرح وغير ممل، حتى يخيل لك وأنت تقرأ كتابه، أنك أمام مشاهد سينمائية صاغها مخرج العمل ببراعة. لقد كان الجاحظ جريدة عصره وإذاعتها وتلفازها... يقول الجاحظ عن كتابه «الحيوان»: «وهذا الكتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم... فقد أخذ من طُرَف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة... ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المُجِدّ ذو الحزْم، ويشتهيه الغُفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفَطِن». 
وفي «البيان والتبيين» لا يخفي الجاحظ انتماءه إلى مدرسة المعتزلة الفكرية، بل يؤكد هذا الانتماء في أكثر من موقع، فعندما ذكر واصل بن عطاء، مؤسس مدرسة المعتزلة، ذكره مادحاً كخطيب مفوه وفصيح، على الرغم من لثغته في حرف «الراء». ومن هذا الباب يستعرض الجاحظ أنواع اللثغة: ويبدأ بلثغة حرف السين وقلبه إلى ثاء (اسم=اثم)، ثم لثغة القاف وقلب الحرف إلى طاء (قال=طال)، ولثغة اللام إلى ياء (جمل=جمي)، واللثغة الأغرب في قلب اللام إلى كاف (ما العلة=مكعكة)، ثم يُفصل لثغة الراء في قلبها إلى أكثر من حرف ومَخْرَج، حيث تقلب إلى الياء أو الغين أو الذال أو الظاء، ولم يستطع الجاحظ أن يشبه لثغة واصل بن عطاء كتابةً «فليس إلى تصويرها سبيل»، وهو مخرج الحرف من إلصاق اللسان بسقف الفم. بعدها يُعَرِّج الجاحظ على عيوب النطق في الفأفاة والتمتمة والتأتأة، ويذكر أشباهاً وأمثالاً.
كانت موجة الاتهامات السياسية والدينية عالية في عصر الجاحظ، وقد أُخِذ كثير من الأبرياء بالشبهة. لذا كان الجاحظ حريصا على ألا يثير خصومه ليحملوا عليه ويتهموه بأي تهمة دينية أو سياسية، ولكنه يشير إلى اللبيب الذي يقرأ كتابه إلى التفكر ببعض الروايات التي لا تستند إلى أصل، وإنما أخذها الناس جيلاً عن جيل فأصبحت بمنزلة «الرواية المقدسة». يقول الجاحظ:
«وقد زعم ناس من العوام أنّ موسى عليه السلام كان ألثغ... ومنهم من زعم أنه إنما اعتراه حين قالت آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لفرعون: لا تقتل طفلاً لا يعرف التمر من الجمر. فلما دعا له فرعون بهما جميعاً تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه... وكان الواقدي يروي عن بعض رجاله، أنّ لسان موسى كانت عليه شأمة فيها شعرات. ولا يدل القرآن الكريم على شيء من هذا. لأنّه ليس في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} (سورة طه آية 27) دليل على شيء دون شيء».
إنّ هذه الرواية التي ذكرها الجاحظ بأنها «زعم» من العوام، قد تكرر ذكرها في بعض كتب التفسير والتاريخ. والواقدي هو محمد بن عمر بن واقد السهمي (130-207هـ/747-823م)،  كان من كبار علماء التاريخ وأقدمهم، وهو من أخذ عنه محمد بن جرير الطبري الكثير من الروايات في تاريخه «تاريخ الرسل والملوك». وكان مفسرو القرآن الكريم يجتهدون في شرح قصص التاريخ، وفي كثير من الأحيان يلجأون إلى تفاسير الكتب المقدسة (الإسرائيليات). إلا أنّ الخلل في رواية الواقدي يقع في مواقع عدة: اسم امرأة فرعون، فآسية اسم مشهور عند كثير من شعوب العالم، ولكن «مُزاحم» اسم عربي، ولم تكن امرأة فرعون من أصل عربي. أما سياق السجع في «تمر وجمر» أو «تمرة وجمرة»، فيشوبه الشك الكبير. ثم كيف يأخذ موسى الطفل تلك الجمرة ويضعها في فمه دون أن تحترق يداه؟! وليعلم القارئ أنّ جميع الأنبياء، وخاصة الرسل منهم، لم يكونوا أبداً من ذوي العاهات أو النقص الخَلقي أو العقلي أو النفسي، وإلا لما أدوا الأمانة والرسالة. إنما كان غياب سيدنا موسى عليه السلام عشرة أعوام في مدين جعله يتكلم لغة أخرى على مدى تلك السنين، وفي وضعه ذاك، كان عليه السلام كما المغتربين اليوم في الدول الأجنبية، يخلط في كلامه بين مفردات اللغتين. هذا بالإضافة إلى تغير بعض مفردات اللغة في مصر في ذلك الزمن، لذا طلب موسى عليه السلام من الله عز وجل أن يندب أخاه هارون عليه السلام في الحديث عنه، لكون هذا الأخير قد زامن جميع التغيرات في مصر. والجدير بالذكر أنّ كلمة «فرعون» ليست اسماً بل صفة، وأصلها المصري القديم (بِر-عا) صارت بالعبرية إلى (فرعو)، وتعني «الملك صاحب القصر». وفرعون موسى ثلاثة: فرعون الحالم بزوال ملكه، وهو مَن قتل أطفال بني إسرائيل، وربّت زوجته الطفل موسى، أما الثاني فهو الحاكم الذي طرد موسى عليه السلام ونفاه خارج البلاد عقاباً له على قتله أحد جنود السلطة، أما الثالث فهو الذي طغى وحق عليه العذاب من الله، وهو الذي دعا موسى عليه السلام للرجوع إلى مصر، وهو الذي رأى معجزات الرسول بعينه فكفر.

استراحة في صحبة الكتاب
قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
أنا مَن بدّل بالكُتْبِ الصحابا
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
صحبةٌ لم أَشْكُ منها ريبةً
ووداد لم يكلفني عتابا
إن يجدني يتحدث أو يجد
مللا يطوي الأحاديث اقتضابا
صالح الأخوان يبغيك التُقى
ورشيد الكتب يبغيك الصوابا
واطلب الخُلْدَ ورُمهُ مَنزلا
تجد الخلد من التاريخ بابا
عاش خَلْقٌ ومضوا ما نقضوا
رُقْعَةَ الأرضِ ولا زادوا الترابا
أخَذَ التاريخُ مما تَركوا
عَملا أحسنَ أو قولا صوابا
مَثَلُ القوم نَسَوْا تاريخهم
كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا
أو كمغلوبٍ على ذاكرةٍ
يشتكي من صلة الماضي انقضابا
قراءة الكتاب مثلُ الطعام، يعجبك شكله ثم تشتهيه فتتذوقه وتأكله، وعندما تشبع، ينتابك شعور باللذة والسعادة، أو التلبك وعُسْر الهضم، أو ربما تصاب بالتسمم! وهذا الكتاب لابدّ أن يعدّه «طباخ» متخصص ومحترف، ويضع الطعام بعناية في آنيةٍ «نظيفة» شكلاً ومضموناً، يتقدمه «مقبلات» تساعد على استيعاب القادم، ويلحقه «مهضمات» تساعد على امتصاص فوائد ذلك الطعام. هناك وجبات سريعة، وهناك وجبات دسمة، وهناك ما هو بين البينين، ولكن! كيف لك أن تختار ما يناسبك؟ اسأل طبيبك. ومثل ذلك القراءة والتعلم. وفي الكتاب لابدّ لك أن تسأل أستاذاً أو متخصصاً، ليرفع عن طبق قراءتك مواقع التسمم الفكري و«تخمة» اللغو والعبث والشطط والزلل. من السهل قراءة قصة أو رواية أو ديوان شعر، ولكن في التربية والتعليم لابدّ من منهج للقراءة، لا يتسنى للمرء الانتفاع به من غير خبير متخصص أو أستاذ مُرْشد. ويجرنا الحديث إلى معارض الكتب في العالم العربي، وأشبهها بموائد الأفراح ذات الأطعمة متعددة الألوان والأشكال، التي يقف المرء أمامها لا يدري ماذا يختار! وفي الغالب يختار ويضع في طبقه ما لا يحتاجه فلا يأكله! نأمل أن تكون على هامش فعاليات تلك المعارض ندوات خاصة بالإرشاد عن أهم الكتب فيها وأنفعها للناس، بأن يُقدّم لتلك الكتب نبذ من متخصصين أو مؤلفين في المجال نفسه، وهذا أفضل من كثير من «تخمة» اللغو الذي انتشر في معارض الكتب العربية.