الجفوة معرفة

الجفوة معرفة

لصلاح عبدالصبور سطر جميل ودال في شعره يقول: «أجافيكم لأعرفكم»، ودلالة هذا السطر تؤكد أنك لكي تعرف شيئاً أو موضوعاً أو ناساً فلابد أن تتباعد عنهم بعض الشيء لكي تراهم جملة، فتعرف كل التفاصيل التي كانت تغيب عنك، وأنت مستغرق في تشابكات الحياة التي تربطك وإياهم. وقد عبر أرسطو عن هذا الجانب على نحو مختلف في ما أطلق عليه النقاد المسافة الجمالية أو البعد الجمالي. وكان يرمي إلى أنك إذا اقتربت من موضوع للإدراك اقتراباً حميماً جداً فلن يتاح لك إدراكه كلياً في تفاصيله، وإذا ابتعدت عن موضوع الإدراك ابتعاداً كثيراً فإنك لن تراه بوضوح، ومن ثم لن تدركه إدراكاً جمالياً أو غير جمالي. 

لهذا فلابد من وقفة تباعد بينك وبين الموضوع المُدرَك، فلا تكون بالغ البعد عنه ولا بالغ القرب، الأمر الذي يتيح لك أن تراه في إجماله وتفاصيله على السواء. ولكن هذا التفسير الذي قصد إليه النقاد عندما تحدثوا عن البعد الجمالي يبعدنا هوناً عن دلالة بيت صلاح عبدالصبور التي تردنا إلى شبيه له في الشعر القديم، خصوصاً في بيت أبي تمام:
سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وموضع الاستشهاد الذي أرمي إليه يكمن في الشطر الأول، حيث البعد يعني القرب وهو المعنى نفسه الذي قصد إليه صلاح عبدالصبور بأن الجفوة تعني المعرفة، وأنا أستخدم هذه العبارات شبه الصوفية لكي أؤكد أن وجود الإنسان في وطنه وفي بلده دون أن يرحل عنه لن يتيح له أن يعرف قيمة هذا الوطن أولاً، ولن يساعده على أن يدرك هذا الوطن إدراكاً جمالياً، ولذلك فإن البعد عن الوطن مفيد كل الإفادة، ولا أظن أن الشاعر الكبير أحمد شوقي قد أدرك قيمة مصر وجمالها إلا بعد أن نفاه عنها الإنجليز في أثناء الحرب العالمية الأولى سنة 1914، بعد أن أزاحوا صديقه الخديوي عباس حلمي الثاني عن حكم مصر، ونفوه إلى الآستانة بينما نفوه هو إلى إسبانيا. وفي إسبانيا التي قضى فيها أحمد شوقي وأسرته سنوات لم يكن يتطلع فيها إلى شيء قدر تطلعه إلى العودة إلى وطنه مصر. وأظن أن قصائده في المنفى الإسباني هي من عيون شعره. وما أكثر حبي لقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
اختلاف الليل والنهار ينسي 
اذكرا لي الصبا، وأيام أنسي
وهي قصيدة بالغة العذوبة يتحدث فيها عن الأندلس وحضارتها التي ضاعت، وعن مصر التي رحل عنها مجبراً، والتي لم تفارقه لحظة فظل في منفاه يتشوق إليها قائلاً:
كل دار أحق بالأهل إلا   
في خــبيث من المذاهب رجس
نفسي مرجل، وقلبي شراع  
بهما في الدموع سيري وأرسي
***
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسي
هذه الأبيات الجميلة التي تتضمن البيت الشهير الذي صاغه شوقي صياغة الحكمة الشعرية، والذي يقول فيه:
وطني لو شغلت بالخلد عنه 
نازعتني إليه في الخلد نفسي
 ومن المؤكد أن هذا البيت الرائع تحول إلى ترنيمة يهتف بها قلب كل من فارق وطنه في غربته متشوقاً إلى وطنه من ناحية، ومتذكراً تفاصيل لم يكن يتذكرها أو يقف عندها وهو في الوطن من ناحية أخرى، ومدركاً أبعاداً ودلالات ينطوي عليها المكان الذي ولد فيه ونشأ وكبر بين ربوعه، وذلك على نحو غير معهود، وعلى نحو يدرك فيه المغترب عن وطنه أو المنفي عنه ما لم يكن يدركه من قيمة هذا الوطن أو معانيه أو علاماته. 
ولا شك في أن حديث أحمد شوقي عن أماكن من وطنه في هذه القصيدة إنما هو حديث ينطوي على نوع من الإدراك الجمالي الذي لم يعرفه أحمد شوقي بالتأكيد إلا بعد أن صار بعيداً عن وطنه، وقس على أحمد شوقي أستاذه البارودي الذي نُفي إلى جزيرة «سرنديب» بعد فشل الثورة العرابية، فعاش في هذه الجزيرة النائية سنوات طويلة يتذكر فيها مصر وبناته وحياته وجولاته في الأماكن التي تحيط ببيته في جزيرة الروضة، وذلك على نحو لم يكن البارودي يدرك جماله ولا حقيقته عندما كان يحيا في جزيرة الروضة وينشغل عن تأمل جمالها بمشاغل السياسة التي انتهت به إلى البعد عن وطنه.
هذا الإحساس لا يعانيه المنفي فحسب، وإنما يعانيه كل من يترك وطنه مختاراً أو مجبراً؛ فالوطن لا تتكشف محاسنه حقيقة إلا وهو في البعد، أو على البعد، والأحبة لا يعرف الإنسان قدرهم وعمق محبته لهم إلا إذا غادرهم وبَعُد عنهم، ولذلك فالجفوة في هذا السياق معرفة، والبعد قرب، والنأي اكتشاف لما كان يمكن أن يكتشفه المرء وهو يتحرك أو يتنقل كعادته في وطنه. أما عن تجربتي الشخصية، فأنا لم أشعر بمحبتي إلى مصر وشوقي إليها إلا بعد أن اضطررت إلى السفر بعيداً عنها اختياراً أو بغير اختيار. حتى العلاقات بين الأصدقاء وأماكن العمل لا تتجلى على هذا النحو من الوضوح إلا في حالات البعد. وأظن أنه حتى قيمة العلم الذي حصّله الإنسان في وطنه لا تظهر إلا عندما ينتقل الإنسان إلى بلد آخر، ويعرف أنماطاً من العلم المغاير. وأعتقد أنني أدين بالعرفان لكل السفريات التي اغتربت بي عن مصر وتباعدت بي عنها على امتداد حياتي. 

رحلتي الأولى
وقد كانت السفرة الأولى الطويلة عام 1977، وكنت فتى غض الإهاب في مطلع الثلاثينيات من العمر؛ حيث أتيح لي أن أعمل أستاذاً زائراً في جامعة وسكنسن بولاية ماديسون في الولايات المتحدة، وهي جامعة تقع في الوسط الغربي من أمريكا. وفي هذه الجامعة كانت حياتي اليومية منقسمة إلى قسمين غير متساويين، قسم أقوم فيه بتدريس اللغة العربية لطلاب أمريكان لا يعرفونها، أو تدريس بعض الروايات المترجمة لمن يريد أن يقرأ في الأدب العربي مترجماً، أما القسم الثاني الأكبر فكان هو القسم الذي أتحول فيه من أستاذ إلى تلميذ ومن مرسل إلى متلقٍ.
وما أجمل الذكريات التي ترتبط بهذا الجانب، فقد تصادف أن عام 1977 هو عام تحول في الدراسات النقدية والأدبية في الولايات المتحدة. أعني أن شمس المدارس النقدية القديمة كانت قد غربت، وبزغت شمس مذاهب نقدية جديدة أهمها البنيوية والتفكيكية وخطاب ما بعد الاستعمار. 
وكانت مكتبة الجامعة وغيرها من المكتبات مفتوحة لي أنهل منها بلا عائق أو حائل، فلا معرفة مقموعة أو محجوزة أو مؤجلة. وعندما أتذكر الأشهر التي أمضيتها في حضن جامعة وسكنسن ماديسون أشعر بالدهشة والفرح لهذه القدرات التي انفجرت وفرضت نفسها على هذا الشاب الذي كنته، فكان يصل الليل بالنهار قارئاً للكتب أو مستمعاً للموسيقى أو مشاهداً للمسرح، أو جالساً في محاضرات لمذاهب النقد الجديد كي يدرسها ويفهمها دراسة تلميذ مجتهد مزود بعقل باحث ناقد يزن كل شيء بميزان العقل، منطوياً على نزعة مساءلة لم يتخل عنها بعد ذلك في حياته العلمية. وقد استمتعت بمناهج العلوم الجديدة التي اطلعت عليها ولم أتوقف عن الإفادة منها علمياً ونفسياً وإنسانياً.
 وأذكر أنني قبل أن أقضي سنة كاملة في الولايات المتحدة سنة 1977، كنت أنطوي على نوع من التحيز العرقي الذي أورثتني إياه الثقافة الرسمية والشعبية التي نشأت عليها وتربيت فيها. فكنت أشعر بنوع من الشك ينتابني في ما هو أسود البشرة، وكان الشك يمتزج بشيء من الخوف والريبة، ولكني خلال هذا العام الذي قضيته في ولاية ماديسون تخليت تدريجياً عن كل ما ورثته من تحيز عرقي إزاء اللون الأسود أو من حذر إزاء اللون الأصفر، فما أكثر السود الأمريكيين الذين قابلتهم في الولايات المتحدة والذين أصبحوا زملاء لي وإخوة لا أفارقهم على مدى أيام السنة الجميلة التي عشتها في جامعة وسكنسن. ومن حسن الحظ أن اللغة العربية وآدابها التي ذهبت لتدريسها كانت قد انتقلت من قسم الدراسات السامية الذي كان يسيطر عليه أساتذة من اليهود المتعصبين لم يستريحوا إلا بعد أن طردوا اللغة العربية من قسم الدراسات السامية، فلم تجد اللغة العربية ملجأ إلا في قسم الدراسات الإفريقية الذي استضاف اللغة العربية بوصفها لغة من اللغات الإفريقية. وهكذا أصبحت من الشهر الأول في جامعة وسكنسن مدركاً فضل الأساتذة السود في قسم الدراسات الإفريقية على اللغة العربية، وكيف أنهم قاتلوا من أجل إبقائها في الجامعة واستضافتها في قسمهم.

درس احترام الاختلاف
ولا أزال أذكر بالعرفان رئيس قسم الدراسات واللغات الإفريقية، وكان شاعراً يكتب قصائد عن عوالم الأفروأمريكيين الذين كانوا لايزالون يعانون بعض أشكال التمييز العنصري، وذلك على الرغم من القوانين التي عمل الرئيس جون كنيدي على إصدارها وإقناع الحكومة والبرلمان الأمريكي بها. لهذا اختفت التفرقة العنصرية في أمريكا التي لم تكن تخلو من بعض آثارها عام 1977 عندما ذهبت إلى جامعة وسكنسن، ولكن من ناحية أخرى كانت الجامعة تطبق هذا الذي كانوا يسمونه تمييزاً إيجابياً Positive discriminationوهو قانون يفرض على الجامعة أن تتكفل بقبول نسبة بعينها من الطلاب السود إلى جانب الطلاب البيض، وأن تعيِّن عدداً من الأساتذة السود إلى جانب الأساتذة البيض. والحق أن هذا القانون أسهم إسهاماً بالغ الإيجابية في القضاء على التمييز العنصري بين البيض والسود في مناحي الحياة المختلفة. وبالطبع كان الطلاب الأفروأمريكيون هم الأغلب في قسم الدراسات واللغات الإفريقية. ولذلك كان طلابي في هذا القسم مزيجاً متجانساً من الطلاب البيض والسود، على أني أذكر أن بقايا التمييز العنصري كانت لاتزال موجودة، فلم أكن ألمح علاقات حميمة بين البيض والسود أو ما نسميه شللاً من الأصدقاء والصديقات. حقاً كان البيض متصالحين مع السود، ولكن ليس إلى درجة الصداقة الحميمة أو المساواة الكاملة، ولكن هذا الوضع لم يكن مفروضاً عليّ فقد كنت حراً في صداقاتي التي جمعت بين السود والبيض.
 ومن المؤكد أن صداقاتي مع تلامذتي والأساتذة السود هي التي أطلعتني على جانب لم أكن أعرفه من قبل عن الثقافة السوداء في الولايات المتحدة، وهي ثقافة تظهر في السينما والمسرح وفي الأعمال الإبداعية شعراً ونثراً. ولذلك أصبحت من المتابعين لمجلة «العاج الأسود»، وهي مجلة اجتماعية ثقافية كانت نافذتي الأولى إلى الحياة الاجتماعية الثقافية للسود. ولا أنسى جولاتي مع أصدقائي في مدينة ماديسون التي كانت تقع على بعد ساعات قليلة من مدينة شيكاغو التي كنا نذهب إليها كل أسبوع أو أسبوعين لنسمع موسيقى البلوز والجاز ونختتم جولتنا بأكلة الريبز Ribs الشهيرة في أحياء السود، وهي أكلة تتكون من أضلع مشوية ومنقوعة في صلصة حارة إلى حد كبير لا يمكن أن تحتملها سوى المعدة القوية التي كنا مزودين بها في أيام الشباب. وأذكر أنني حين عدت إلى مصر عام 1978 كنت سعيداً بكل ما تعلمته في وسكنسن، وقد ظهر ذلك في كتاباتي التي بدأت تلفت الأنظار إليها، وفي التقدير الذي بدأت أناله من جامعتي ومن الأوساط الثقافية المصرية وغير المصرية. وكان هذا بفضل ما تعلمته في جامعة وسكنسن التي كنت فيها معلماً ومتعلماً ومدرساً ودارساً في آن.

أجافيكم لأعرفكم
والمؤكد أن ما قاله صلاح عبدالصبور في سطره: «أجافيكم لأعرفكم»، قد أدركت معناه كل الإدراك بعد عودتي من سفرتي، فقد تغيرت نظرتي إلى الدراسات الأدبية التي وجدت عليها الجامعة، وهو الأمر الذي دفعني إلى الاصطدام بالدراسات التقليدية ومناصرة الاتجاهات الجديدة في النقد الأدبي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها على وجه الحقيقة وبالتأكيد معنى أن الجفوة تؤدي إلى المعرفة، وأن بُعد الدار قد يؤدي إلى القرب المعرفي. ولكن لم تكن سفرتي إلى جامعة وسكنسن هي السفرة الوحيدة للولايات المتحدة، فقد جاءت بعدها بسنوات قليلة تقلبات سياسية ارتبطت بمعاهدة الصلح مع إسرائيل، وهو الأمر الذي كنت رافضاً له في وقته ومعارضاً له. وكانت النتيجة أن أطاح بي السادات من منصبي بالجامعة المصرية، وكان لابد أن أجرب البعد عن مصر مرة أخرى لكي أعرفها من جديد. ومن دون أن أدري وجدت نفسي في عاصمة السويد أعمل ما بين جامعة استكهولم وجامعة أوبسالا. وفي السويد عرفت الأحاسيس التي يمر بها من ينفى عن وطنه، ولم أكن منفياً بالمعنى الدقيق، ولكني كنت في نوع من الاغتراب القسري الذي هو أقرب إلى المنفى. ورغم البرد القارس للسويد، ورغم الثلج الذي كنت أتعثر في طياته، ورغم الظلمة التي كانت تحيط بالمدينة الجامعية التي أسكن فيها، حيث كنت لا أرى ضوء الشمس إلا نادراً وعلى استحياء، ورغم ذلك كله فقد أحببت حياتي في السويد حباً لن أنساه. وأظن أن العام الذي قضيته فيها مرغماً هو من أجمل أيام حياتي، لما لقيته فيه من تكريم ولما حصلت عليه من معرفة بما لم أكن أعرف وبما اتصلت به من جوانب ثقافية لم أكن على صلة بها. أما أصدقائي هناك فلن أنسى ذكرياتي معهم أبداً؛ فأهل السويد الذين عرفتهم طيبون وودودون ومخلصون إلى أبعد حد، والصداقة معهم سهلة، وأفضل ما فيها أنها تظل باقية. وقد أتاحت لي إقامتي في السويد أن أعرف عن مؤسسة نوبل وعن جائزتها وعن الأكاديمية الملكية التي تشرف على اختيار المرشحين لجوائزها العديدة التي تقدمها هذه الأكاديمية في كل عام. وأذكر أنني أسهمت في ترشيح الكاتب العربي يوسف إدريس بصفتي أستاذاً في مجلس قسم الدراسات العربية في جامعة استكهولم، وكان يترأسه أستاذ مصري هو عطية عامر، الذي كان بمنزلة الأخ الأكبر والصديق العزيز الذي لا أظن أنني سوف أستطيع أن أوفيه حقه من العرفان لكل ما فعله لي طوال إقامتي في السويد. 

تلامذتي في الكويت
ولكني وجدت نفسي مجبراً على العودة إلى القاهرة، وكان ذلك في عهد الرئيس الأسبق مبارك، ولكني لم أقض وقتاً طويلاً في القاهرة، فسرعان ما تركتها وذهبت إلى الكويت معاراً، حيث قضيت فيها خمسة أعوام كاملة كانت هي أيضاً من أجمل أعوام العمر. ولن أتحدث عن حفاوة الكويتيين وكرم أخلاقهم، ولكني أكتفي بذكر أن عدداً من تلامذتي قد أصبحوا أساتذة في الجامعة الكويتية، وكم أنا فخور وفرح بهم ومتتبع لأخبارهم، شاعراً بالفرحة والفخر لأنني تركت بذرة خصبة العطاء في جامعة الكويت التي أحببتها كل الحب، وأحببت سنوات إقامتي الخمس فيها. وكما كان يحدث معي في كل سفرة، كنت أكتسب من المعارف الكثير وأتقصى أحوال وطني وأعرف عنه ما لم أكن أعرف إلى أن أعود إليه بنظرة جديدة. ولقد عدت من الكويت إلى القاهرة عام 1988 سعيداً بكل ما عرفته فيها. ولن أنسى أنني عرفت أهم أساتذة الوطن العربي في جامعة الكويت التي كانت حريصة في سنواتها الأولى على أن تجمع في كلياتها أهم أساتذة الوطن العربي في كل التخصصات، وكنت أرى في الجامعة وجهاً آخر لجامعة الدول العربية بتعدد جنسيات الأساتذة من الزملاء الذين لاأزال على علاقة بهم، أمد الله في أعمار الأحياء منهم، ورحم الله من رحل منهم. ولم تستقر حياتي في القاهرة، إذ يبدو أن حبي للسفر، خصوصاً في طلب العلم، لم يكن ليتوقف، ولهذا قبلت دعوة أن أعمل أستاذاً زائراً في جامعة هارﭬارد عام 1995، وقد كنت سعيدا بهذه الدعوة، فقد كنت، ولاأزال، أعرف أن جامعة هارﭬارد من أهم وأعرق الجامعات في العالم، ولهذا قبلت الدعوة بمجرد تلقيها وسافرت إلى هناك لفصل دراسي فقط، ولكنه كان فصلاً دراسياً عامراً بالمعرفة، فقد أفدت من مكتبة هارﭬـارد، وأظنها أعظم مكتبة في العالم، ونهلت من صافي علمها ومعارفها. ومن المؤكد أنها أتاحت لي الفرصة في أن أتابع باهتمام ما استجد في تيارات النقد الأدبي، خصوصاً ما يطلق عليه تيارات ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة أو ما بعد البعد؛ ابتداء من خطاب نقد الاستعمار ونظريات الخطاب وانتهاء بما بعد الحداثة. وقد كنت سعيداً في الزيارة الأولى لـ«هارﭬـارد»، بأن أعرف كتب إدوارد سعيد وأن أتابعها كما أتابع إيهاب حسن الذي اكتشفت أنه علَم بارز من أهم أعلام ما بعد الحداثة، وأن له كتابات غاية في الأهمية في تأسيس وتأصيل النقد ما بعد الحداثي. وقد حاولت مقابلته ولكن لم تسنح لي الفرصة فعدت إلى القاهرة وأنا أكتفي بمتابعة أعماله حاملاً معي كتبه وسيرته الذاتية التي لا تخلو من نبرة عدائية للأوضاع التي ترك مصر عليها عندما اضطر إلى مغادرتها في العهد الناصري.
 ولم أخرج من مصر بعد زيارتي الثانية إلى هارڤارد التي لاأزال أفخر بأنني ذهبت إليها وقمت بالتدريس فيها وتعرفت إلى عدد من أعلامها، وكم كنت فخوراً وفرحاً ولاأزال عندما أسمع عن جوائز نوبل العديدة التي تذهب إلى أساتذتها، خصوصاً في مجالات العلوم والطب. ومن الطريف أن جامعة هارﭬـارد تنافس في مجال الحصول على جائزة نوبل الجامعة الأخرى التي تجاورها في المكان في مدينة كمبريدج، والتي تضم أهم جامعتين أمريكيتين، وهما جامعتا هارﭬـارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أو ما يرمز إليه بالأحرف الإنجليزية M.I.T، ولاأزال أذكر فرحتي عندما عرفت في زيارتي الأولى لجامعة هارﭬـارد أن ياكوبسون أهم عالم لغة في القرن العشرين بعد دي سوسير، كان يعمل في M.I.T، وقد ذهبت إلى هناك لكي أرى مكتبه، فقد رحل عن الحياة سنة 1982، أي قبل أن أذهب إلى هارڤارد بوقت قليل.
ومن المؤكد أن كل هذه السفرات قد ملأتني بالمعرفة كما ملأتني بالذكريات التي أقتات عليها، والتي أضبط نفسي وحيداً وسعيداً معها. ولا أظنني أبالغ لو قلت إنها أجمل سنوات العمر وأحبها إلى نفسي، ربما لأنها سنوات التكوين المعرفي والمادي على السواء، فقد أتيحت لي من فرص المعرفة ما أحمد الله عليه وما أعتز به أكثر من اعتزازي بالمناصب التي وصلت إليها. ولاأزال إلى الآن أردد بيني وبين نفسي سطر صلاح عبدالصبور «أجافيكم لأعرفكم»، ولكن يبدو أن ما بعد السبعين من سنوات العمر لا تشجع على السفر بقدر ما تشجع على استرجاع ذكرياتي الجميلة للأسفار .