«العُمَريَّة» رائعة شاعر النيل حافظ إبراهيم

«العُمَريَّة» رائعة شاعر النيل حافظ إبراهيم

ثلاثة ألقاب حظي بها ثلاثة من كبار شعراء العصر الحديث في مصر: أمير الشعراء لشوقي، وشاعر النيل لحافظ إبراهيم، وشاعر القطرين لخليل مطران. وبالرغم من عظمة هذه الألقاب فإنها لم تكسب حامليها من المجد الشعري شيئاً يفوق إنجاز كل منهم في مجال الإبداع. فهم كبارٌ بالفعل، بعيداً عن ألقابهم، وقبلها وبعدها، وهم رموز هذا الشعر في زمانهم إبداعاً وتأثيراً وذيوعَ صيت، الأمر الذي ربط الثلاثة بنسيج الخلود ودوران الذكر، وانعطاف الأجيال التالية لهم بحثاً عن أسباب العبقرية وشموخ القامة.

عندما نتوقف عند شاعر النيل حافظ إبراهيم، نجده دائماً - في مجال الموازنة - مقروناً بشوقي، أيُّهما أشعر وأيهما السابق في الرهان، ونجد كثيراً من الذين اهتموا بشعر حافظ، حريصين على أن يروه في مرآة شوقي، فوقع كثير من الظلم على حافظ وشعره، ولم ينصفه إلا عميد الأدب العربي د. طه حسين في كتابه «حافظ وشوقي» حين قال: «لا أستطيع أن أقول إن أحد الشاعرين خير من صاحبه على الإطلاق، ولكن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء، ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نَفَس الشعب وآلامه وآماله، ولم يُتقن ما أتقن حافظ من إحساس الألم وتصوير هذا الإحساس، وشكوى الزمان».
ثم يقول: «لم يبلغ شوقي من هذا ما بلغ حافظ، وهو بعد هذا أخصب من حافظ طبيعة وأغنى منه مادة وأنفذ منه بصيرة، وأسبق منه إلى المعاني، وأبرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين، لأن حافظاً كان يقلد الألفاظ والصور، وكان شوقي يقلد فيهما، وفي المعاني أيضاً، ولشوقي فنون لم يُحسنها حافظ، وما كان يستطيع أن يُحسنها. شوقي شاعر الغناء غير مدافع، وشوقي شاعر الوصف غير مدافع، وشوقي منشئ الشعر التمثيلي فى اللغة العربية.
يلتقي الرجلان في كثير، ويفترق الرجلان في كثير، ولكنهما على كل حال أعظم المحدثين حظّاً في إقامة مجدنا الحديث».
يضاف إلى هذه الشهادة من عميد الأدب العربي، شهادة د. محمد حسين هيكل - الذي كتب مقدمة ديوان الشوقيات - حين سُئل عن رأيه في الشاعرين وكيف أنه من دلائل عظمة حافظ ومكانته الشعرية أنه استطاع أن يوجد له اسماً ومكاناً إلى جوار شوقي، فكانت إجابته لسائله: «ولم لا تقول إن من دلائل عظمة شوقي أنه استطاع أن يوجد له مكاناً واسماً إلى جوار حافظ، فقد كان الوقت وقت حافظ، والعصر عصر حافظ، والمجال مجال حافظ».
وبعيداً عن هاتين الشهادتين، في السباق بين شوقي وحافظ، وحق كل منهما بالسبق والتفوق في أمور وجوانب من الإبداع الشعري، ففي هذا المقال عرض للوحة شعرية فاتنة، طالت فأشبهت الملحمة، وتعددت جوانبها فأشبهت السيرة الشعرية، والتزمت البحر الشعري الواحد والقافية الواحدة، دلالة على تمكن شاعرها وافتنانه في إبداعه، تلك هي «العمرية» التي صاغها شاعر النيل عن مناقب الفاروق عمر بن الخطاب، وهو الاسم الذي سماه به الرسول الكريم  لأنه فرّق بين الحق والباطل، ولأن دخوله في الإسلام كان فاتحة خير على المسلمين، ويوماً فارقاً في معاناتهم بمكة قبل الهجرة، وشموخ موقفهم بإسلام عمر بعد ست سنوات من البعثة.
ويبدو لي أن حافظ إبراهيم في توقفه عند شخصية الفاروق عمر كان يريد أن يطلق صيحة خاصة بالعدل والزهد والتواضع، وهي السمات الثلاث التي اتصف بها عمر، وأن يقيم للناس تمثالاً حيّاً ورمزاً شامخاً - شموخ الإسلام نفسه- يرون فيه من جديد أمجاد عصر وصانع دولة وتاريخ وناشر الدعوة الإسلامية في كثير من ربوع العالم.
والطريف أن حافظ إبراهيم أنشد قصيدته «العمرية» في الحفل الذي أقيم لسماعها بمدرج وزارة المعارف في درب الجماميز بالقاهرة مساء الجمعة الموافق الثامن من فبراير سنة 1918. وقد استهلّها بأبيات يعتذر فيها عن قصوره في تصوير شخصية بحجم الفاروق وعظمته، وعجزه عن أن يوفيها حقها من الإكبار والتقدير والكشف عن جوانب تفردها وعبقريتها، يقول فيها:
حَسْبُ القوافي، وحسْبي حين أُلقيها
أنّي إلى ساحة الفاروق أُهديها
لاهُمَّ، هب لي بياناً أستعين به
على قضاء حقوقٍ نام قاضيها
قد نازعتنيَ نفسي أن أُوفّيها
وليس في طوق مثلي أن يُوفّيها
 فمُرْ سريَّ المعاني أن يواتيني
فيها، فإني ضعيف الحال واهيها
وفي هذه الأبيات الأربعة يُطلعنا حافظ إبراهيم على سرّ هذه القصيدة/الملحمة والغرض من إبداعها، إنه قضاء الحقوق، والوفاء بها، لواحد من بناة الدولة الإسلامية العظام، وواضعي أسسها الراسخة في عصرها الأول، عصر الخلفاء الرشدين. وهو يستهل قصيدته بالحديث عن مقتل عمر، ثم يعود بنا إلى الوراء كما يفعل كُتّاب السيناريو، فنستعيد حادثة إسلامه، وبيعة أبي بكر له من بعده، ومواقفه مع علي بن أبي طالب وجبلة بن الأيهم وأبي سفيان وعمرو بن العاص وولده عبدالله بن عمر، ونصر بن حجاج، ووقفته مع رسول كسرى ومع الشورى. ثم اختيار الشاعر  البصير - صاحب النظرة الثاقبة الصائبة في عمر وسيرته - لأمثلة من زهوه ورحمته وتقشفه وورعه وهيبته ورجوعه إلى الحق، مسلِّطاً عليها أنوار شاعريته، كاشفاً عن مواطن العظمة والعزة والتفرد فيها وهو يجلوها في صورة شعرية زاهية، تتميز بأسلوب حافظ السهل الطيِّع، ولغته الباذخة الرفيعة، وقدرته على استدعاء المأثور مما استكنّ في الذاكرة، وكان أقرب إلى نفْس الشاعر وشاعريته في آن.
يقول في واقعة إسلام عمر:
رأيت في الدين آراءً مُوفَّقةً
فأنزل الله قُرآناً يُزكّيها
وكنت أولَ من قرَّت بصحبته
عين الحنيفة واجتازت أمانيها
قد كنت أعدى أعاديها فصرْتَ لها
بنعمة الله حصناً من أعاديها
خرجت تبغي أذاها في «مُحمّدها»
وللحنيفة جبّارٌ يواليها
فلم تكد تسمع الآيات بالغةً
حتى انكفأْتَ تُناوي من يُناويها
سمعْتَ سورة «طه» من مُرتّلها
فزلزلتْ نيَّةً قد كنت تنويها
وقلت فيها مقالاً لا يُطاولهُ
قول المحبّ الذي قد بات يُطريها
ويوم أسلمْتَ عزّ الحقَّ، وارتفعتْ
عن كاهل الدين أثقالٌ يُعانيها
وصاح فيه «بلال» صيحةً خشعتْ
لها القلوب، ولبّتْ أمر باريها
فأنت في زمن «المختار» مُنجدها
وأنت في زمن «الصّدّيقُ» مُنجيها
كم استراك رسول الله مغتبطاً(1)
بحكمةٍ لك عند الرأي يُلْفيها
ويصور موقف عمر في بيعة أبي بكر، وحسمه للخلاف في يوم السقيفة، ومناصرته لأبي بكر طوال مدة خلافته قائلاً:
وموقفٍ لك بعد «المصطفى» افترقتْ
فيه الصحابةُ لـمّا غاب هاديها
بايعْت فيه أبا بكر فبايعهُ
على الخلافة قاصيها ودانيها
وأُطفئت فتنة لولاك لاستعرتْ
بين القبائل وانسابت أفاعيها
بات النبيُّ مُسجًّى في حظيرته
وأنت مستعرُ الأحشاءِ داميها
تهيمُ بين عجيج الناس في دهشٍ
من نبأةٍ قد سرى في الأرض ساريها
تصيح: من قال نفسُ المصطفى قُبضت
علوْتُ هامتهُ بالسيف أَبريها
أنساك حبُّكَ «طه» أنه بشرٌ
يُجري عليه شؤون الكون مُجريها
وأنه واردٌ لا بُدَّ موردهُ
من المنية لا يعفيه ساقيها
نسيت في حق «طه» آية نزلت 
وقد يُذكّرُ بالآيات ناسيها
ذهِلْتَ يوماً فكانت فتنةٌ عممٌ
وثاب رُشدك فانجابت دياجيها
فللسقيفة يومٌ أنت صاحبه
فيه الخلافة قد شيدت أَواسيها
مدّت لها «الأوس» كفّاً كي تناولها
فمدّت «الخزرجُ» الأيدي تُباريها
وظنّ كلُّ فريقٍ أن صاحبهم
أولى بها، وأتى الشّحناء آتيها(2)
حتى انبريْتَ لهم فارتدّ طامعهم
عنها، وآخى أبوبكرٍ أواخيها(3)
وعن موقف عمر مع ولده عبدالله وقد رأى اتساع ثروته وانتشار نياقه وما بدا عليها من آثار النعمة يقول حافظ إبراهيم:
وما وقى ابنُك عبدُاللهِ أيْنُقَهُ
لما اطّلعت عليها في مراعيها
رأيتها في حماهُ وهي سارحةٌ
مثل القصور قد اهتزت أعاليها
فقلت: ما كان عبدُالله يُشبعها
لو لم يكن ولدي أو كان يُرويها
قد استعان بجاهي في تجارته
وبات باسْم «أبي حفصٍ» يُنمّيها(4)
ردوا النياق لبيت المال إنّ له
حقّ الزيادة فيها قبل شاريها
وهذه خطة لله واضعُها 
ردّتْ حقوقاً فأغنتْ مُستميحيها(5)
ما «الاشتراكية» المنشود جانبُها
بين الورى غير مبنًى من مبانيها
فإن نكن نحن أهليها ومنْبتها
فإنهم عرفوها قبل أهليها(6)
ويروي من دونوا سيرة الفاروق عمر أن رسولاً لكسرى ملك الفرس وصل إلى المدينة يريد مقابلة الخليفة، فجعل يستهدي إلى قصره، فعلم أنه لا يسكن قصراً، وانتهى به الأمر إلى الوصول لبيت كبيوت أفقر العرب وأمامه كان الخليفة العظيم راقداً على الرمل، جاعلاً منه وسادة أسند إليها رأسه، ولم يكن حوله من مظاهر الحياة ما يميزه من أصغر فرد في رعيته، فلما رأى رسول كسرى ذلك دهش، ووقف أمامه خاشعاً وهو يقول عبارته المشهورة: «عدلت فأمنت فنمت يا عمر».
يقول حافظ إبراهيم في تصوير هذه الواقعة، وصياغة أحداثها على النهج الذي يبرز روعة الزهد والتقوى والورع في شخصية عمر:
وراع صاحب كسرى أن رأى عُمراً
بين الرعية عُطْلاً وهو راعيها
وعهدهُ بملوك الفرس أنّ لها
سوراً من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقاً في نومه، فرأى
فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى، تحت ظلّ الدّوْح، مُشتملاً
ببردةٍ كاد طول العهد يُبليها
فهان في عينه ما كان يُكبرهُ
من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حقٍّ أصبحت مثلاً
وأصبح الجيلُ بعد الجيل يرويها
أمِنْتَ لما أقمْتَ العدل بينهمو
فنمْتَ نوم قرير العين هانيها
وصولاً إلى «الشورى» بوصفها ملمحاً أساسيّاً في شخصية عمر وسيرته ومواقفه، يجلوها شاعر النيل في صياغة محكمة ولغة بديعة، وهو يقول:
يا رافعاً راية الشورى وحارسَها
جزاك ربُّك خَيراً عن مُحبّيها
لم يُلْهكَ النَّزْعُ عن تأييد دولتها
وللمنية آلامٌ تعانيها
لم أنْسَ أمرك للمقداد يحملهُ
إلى الجماعة إنذاراً وتنبيها
إن ظلّ بعد ثلاثٍ رأيُها شُعَباً(7)
فجرّد السيف، واضرب في هواديها(8)
فاعجب لقوة نفسٍ ليس يصرفها
طعمُ المنية مُرّاً عن مراميها
درى عميدُ بني الشورى بموضعها
فعاش ما عاش يبنيها ويُعْليها
وما استبدَّ برأيٍ في حكومته
إنّ الحكومة تُغري مستبدّيها
رأي الجماعة لا تشقى البلادُ به
رغم الخلاف، ورأي الفرد يُشقيها
ويشير حافظ إبراهيم في هذا المقطع من قصيدته «العمرية» إلى أن عمراً كان ممن يأخذون بالشورى في أمورهم، وكان يقول: لا خير في أمرٍ أُبرم من غير شورى. وهو أول من قرر قاعدة الشورى في انتخاب الخليفة، فقد سُئل عندما تقدم في السنّ عمن يوصي به بعده، فقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فأدخلوا عليّاً وعثــــمان والزبــــير وسعداً وعبدالرحمن بن عوف وطـــــلحة إن قدم، وأحضر عبدالله بن عمر - ولا شيء له من الأمر - وقم على رؤوسهم، فإن اجتمعوا خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاضــــرب رأســــه بالسيــــف، وإن اتفق أربعــــــة فــــرضــــوا رجـــــلاً منهم وأبى اثنـــــــان فاضرب رأسيـــهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً مـنـــهم، فحكِّموا عبدالله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله فكونوا مع الذين فيهم عــــبدالرحمن ابن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.
ومن مواقف سيرته وأحداثها المضيئة يتخير حافظ مثالاً من تقشفه وزهده يقول فيه:
إن جاع في شدةٍ قوم شرِكْتهمو
في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها(9)
جوع الخليفة - والدنيا بقبضته -
في الزهد، منزلة سُبحانَ مُوليها
فمن يباري أبا حفصٍ وسيرته
أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى، فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟
لا تمتطي شهوات النفس جامحةً
فكِسْرةُ الخبز عن حلواكِ تجزيها(10)
وهل يفي بيت مال المسلمين بما
توحي إليك إذا طاوْعتِ مُوحيها
قالت: لك الله إني لستُ أرزَؤُهُ(11)
مالاً، لحاجة نفسٍ كنت أبغيها
لكن أُجنّب شيئاً من وظيفتنا
في كلّ يومٍ على حالٍ أُسوّيها
حتى إذا ما ملكْنا ما يكافئها
شريتها، ثم إني لا أثُنّيها
قال: اذهبي واعلمي إن كنت جاهلةً
أنّ القناعة تُغني نفس كاسيها(12)
وأقبلت بعد خمسٍ وهي حاملةٌ
دريْهمات لتقضي من تشهّيها
فقال: نبَّهتِ مني غافلاً، فدعي
هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها
ويْلي على عُمرٍ يرضى بموفيةٍ
على الكفافِ، وينهى مُسْتزيديها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به
أَوْلى، فقومي لبيت المال رُدّيها
كذاك أخلاقه كانت، وما عُهدت
بعد النبوة أخلاقٌ تُحاكيها(13)
    ومن أطرف المقاطع والأجزاء في هذه القصيدة/الملحمة التي تتصدى لسيرة الفاروق عمر، وتنتقي من بين أحداثها ومواقفها ما يكون عبرةً وإضاءةً ورمزاً للآخرين، مثال من هيبة عمر، التي تجلّت في وجود الرسول الكريم ومعه رفيقهُ أبوبكر الصديق، حين سافر الرسول الكريم سفراً، فـــــنذرت جاريـــــة من قــــريش لئــــن رده الله تعــالى أن تضرب بالدف وتغني بين يديه. فلما عاد الرسول الكريم جاءت الجارية لتفي بنــــــــــــــــذرها، وضربت على الدف، وكان أبوبكر إلى جانب الرسول لا ينكران عليها ذلك، فلما طلع عليها عمر أسقط في يدها واضطربت، فروّح عنها الرسول الكريم، وقال مُتبسّماً: لقد فرّ شيطانها حين رأى عمر. يقول شاعر النيل:
في الجاهلية والإسلام هيْبتهُ
تثني الخطوبَ فلا تعدو عواديها
في طيّ شدّته أسرارُ مرحمةٍ
للعاملين، ولكن ليس يُفشيها
وبين جنبيْه في أوْفى صرامته
فؤادُ والدةٍ ترعى ذراريها
أغنتْ عن الصارم المصقول دِرّتهُ
فكم أخافت غويَّ النفس عاتيها
كانت له كعصا «موسى» لصاحبها
لا ينزلُ البُطْلُ مُجتازاً بواديها(14)
أخافَ حتى الذّراري في ملاعبها
وراع حتى الغواني في ملاهيها
أريْتَ تَلك التي لله قد نذَرتْ(15)
أنشودةً لرسول الله تُهديها
قالت: نذرتُ لئن عاد النبيُّ لنا
من غزوةٍ، لَعلَى دُفّي أغنيها
ويمَّمتُ حضْرةَ الهادي وقد ملأتْ
أنوارُ طلعته أرجاءَ ناديها
واستأذنت ومشت بالدفِّ، واندفعتْ
تُشجي بألحانها ما شاء مُشْجيها
والمصطفى وأبوبكر بجانبه
لا ينكرانِ عليها من أغانيها
حتى إذا لاح من بُعدِ لها عُمرٌ
خارت قُواها، وكاد الخوف يُرديها(16)
وخبّأتْ دُفَّها في ثوبها فَرقاً(17)
منه، وودت لو انّ الأرض تطــويــهــا
قد كان حلم رسول الله يُؤنسها
فجاء بطش أبي حفص يُخَشيها(18)
فقال مهبط وحي الله مبتسماً
وفي ابتسامته معنًى يُواسيها
قد فرَّ شيطانها لما رأى عُمراً
إن الشياطين تخشى بأسَ مُخْزيها
ولا يفوت حافظ إبراهيم أن يورد مثالاً من أمثلة رجوعه إلى الحقّ، واعترافه بالخطأ وارتكابه لذنبٍ من الذنوب، وهي سمة العادل حتى لو كان حكمه على نفسه، وهو مثل يضربه الشاعر - من سيرة عمر - للحكام وللناس البسطاء، للرعاة وللرعية، فهو قانون يسري على الجميع. يقول حافظ:
وفتية ولعُوا بالرّاح فانتبذوا
لهم مكاناً، وجدُّوا في تعاطيها
ظهرْتَ حائطهم لما علمْتَ بهم(19)
والليل مُعتكرُ الأرجاء ساحيها
حتى تبيَّنتهم والخمر قد أخَذت
تعلو ذؤابة ساقيها وحاسيها(20)
سفّهت آراءهم فيها، فما لبثوا
أن أوسعوك على ما جئت تسفيها
ورُمْتَ تفقيههم في دينهم، فإذا
بالشَّرْبِ قد برعوا الفاروق تفقيها(21)
قالوا: مكانك، قد جئنا بواحدةٍ
وجئتنا بثلاثٍ لا تُباليها
فأتِ البيوت من الأبواب يا عُمرٌ
فقد يُزنُّ من الحيطانُ آتيها(22)
واستأذن الناس أن تُغشى بيوتهمو
ولا تُلمَّ بدارٍ أو تُحيّيها
ولا تجسّسْ فهذي الآي قد نزلتْ
بالنهي عنه، فلم تذكرْ نواهيها
فعُدْتَ عنهم، وقد أكبرْتَ حُجَّتهم
لما رأيتَ كتاب الله يُمْليها
وما أنِفْتَ وإن كانوا على حرجٍ
من أن يحُجَّك بالآيات عاصيها(23)
    ومن المواقف التي ترتجُّ لها النفس وتتوقف بالدهشة والسؤال في سيرة الفاروق عمر، تلك التي حدثت يوم وفاة الخليفة أبي بكر الصديق وجيش المسلمين يقوده خالد بن الوليد في فتح الشام، حين جاء أمر عمر بعزل خالد بن الوليد وإسناد إمارة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح، الذي كتم الأمر عن خالد حتى يتم النصر للمسلمين وكانوا آنذاك في حصار دمشق، وقال عمر لخالد بعد عزله: ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن الناس بك، فخفت أن تفتتن بالناس. وبقي خالد إلى آخر حياته مطيعاً لعمر، وأوصى عمر بأولاده قبل موته تعبيراً عن محبته لعمر وتقديره له.
يقول حافظ إبراهيم:
سلْ قاهر الفرس والرومان، هل شفعت
له الفتوح، وهل أغنى تواليها؟
غزا فأبلى وخيل الله قد عُقدت
باليُمنْ والنصر والبُشرى نواصيها(24)
يرمي الأعادي بآراءٍ مُسدّدةٍ
وبالفوارس قد سالت مذاكيها(25)
ما واقع الروم إلا فرَّ قارحُها(26)
ولا رمى الفرس إلا طاش راميها
ولم يَجُزْ بلدةً إلا سمعْتَ بها
اللهُ أكبرُ تدْوي في نواحيها
عشرون موقعةً مرّتُ مُحجَّلةً(27)
من بعد عشرٍ بنانُ الفتْح تُحصيها
وخالد في سبيل الله مُوقدُها
وخالد في سبيل الله صاليها(28)
أتاهُ أمرُ أبي حفصٍ فقبَّلهُ
كما يُقبلُ آيَ الله تاليها
واستقبل العزل في إبّان سطوته
ومجدهِ، مستريح النفس هاديها
فاعجب لسيد مخزومٍ وفارسها
يوم النزال إذا نادى مناديها
يقوده حبشيٌّ في عمامته(29)
ولا تُحرّكُ مخزومٌ عواليها
ألقى القياد إلى الجراح مُمْتثلاً
وعزةُ النفس لم تُجرحْ حواشيها
وانضمّ للجند يمشي تحت رايته
وبالحياة التي مالت يُفدّيها
وما عرتْهُ شكوك في خليفته
ولا ارتدى إمْرَة الجراح تمويها
فخالدٌ كان يدري أنَ صاحبه
قد وجّه النفس نحو الله توجيها
فما يعالجُ من قولٍ ولا عملٍ
إلا أراد بــــــــــــــه للـــنـــــاس ترفــــيـــهـــــا
لذاك أوصى بأولادٍ له عُمراً
لما دعاهُ إلى الفردوس داعيها
وما نهى «عمرٌ» في يوم مصرعهِ
نساء مخزوم أن تبكي بواكيها
وقيل: خالفْتَ يا فاروق صاحبَنا(30)
فيه، وقد كان أعطى القوسَ باريها
فقال: خفتُ افتتان المسلمين به
وفتنة النفس أعيتْ من يداويها
 هبوهُ أخطأ في تأويل مقصدهِ
وأنها سقطةٌ في عين ناعيها
فلن تعيب حصيف الرأي زلّتُه
حتى يعيب سيوفَ الهند نابيها
تالله لم يتَّبعْ في «ابن الوليد» هوًى
ولا شفى غُلّةً في الصدر يطويها
لكنه قد رأى رأياً، فأتبعهُ
عزيمةً منه، لم تُثلمْ مواضيها
لم يرْع في طاعة المولى خؤولتهُ
ولا رعى غيْرهَا فيما ينافيها
وما أصاب ابنهُ والسّوْطُ يأخذهُ
لديه من رأفةٍ في الحدِّ يُبديها
إنّ الذي برّأ الفاروق نزَّهَهُ
عن النقائص والأغراض تنزيها
فذاك خلْقٌ من الفردوس طينتهُ
اللهُ أودع فيها ما يُنقّيها
لا الكبرُ يسكنها، لا الظلم يصحبها
لا الحقد يعرفها، لا الحرص يُغويها
ولا يترك شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدته/ملحمته «العمرية» قبل أن يُبصّرنا ويُنبِّهنا إلى أن مقصده الأول من قصيدته هو حثنا على تأمل هذه المعاني النبيلة والطباع الكريمة فــــي ســــيرة عمــــر، وكيف يمــــكن للنـــــشء الجديد أن يقبس من هذه المواقف والأحداث والمعاني ما يجعله جديراً بالانتــــماء إلى أمة عمر ودولته التي بناها بالـــــعدل والتقوى والزهد وعزة النفس. فليستيقظ النُّوّام على عظمة هذه السيرة، وتجلياتها في النفوس. يقول حافظ:
هذي مناقبه في عهد دولته
للشاهدين وللأعقاب أحكيها
في كلّ واحدةٍ منهنّ نابلةٌ
من الطبائع تغزو نَفْسَ واعيها
لعلَّ في أمة الإسلام نابتةً
تجلو لحاضرها مرآة ماضيها
حتى ترى بعض ما شادت أوائُلها
من الصروح وما عاناهُ بانيها
وحسْبُها أن ترى ما كان من عُمرٍ
حتى يُنبّه منها عين غافيها 
هذه هي «العمرية» رائعة شاعر النيل حافظ إبراهيم، نموذج للَّوحة الشعرية الباذخة التي أبدعتها ريشة حافظ، وفرشاة ألوانه وظلاله، مُصوِّراً قسمات هذه الشخصية التاريخية المتفرِّدة، التي لا تتكرر، شخصية الفاروق عمر بن الخطاب. 
ولا عجب أن تكون أطول قصائد حافظ، وأكثرها تدفقاً وانسياباً وحركية، في التقاطها للمواقف الدالة واللحظات المعبرة والأقوال المؤازرة واللفتات الإنسانية الصادقة. وأن تكون دالّة على النَّفَس الشعري لدى شاعر النيل، والقدرة الفذَّة على التدفق والاسترسال، وكأنه «النيل» الذي انتسب إليه، في عُرام تدافعه وانصبابه، وسحر جماله وبهاء إطلالاته ونماء ضفافه.
ومن بعــــــد حافظ إبراهـــــيــم في عــــمريَّته جاء الشاعر البدويّ محمــــد عبدالمطلـــب بقصيدته «العَلَويّة» نسبة إلى مُلهمهــــا عــــلي بـــــن أبي طالب، وهو حديث آخر نُرجئه إلى أوانه .