المرأة في الفكر الاجتماعي العربي خلال القرن العشرين

المرأة في الفكر الاجتماعي العربي  خلال القرن العشرين

عندما أشار تقرير التنمية الإنسانية الأول (2002) إلى أن أحد الشروط الضرورية لتحقيق الحرية الإنسانية يكمن في تمكين ومشاركة المرأة، لم يكن الأمر متعلقاً فقط بضرورة تحسين وضعية المرأة وحقها في نيل وممارسة حقوقها كافة، بل أيضاً بكيفية التوصل إلى النهوض بهذا العالم العربي من التردي الذي بلغه. ولقد ربطت المسألة بوجود ثلاث معيقات أساسية أمام شرط النهوض والتقدم في العالم العربي، وهي الحرية والمعرفة والمرأة. 

هناك الآن إعادة نظر في وظيفة المرأة وإعادة اعتبار للقيم الأنثوية الأمومية من أجل الحفاظ على الكرة الأرضية ومواردها التي يتم استغلالها واستهلاكها بشكل عدواني ومتسلط من دون النظر إلى مستقبل البشرية.
ومن الملاحظ وجود نوع من الممانعة الاجتماعية والذكورية التقليدية لكل نشاط يتعلق بالمرأة، خاصة مع موجة الإسلام السياسي التي اجتاحت المجتمعات العربية وتفاقمت إثر الثورات.

الخطابات المتعلقة بالمرأة 
لا شك في أن الموقف المضاد للمرأة في عالمنا العربي يستند إلى غلبة الثقافة التقليدية على مجتمعاته.
يبرز على هذا الصعيد خطابان؛ خطاب تقليدي متفاوت يُغرق  في استناده إلى الماضي، بعيداً عن الواقع الاجتماعي الفعلي، وآخر حداثوي يغرق في ارتباكه الذي يؤدي إلى القصور. 
يسود الخطاب التقليدي لهجتان أو اتجاهان في ما يتعلق بالمرأة. أحدهم صرّح، مرة وإلى الأبد، بأن الإسلام أعطى المرأة كل حقوقها منذ 1500 عام. وكل حقوقها يعنى بها أحياناً مساواتها المطلقة مع الرجل في سبق موصوف للغرب والعالم أجمع!! واتجاه  يقصر الأمر عملياً على «إنصافها» وبالطريقة التي يراها أولو الأمر مناسبة. يتشارك في هذه الرؤى النساء والرجال.
من جهة أخرى، ينتقل هذا الخطاب أحياناً إلى الهجوم، فيوسم أي تحرك نسائي بأنه معاد للطبيعة وأنه مدعاة للفساد والإفساد.
أما الخطاب التقليدي الأحدث والأكثر عصرنة، ولكي لا يخيف رجال الدين، فهو لا يجهر بالمساواة، بل فقط بأن «تكمل» المرأة الرجل، وكأنه اكتشاف لصيغة جديدة مدهشة!
يطالب الخطاب الحداثي «الأقلوي» خارج الخطابين السابقين بالمساواة التامة بين الجنسين، ولذا يُنعت بالنسوية التي تعني من هذا المنظار مناهضة الرجل ومعاداته. ينتج عن ذلك اختلاف وسائل معالجة موضوع المرأة، فيبرز أيضاً تياران: تيار ينادي بعدم القيام بأي نشاط تخصيصي للمرأة، وأنها كفيلة بفرض نفسها من ضمن التركيبات القائمة وكما يحصل الأمر مع الرجل تماماً، أي عبر الكفاءة أو الاتصالات الشخصية... لذا ينفي هذا التيار الحاجة إلى إيجاد أي حزب او حركة أو جمعية أو مطلب خاص بالنساء مثل الكوتا مثلاً؛ ذلك أن تحسين وضع المواطن عامة يحسن وضع المرأة حكماً. وتيار آخر لايزال يؤمن بالنضال لاكتساب الحقوق وخاصة من يتعامل منهم مع الفئات الضعيفة والمستغلة. والاستغلال يحصل على مستويات إنسانية عدة: اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنسية. 
والمقلق الآن أن الأوضاع التي أصبحت كارثية مع تفشي النزاعات المسلحة التي تعمّ معظم البلدان العربية تجعل موضوع الإنسان عامة والمرأة بصفة خاصة خارج سياق أي اهتمام.

المرأة والمجتمع البطريركي ودور الدولة الحديثة
عندما نقول مجتمعاً تقليدياً فإن ذلـــك يترجم حكماً بأنه مجتمع بطريركي. لذا لا يمكن معالجة وضعية المرأة في العالم العربي من دون الإشارة إلى النظام البطريركي بتراتبياته المتينة، حيث يتم إقصاء المرأة عن الحقل العام بشكل تام أو شبه تام. لكن استخدام مصطلح تقليدي لا يعني أن الدولة الوطنية الحديثة ما بعد الاستعمار لم تمارس الوظيفة نفسها. 
البطريركية ليست حكراً على المجتمعات الرعوية والزراعية، فهي موجودة أيضاً في المجتمعات الرأسمالية الطبقية. لذا لم تشكل الدولة الوطنية في بلادنا حماية للنساء اللواتي قد لا يشعرن بتأثيرها في حياتهن، كما قد تقوم بذلك الدولة في الغرب. المواطنة في البلاد العربية تمارس في الغالب من خلال المجتمعات المحلية، سواء الإثنية أو الدينية او القرابية – العائلية التي قد تتناقض وقد تتنافس مع سلطة الدولة. 
هذه المجتمعات المحلية التقليدية تكون منظمة عادة من خلال علاقات بطريركية قائمة على أخلاقيات وبنى سيطرة. كذلك في الدول الوطنية المعاصرة التي تمارس فيها النساء عضويتهن من خلال العلاقات الاجتماعية المحلية أو الأهلية التي تشكل الفسحة الأساسية لحركتهن، تعبُر هذه العلاقات أشكالاً بطريركية من التنظيم. وفي المجتمعات التي يكون فيها للدولة حضور فعال، تتمكن الأشكال البطريركية من اختراقها بفعالية. فهناك أشكال جديدة معقدة ومتبدلة للسيطرة. 
وعندما تكون الدولة أكثر قمعية من المجتمعات المحلية، كما في أنظمة الاستبداد، نجد أن النساء يدافعن في غالب الأحيان عن أنفسهن عبر المجتمعات المحلية. لكن عليهن أولاً الخضوع التام لسيطرة رجالها للحصول على هذه الحماية.

المجتمع المدني: فصل الخاص عن العام ودور الدولة الحديثة
قد نتساءل: هل يمكن أن تؤمِّن مؤسسات المجتمع المدني الحماية الضرورية للنساء في مجتمعاتنا؟ يعيدنا هذا إلى المصدر ودوره في المجتمعات الغربية التي وجدت حلا لمشكلة تسلط الدولة أو طغيانها عبر مؤسسات المجتمع المدني هذه. لكن كما نعرف أنها مكونة في المجتمعات المعاصرة من اتحادات، مجموعات للعمل السياسي، غرف تجارة وحتى أخويات دينية، وهي تنتمي جميعها إلى المجال أو الحقل العام. أنها جمعيات من النوع الذي يرتبط بالرجال بصورة دائمة تقريباً. فالمجتمع المدني يعتبر ويعرّف مسبقاً على أنه أحد مواقع المجال العام الذي تُقصى منه النساء. وهذا يعود إلى فصل المجال العام، المخصص للعمل وللرجال، عن المجال الخاص المخصص للأسرة والمرأة. من هنا يأتي عدم انتساب النساء إليها بفعالية.
حتى أن التشريعات التي ظهرت إلى الوجود بعد تحديث القوانين وإصلاحات المحاكم تختلف عن سابقتها في أنها مصممة لمصلحة النظام المهيمن الجديد الذي وصل إلى السلطة كجزء من بناء الدولة الوطنية. ومن الخطأ الاعتقاد أن التشريعات المطبقة في صورتها القديمة هي وحدها السبب  الحصري في قهر المرأة؛ بينما واقع الحال يشي بأن سبب القهر يكمن في الإصلاحات الحديثة أيضاً وفي أسلوب التعامل مع قوانين الأحوال الشخصية.

المرأة والتشريعات
لا يتحسن الوضع كثيراً مع الوقت، وهو ما يشير إليه تقرير «تنمية المرأة العربية» الصادر حديثاً، والذي شمل 20 دولة عربية،  حيث عالج قضية مساواة المرأة بالرجل في الدساتير العربية، معتبراً إياها أهم القضايا الإشكالية. وبدا أن موضوع «المرأة العربية والتشريعات» من أولويات المنطقة؛ ومسألة المساواة في التشريعات وما تعانيه من تمييز على مستوى الحقوق المدنية والسياسية والتعليم والتدريب، وتابع وضعها وحقوقها داخل الأسرة بشكل عام والصحة الإنجابية وتعرضها للعنف وحقها في العمل وحق التقاضي والوصول إلى العدالة، باعتبارها أحد أركان الديمقراطية والحكم الرشيد.
ومن أبرز النتائج التي خلص إليها التقرير، أن الدساتير العربية أدمجت نصوصاً عديدة تبين المساواة بين الرجال والنساء بحكم – أو افتراض - أنهم جميعاً مواطنون في الدولة نفسها، يتمتعون بالحقوق ذاتها، ويتحملون الواجبات نفسها، ويخضعون للقواعد والتشريعات ذاتها. بيد أن هناك اختلافاً في فهم مبدأ المساواة والتعبير عنه في مواد الدساتير المختلفة، بل وتفاوتاً حتى في الصياغة داخل الدستور الواحد.

المرأة والسياسة
من الملاحظ إذن وجود إجماع مبدئي على الاعتراف بحقوق المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في معظم دساتير البلدان العربية، غير أن مجرد وجود ضمانات دستورية تكفل حق المرأة لا يتجسد بالضرورة واقعاً تكتمل فيه حقوقها المدنية والقانونية والسياسية. إن انخفاض نسبة تمثيل المرأة انخفاضاً شديداً في أوساط اتخاذ القرار في البلدان العربية، جعل من حقوق المرأة الدستورية حبراً على ورق. 
لا شك في أن بداية الألفية الثالثة حملت بعض التغيير حيث تحسن تمثيل المرأة، ما جعل متوسط مشاركتها في البرلمانات العربية ينتقل من 6.1 إلى 14.7 في المائة، ومع أن الأمر شديد التعقيد، فإن علينا عدم الخلط بين الديمقراطية ومشاركة المرأة السياسية. إن أكبر تمثيل للمرأة قبل الثورات، كان في سورية، وبشكل عام لاتزال نسبة مشاركة المرأة في المجالس البرلمانية على المستوى العالمي غير مرضية. ففي الولايات المتحدة البلد العريق في ديمقراطيته، والذي اعترف بالحقوق السياسية للمرأة منذ القرن التاسع عشر، لايزال تمثيل المرأة غير كافٍ بشكل عام، إذ تبلغ نسبة مشاركتها في البرلمان 18 في المائة فقط. 
مع ذلك نـــجد أن معدّل تمثيــــل المــــرأة ارتفـــــع عالمياً في البرلمانات الوطنية بشكلٍ تدريجي من 15 في المائة عام 2002 إلى 19.8 عام 2012. لكن هذا المعدّل يظــل أدنى من النسبة التي تســـــاوي 30 في المــــائة المعتبرة غالباً أنها «الحجم الحرج» لمستوى التمثيل الأساسي المطلوب لتحقيق المشاركة الفعالة.

وضع المرأة على الصعيد الاقتصادي والعمل
لم تتمكن المنطقة العربية حتى الآن من أن تكون مشاركاً ناشطاً في إعادة الهيكلة العالمية، وظلت مساهماتها في الاقتصاد العالمي ضئيلة. الأمر الذي يفيد بأن المنطقة تعاني الركود الاقتصادي وتعجز عن اللحاق بالعولمة أو الاستفادة منها. إن تدني مستوى النمو الاقتصادي بشكل عام، يبقي استحداث الوظائف محدوداً. كما أن الخصخصة وتحرير التجارة لم تترافقا بجملة سياسات تحدث التغيير المطلوب في قوانين العمل وأنظمته، وذلك كله ينعكس سلباً على مشاركة المرأة الاقتصادية وعلى حظوظها في دخول سوق العمل.
كما أن التقدم الذي طرأ في مجال تعليم النساء وانخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع متوسط العمر عند الزواج، لم يُترجم كعامل مؤثر على الأيديولوجيات السائدة التي تركز على دور المرأة الإنجابي. 
ويبقى الفقر من بين المشكلات الأكثر إلحاحاً التي تواجه الكثير من الفئات الاجتماعية في المنطقة العربية، وهو العامل الأساسي الذي يحول دون تمكين المرأة العربية ومساعدتها على المشاركة الفعالة في ميدان العمل في ظل الاتجاهات المستمرة في التمييز بين الجنسين.

المرأة والنزاعات المسلحة وأثر العنف
اعتدنا تقليدياً أن نحمّل الكيان الصهيوني كمصدر تحدٍ للمجتمعات العربية والمرأة من ضمنها لاستغلال الأنظمة العربية المستبدة الأمرَ لتأجيل جميع أنواع الإصلاح من أجل التصدي للاستعمار الصهيوني الاستيطاني. ففشلت الأنظمة في التصدي ونجحت في التردي الذي أوصلت مجتمعاتها إليه. لكن العنف غير المسبوق الناتج عن النزاعات المسلحة التي تغرق فيها بلداننا والأشكال المستجدة من الاحتلالات يشكلان اليوم أحد أبرز المشكلات التي تواجه هذه المجتمعات وتهدد وجودها نفسه. 
والسؤال هو ما الذي يمكن أن يترتب عن الحروب المعممة حالياً والمرشحة للتفاقم؟
الحرب ظاهرة اجتماعية تساهم بإحداث تغيرات جذرية في المجتمعات. هناك من يعتبرها كمولدة للتاريخ، وهي صورة من صور الانتقال المعجّل من حال إلى أخرى. الحروب والنزاعات تقلب نظام الأشياء، تحول الغني فقيراً والفقير غنياً، وتتسبب بتغيرات ديموجرافية عميقة وتقلب الأدوار، فتؤثر في الأسر التي تفقد الكثير من أعضائها وتتفكك وتهجر؛ فتفقد بالتالي وضعية التوازن الداخلية المنتظمة في نظام معين تتوزع فيه الأدوار والمهام والوظائف لكل شخص بهدف الحفاظ على المجموعة؛ ومن أجل نمو الأفراد وتفتحهم. 
خلط الأدوار هذا يخلخل مكانة الرجل العربي في الأسرة؛ ليس بمعنى التطور الطبيعي للنظام البطريركي، إنها خلخلة سلبية للنظام، حيث تتغير نظرة المرأة إلى الرجل (الزوج) والأولاد إلى الأب والأهل وهكذا؛ ما يخلق وضعاً مفارقاً.
من هنا يبدو تأثير النزاعات المسلحة على منظومة القيم لجهة تحللها وبروز الخلل في العلاقات الجنسية، والتعديات والاستغلال الجنسيين بسبب الظروف الصعبة وغير الطبيعية التي يعانيها السكان، فضلاً عن معاناة الأسر المهجرة أو النازحة من صعوبات على المستوى المادي من جوع ونقص في العناية والصحة وغياب الحماية. ولا يقتصر الأمر على الناحية المادية، بل يطول المستوى النفسي أيضاً.
يتسبب هذا كله في فقدان الأمل وبالقضاء على مستقبل أجيال بكاملها وعلى تحميل النساء أحمالاً يعجز عنها البشر، ويقضي على ما أنجزته المجتمعات العربية من تقدم. ما يتطلب وضع الخطط الآنية والاستراتيجيات المناسبة لمواجهة هذه التحديات المصيرية.

اتجاهات معاكسة
تأخذ المنطقة العربية اتجاهات معاكسة لمتطلبات النمو والاستقرار على الصعيد العالمي. ففي حين تشهد المجتمعات الأخرى نمواً وتقدماً وتغلب عليها زيادة مشاركة المرأة في قوة العمل أو تأنيثه لإعادة الهيكلة العالمية، نجد أن مشاركة المرأة العربية تعد من أدنى المعدلات في العالم. وبالتالي ليس مصادفة أن تعاني بلادنا العربية اليوم ما تعانيه اليوم من تأخر وعجز. 
وإذا بقيت الاتجاهات العامة المستندة إلى التمييز بين الجنسين والمعيقة لوصول المرأة العربية إلى نيل حقوقها وتنمية قدراتها هي السائدة في العالم العربي، فسوف تشكل حائلاً دون تحقيق التمكن الذاتي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
هناك ضرورة قصوى لإيجاد سياسات تعتمد خططاً محلية تضع على رأس أولوياتها مساعدة النساء من أجل اكتساب حقوقهن المنقوصة وإشراكهن في مراكز القرار. ويكتسب ذلك أهمية قصوى في ظل الأوضاع التي تعيشها المنطقة، فالمرأة تضع التعليم والصحة والمؤشرات الأساسية الأخرى للتنمية في سلّم الأولويات، وهو ما تحتاج إليه بلادنا كي تنهض. كما أنه غالباً ما ينظر إلى النساء العاملات في السياسة حول العالم على أنهنّ أكثر صدقاً وتجاوباً مقارنةً بأقرانهنّ من الرجال. وبما أن النساء أكثر من يعانين ويلات الحروب والنزاعات، نجدهن يدافعن بشدة عن الاستقرار؛ كما أنهن أكثر استجابة لاحتياجات المواطنين كما تبين الأبحاث، ويدفعن نحو مزيد من التعاون بين مختلف الأحزاب والإثنيات، ما يزيد من إمكان التوصل إلى حلول سلمية .