فــي رحــاب أثـينــا

فــي رحــاب أثـينــا

أثينا مدينة الحكمة والفلسفة، مدينة الأسطورة والخيال والشعر والأدب، مدينة يشهد حاضرها على ماضيها، أينما تولّ وجهك في أثينا فثم أثر  أو شاهد يردك إلى حقب زمنية غارقة في القدم، فهنا بقايا العصرين الحجري والبرونزي، وهناك العصر الإغريقي الكلاسيكي، وهناك التراث الروماني، بل وبعض الآثار العثمانية، إنها مدينة تروي ظمأ كل متعطش لمعرفة تاريخ الإنسان وتطوره معرفياً وعمرانياً وفكرياً وفلسفياً وأدبياً، مدينة صاخبة بحمولتها التاريخية الثقيلة، وبحداثتها المعاصرة، ما جعلها قبلة السيَّاح من كل أرجاء المعمورة، وكانت قبلتنا في هذا الاستطلاع.

تتزايد أعداد الزائرين إلى أثينا ويكتظ مطارها الدولي بالقادمين من جميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن يبلغ عدد الزائرين الذين يستقبلهم مطار أثينا في هذه السنة، أربعة ملايين ونصف المليون مع نهاية هذا العام، وفق مجلة الأوبسيرفر البريطانية The Observer، ومع كثرة الزائرين فإن إجراءات السفر وتسلم الحقائب كانت سريعة وميسرة، ولم نلبث في مطار أثينا إلا قليلا، وفي الذاكرة كان يتردد صدى صوت الشاعر الكبير محمود درويش بكلمات قصيدته «مطار أثينا» التي قال في مطلعها: «مَطَارُ أَثِينَا يُوزِّعُنَا لِلْمَطارَاتِ» و«فِي مَطَارِ أَثِينَا انْتَظَرْنَا سِنينَا»، حيث عبّر فيها عن غربة المطارات بوصفها أماكن للانتقال لا للاستقرار، لكن هذه الأماكن المؤقتة أضحت دائمة، بل ومستقراً لمعاناة اللاجئ الذي كثيراً ما يكون هارباً من الموت إلى الموت.
على أي حال، فمطار أثينا يوزعنا للمزارات أيضا، وقد قطعنا الطريق منه إلى مركز المدينة فيما يقارب نصف الساعة مع كون الطريق مزدحماً بعض الشيء، وكلما اقتربنا لاحت لنا الهضاب والتلال المرتفعة بعلو شامخ. كانت سائقة الأجرة امرأة تبدو في الأربعين من عمرها، ومعظم سائقي الأجرة هناك من العنصر النسائي، وقد يكون ذلك لكثرة العاملات في هذا المجال بهذا البلدوربما لأسباب أخرى. 

سينتاجما... الساحة الصاخبة
ذهبنا إلى ساحة البرلمان الشهيرة، ساحة سينتاجما، فإذا هي تضج بكثرة السائحين، ومع اقترابنا من الساحة اكتشفنا أن ضجة السائحين وأصوات الباعة تختلط مع أصوات تظاهرة حمراء ترفرف فيها الأعلام التي تتوسطها القبضة اليسارية مع الأعلام اليونانية، دنوت من أحد المتظاهرين يضع أمامه طاولة تصطف فيها كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس ورفيقه فردريك إنجليز، إضافة إلى كتب أخرى، واستفسرت منه عن سبب التظاهرة، فقال إنها تأتي احتفاء بمرور عام على نتيجة الاستفتاء الذي أجري في اليونان في عام 2015، الذي دعت إليه حكومة الكسيس تسيبراس لمعرفة رأي الشعب اليوناني في الخطة التي اقترحها الدائنون الدوليون لليونان، وكانت نتيجة الاستفتاء هي الرفض لهذه الخطة. وكانت تتوسط اللافتات كلمة (Oxi)، التي تعني (لا)، إضافة إلى شعارات أخرى رافضة لخيار التقشف، وبعد قليل قامت الشرطة بإغلاق الطريق لتنظيم المسيرة، فمشى المئات فيها رافعين أعلامهم وأصواتهم بشعارات حماسية.
بعد التظاهرة كانت الأمور في ساحة سينتاجما تسير بانتظام لترى فيها ما تراه عادة في الساحات والميادين الأوربية، إذ يعرض كل صاحب مهارة مهاراته نظير بضع عملات معدنية يضعها المارة في صندوق صغير أو قبعة توضع أمامه، كان منهم طفل يغني بصوت شجي ويطرب من حوله من العابرين، كما كان هناك من يبيع الكتب القديمة المستعملة، وبائع اللحم المشوي، وبائع المكسرات بالخلطات اليونانية وغيرهم.

المساحات الخضراء
نظراً لطبيعة الطقس في أثينا، فإن الخُضرة ليست هي السائدة، لكن مع ذلك، كثيرة هي تلك البقع الخضراء الشاسعة التي توفر لزائرها الاستجمام والهواء المعتدل، ومنها الحديقة الوطنية التي تمتد على 15.8 هكتارات، وتحتوي على مجموعة من النباتات مع حديقة حيوان صغيرة. 
كما أن هناك أعلى تلة في أثينا وهي تلة لوكيبـيوس Lycabettus، التي يبلغ ارتفاعها 270 متراً، حيث تصطف في طريقها المتعرج أشجار اللوز والصنوبر، لتصادفك في أعلى التلة كنيسة سانت جورج St. George. ومن أعلى قمة التلة ستظهر لك المدينة في صورة بانورامية باهرة. 

المقاهي والمطاعم في أثينا
ونحن نجول في أزقّة أثينا ومن بين المحال المنتشرة هنا وهناك، تبدو بائعة قطع التذكار (السوفنيرز) بعينيها الواسعتين، شرقية الرونق. فتلقي علينا التحية بالعربية وتكشف عن هويتها الشرقية، فتقول: مرحبا بكم، تبدون عرباً، نعم أنا أيضا ليبية الأب يونانية الأم، لهذا تجد ملامحي شرقية، أعيش هنا على بيع هذه القطع التي ترون، لكن المعيشة في اليونان ليست من دون صعوبات اقتصادية.
سألناها عن أفضل المقاهي التي تقدم القهوة اليونانية فنصحتنا ببعضها، لكنها وصفت لنا القهوة الباردة التي يستعين بها الأثينيون لمواجهة لهيب الصيف وصداع الرأس، ألا وهي فرابي Frappé، وهي عبارة عن قهوة باردة مع مكعبات الثلج، يشربها اليونانيون بديلا عن القهوة اليونانية في أوقات الحر، ابتكر اليونانيون الفرابي في عام 1957م لتصبح بعد ذلك المشروب الأول، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية انتشر مشروب قهوة باردة أيضا تصنع من حبوب الاسبريسو ثم تبرد بقطع الثلج، ويسمى فريدو Freddo، وتقدم عادة بكؤوس طويلة يتوسطها عود مصاص رفيع، وقد أخذنا بنصيحة الشابة الشرقية ولم نندم على ذلك، فكانت هذه القهوة كفيلة بانتعاش أجسادنا وتنشيط أذهاننا لتبقى متقدة، ففي أثينا تحتاج إلى كل انتباهة حتى لا يفوتك شيء من بهائها.
ولعل ما يميز أثينا تلك المقاهي والمطاعم والحانات التي تعتلي أسطح المباني والعمارات المحيطة بالأكروبوليس، هنا حيث تكشف لك المدينة عن عراقتها وحداثتها، يمكنك تناول الفرابي أو أي مشروب بارد، وأنت تتابع تفاصيل حركة الأثينيين بهدوء رائق، تبدو لك هذه الحركة كخلية نحل مشغولة. وتفوح رائحة لحم الشاورما والكباب الغني بصلصة الروب اليوناني الشهير، وإذا كنت من عشاق الأكلات البحرية، فأثينا لا شك ستشبع رغبتك، ولا تنس نصيبك من السلطة اليونانية التي تتكون من الطماطم والخيار والبصل، التي تتربع عليها قطعة كبيرة من الجبن غارقة بزيت الزيتون اليوناني البكر، وحبات الزيتون المتناثرة في القصعة. يفخر الأثينيون بالزيت اليوناني ويصفونه بالزيت الأول على مستوى العالم. وتذكر الأساطير اليونانية أن الربَّة «أثينا» كانت في نزاع مع الإله «بوسيدون» للظفر بمركز الهضبة الطيبة، وكان «بوسيدون» قد ادعى أحقيته في هذه المنطقة ليجعل منها مجرى للمياه المالحة، بينما زرعت «أثينا» شجرة الزيتون هنا لأول مرة، ما استدعى تدخل كبير الآلهة زيوس لإنهاء النزاع، وكان النصر حليف «أثينا» لفرض سيطرتها على منطقة أتيكا، وسميت المدينة بعد ذلك باسمها، حيث يشغل معبدها البارثينون مساحة كبيرة من هضبة الأكروبوليس، وبذلك تقرر أن شجرة الزيتون أجدى نفعا من المياه المالحة التي أراد أن يجريها «بوسيدون». قد ينسيك طعم الزيتون اليوناني كل هذه الأساطير، وقد تحمد لأثينا زراعتها لهذه الشجرة.

سجن الحكيم 
هناك تلة فليبوس التي تقع في الجنوب الغربي من قلعة الأكروبوليس، حيث الأشجار الكثيرة والظلال تخفف من وطأة حر الصيف، وأنت تمشي صعودا لأعلى التلة تجد محبي رياضة المشي والجري، وترى الطريق الممرد بالحصى معطيا منظرا جميلا، غير أن المنظر الأجمل الذي يسر الناظرين هو رؤية أثينا بمعالمها وعلى الأخص الأكروبوليس من أعلى التلة، فكل هاوٍ للتصوير يجد ضالته هنا، خصوصا مع انسحاب الشمس تدريجياً تاركة المجال لبهمة الليل أن تظهر جمال معبد الباثينون المضيء بأضواء منعكسة تزيد المكان سحرا على سحر. سميت هذه التلة باسم فليبوس ملك مملكة الكوماجيني، الذي تجد نصبه في قمة التل، إذ تم بناؤه في بدايات القرن الميلادي الثاني.  في طريق هذه التلة تقع الكنيسة البيزنطية للقديس ديمتريوس، وفي مقابلها أثر لا يمكن أن تمر ولا تلقي نظرة عليه، إنه سجن المعلم سقراط، حكيم أثينا وفق نبوءة عرافة معبد دلفي، الذي سنأتي على ذكره، فقد كانت لنا معه ساعات وتأملات، وكان لعدسة كاميرتنا معه حكايات تحكي روعة المكان... على أي حال، حقق الفيلسوف سقراط النبوءة وكان قد سعى لمعرفة سر اختياره من قبل العرافة، فهام بحثاً قاصداً الشعراء والسياسيين والأدباء وغيرهم، ليكشف عن جهله، فهو لم يدّع معرفة قط، وهو لا يني يذكر الناس من حوله بأنه لا يعرف شيئا، وكان أن اكتشف الغاية والسر من اختيار العرافة، فقد أدرك بعد سعي وفحص ولقاءات وحوارات مع كل مشاهير المدينة أن هؤلاء لا يعرفون شيئا، لكنهم، يا للمفارقة، لا يعرفون أنهم لا يعرفون، وفي المقابل هو أيضا لا يعرف لكنه يدرك أنه لا يعرف، فكان مصداق قول العرافة، فأعظم الناس كسقراط من يعرف أنه لا يعرف.
في طريق هذه التلة مشى الفيلسوف العظيم مكبلا، ومكث في السجن ما يقارب الشهر، لحين تنفيذ حكم الإعدام الذي قررته الديمقراطية الأثينية تحت دواع واهية ليس أتفهها إفساد عقول الشباب، مخفية الأسباب السياسية الحقيقية وراء هذا الحكم. في هذا السجن كان زوار سقراط يأتونه وينهلون من حكمته، وكانت عروض الفرار تُلح عليه وكانت الفرصة مواتية، فالحكم الديمقراطي الذي أخر تنفيذ الحكم شهرا لأسباب دينية في العلن، كان في الواقع يماطل في تنفيذ الحكم، وكان سيغض الطرف عن هرب سقراط إن لم يكن يتمناه لسببين مترابطين، أولا لأنه يدرك فداحة هذا الحكم بحق أثينا وسمعتها وبحق الفيلسوف العظيم وأتباعه ومحبيه، وثانيا لأنه، في هرب سقراط، لو تم، إثبات غير مباشر لادعاءات الحكم، وإنهاء وإعدام معنوي لفلسفة وأفكار الفيلسوف. أدرك سقراط ذلك، وأبى أن يخالف مبادئه، مفضلا تجرع سم الشوكران بسكينة وتؤدة تنفيذا للحكم على الهرب والنجاة، وذلك في عام 399 ق.م. في هذا السجن وفي هذه الفترة الزمنية القصيرة قدم سقراط آراءه حول خلود النفس وجزائها الجزاء الأوفى وفق أحد أهم المحاورات التي قدمها أفلاطون وعرض فيها لليوم الأخير لسقراط العظيم وهي محاورة فيدون. 

الآغورا مركز الحكم الديمقراطي القديم
تركنا سجن الحكيم متجهين نحو الآغورا مركز المدينة القديم، حيث كانت في سالف الأزمان أصوات الخطباء ورجال الدين بل والباعة والمشترين تعلو وترتفع مخلفة ضجّة في المكان، هنا كان سقراط يحاور حوارييه عن قيم العدالة والفضيلة، ومن ضمنهم أفلاطون، وكان الحاكم المتنور بيركليز يمارس سلطاته. تقع الآغورا القديمة على شمال الأكروبوليس، وكانت الآغورا - التي تعني باليونانية السوق - قلب المدينة النابض، هنا ولدت الديمقراطية وازدهرت، هنا كان مقرّ الإدارة السياسية ومقرّ القضاء والدين، في الآغورا تجد الأنشطة الاجتماعية المختلفة مكانها، من المناسبات الثقافية إلى الاحتفالات الدينية مرورا بالتعاملات التجارية، والأمسيات الموسيقية والعروض المسرحية، وبالتأكيد المنافسات الرياضية. 
بدأنا برواق أتالوس Stoa Of Attalos، ذلك البناء الذي شيده الملك بيرغامون أتالوس في القرن الثاني قبل الميلاد وأهداه إلى الربة «أثينا». يتكون هذا البناء من طابقين وتزينه صفوف من الأعمدة بعضها مصمم على الطراز الدوري وبعضها الآخر على الطراز الأيوني، وكان هذا الرواق فضاءً للالتقاء وتبادل الآراء، وفي عام 1957م تم تحويل هذا الرواق بعد إعادة بنائه إلى متحف يستقبل الآثار التي تعثر عليها الحفريات التي قامت بها المدرسة الأمريكية للدراسة الكلاسيكية.
كما تم تجديد متحف الآغورا في عامي 2003م و2004م ضمن برنامج تجديد المتاحف إبان التجهيزات للألعاب الأولمبية الصيفية الثامنة والعشرين التي نظمتها أثينا، ويضم المتحف في الطابق الأرضي معرضاً لمجموعة من التحف والمقتنيات مثل التماثيل والجرار والمزهريات والأسلحة التي تعود إلى العصرين الحجري والبرونزي بل والحقبة الميسينية، وتكشف عن حياة الأثينيين في تلك الحقب المتعاقبة.
بيد أن أهم المعروضات، هي تلك التي تتصل بوظائف الإدارة الديمقراطية للمدينة وتعود إلى الحقبة الكلاسيكية كالأوزان البرونزية الرسمية وأجزاء من صندوق الاقتراع المصنوع من الرخام. أما الطابق الأول من الآغورا فقد تم افتتاحه للعامة في عام 2012م، بينما كان في العقود الثلاثة الماضية مخصصاً للباحثين وعلماء الآثار، ويوفر الآن عدداً هائلاً من منحوتات الحقبة الرومانية. 
خرجنا من متحف الآغورا قاصدين معبد هيفايستوس Temple Of Hephaestus، وإذا كان رواق أتالوس المتحف هو بناء حديث يعود إلى نصف قرن، أعني بعد التجديد، فإن معبد هيفايستوس الذي يقع على تلة صغيرة في الجهة المقابلة مباشرة للمتحف يحافظ على أحجاره القديمة ومعماره الأصيل، وهو أحد المشاريع البنائية التي أنجزت في العصر الذهبي بتكليف من باني أثينا القديمة بيركليز، وكان بناؤه قد اكتمل قبل بناء معبد البارثينون بعامين، تحديدا في عام 415 ق.م. ويعتبر إحدى وجهات السياح الأساسية لسلامة بنائه وروعة معماره وحفاظه على شكله القديم، الأمر الذي يعزى إلى تحوله إلى كنيسة مسيحية.  

سوق موناستيراكي 
تضم أثينا عدداً من الأسواق والمجمعات الكبيرة نسبياً، منها مجمع ذا مول The Mall ومجمع مول مترو أثينا Mall Metro Athens وغيرهما، إلا أن الأسواق الشعبية كانت هي مقصدنا، فبعد انتهاء جولتنا في الجانب الغربي من الأكروبوليس آثرنا أن نؤجل الصعود إلى هضبة الأكروبوليس وزيارة المتحف وبقية المواقع الأثرية إلى اليوم التالي، وعليه خرجنا من منطقة الآغورا إلى ميدان موناستيراكي عبر ممرات ضيقة تشعرك بحميمية المكان، حيث المنتجات الشعبية وسوق الخردة والأنتيك، وحيث المقاهي والملابس المطبوع عليها صور معالم أثينا، يزدحم سوق موناستيراكي صباح كل يوم أحد أسبوعيا، فتغلق بعض المحال أبوابها ويأتي الباعة المتجولون بطاولاتهم وأبسطتهم ليفترشوا المكان ويعرضوا بضائع قديمة قد تكون ثمينة للبعض، كالطبعات الأولى لكتب قديمة أو حتى أسطوانات موسيقية تعود إلى عقود ماضية. وتنتصب قلعة الأكروبوليس وراء هذا الميدان مشكلة خلفية بديعة تؤطر ضجيج البائعين ومحاولاتهم الحثيثة لإغراء الزبائن والسياح بالشراء، وكأن صخب السوق قد انتقل من آغورا أثينا واستقر بجانبها في موناستيراكي، ويلحظ الزائر هنا كنيسة صغيرة تعود إلى القرن العاشر الميلادي، وهي دير صغير أخذ منه هذا الميدان اسمه، فكلمة مونتسري Monastery  تعني الدير، كما يرى الزائر مبنىً ذَا طابع عمراني إسلامي، إنه مسجد بني في الحقبة العثمانية وتحديدا في عام 1759 م ويدعى مسجد زستراكيز Tzistarakis Mosque، ويستغل هذا المبنى الآن كمتحف للفنون الشعبية اليونانية.
وإذا دلفت من ميدان موناستيراكي إلى الطريق المتجه نحو ميدان أمونيا، فستواجه في منتصف الطريق سوق أثينا المركزي. يجدر بك الوقوف هنا لشراء بعض من فاكهة الصيف المنعشة، أو بعض اللحوم أو الأسماك لتحضير وجبة دسمة، إضافة لانتشار المحلات التجارية التي تبيع الجبن والزيتون وزيت الزيتون البكر، فضلاً عن الأعشاب والتوابل ذات الرائحة الزكية.

... وصعدنا الهضبة العظيمة
وفي يوم خصصنا جلّ ساعاته لاكتشاف مزار أثينا الأشهر؛ ذهبنا صباحا إلى مدخل قمة الأكروبوليس، تلك التحفة المهيبة الفريدة من نوعها في المعمار القديم والحديث، تشهد على عظمة العصر الذهبي ورجاله وعلى رأسهم بيركليز. وتعني كلمة الأكروبوليس في اليونانية المدينة المرتفعة، وهو عبارة عن هضبة صخرية مرتفعة تقع في وسط أثينا، ويبلغ ارتفاعها 152 مترا عن سطح البحر، ونظرًا للطبيعة الجغرافية التي تتمتع بها الهضبة، فقد اتخذها اليونانيون ملجأً يتحصنون به ويَصُدُّون هجمات الغزاة.  وإذا كانت زيارتك في شهور الصيف، فيفضّل أن تذهب إليها كما فعلنا في ساعات النهار الباكر تجنباً لأشعة شمس الظهيرة الحارقة، واستعن على حرارة الشمس بالتزود بقناني الماء، حيث يوجد عند المدخل ماكينات لبيع الماء تقبل العملة المعدنية، وتنبه إلى أنه لن يسمح لك بإدخال المشروبات الباردة، التي تباع خارج بوابة الدخول، معك إلى الهضبة.
لم يزر أثينا من لم يزر الأكروبوليس، إنه أحد الإنجازات التاريخية العظيمة للمدينة، وفي حين تبدأ بالصعود إلى قمة الهضبة، سيقابلك مسرح هيرود أتيكوس The Odeon Of Herodes Atticus  الذي بناه الرومان في عام 161م، هذا المسرح البديع بتناسق مقاعده الحجرية وإطلالته على المدينة الساحرة التي تشكل خلفية رائعة تضفي عليه بعداً روحياً ملهما، مازال هذا المسرح يعمل إلى اليوم، وتقام عليه الحفلات الموسيقية الكلاسيكية، وحفلات الباليه الراقصة، إضافة إلى العروض المسرحية العالمية ذات القيمة الثقافية العالية. فإذا ما تجاوزته مسرعا طامعاً بالمزيد، فتواصل الصعود قاصداً مدخل الهضبة، فسيفاجئك معمار البوابة الفخم المسمى بالبروبيليا Propylaea، الذي اكتمل بناؤه في عام 432 ق.م. قبل اندلاع الحروب البلوبونيزية بعام واحد. على يمين المدخل يقع معبد صغير هو معبد أثينا نايك  Temple Of Athena Nike، وتعني Nike في اليونانية النصر، إذ يخلد هذا المعبد ذكرى انتصار الأثينيين على الفرس، وتدخل منه مباشرة إلى الأكروبوليس، فتشاهد البناء الرئيس في الهضبة؛ معبد الربة أثينا البارثينون Parthenon، الذي بناه بيركليز في القرن الخامس قبل الميلاد، وأشرف على منحوتاته النحَّات الإغريقي الشهير فيدياس. كان المعبد يتعرض لأعمال ترميم وقت زيارتنا له، لكن ذلك لم يمنع الزوار من التمتع بالنظر إلى تفاصيله البديعة.
يذكر أن هذا المعبد قد تعرض في تاريخه إلى تحولات عديدة، فقد تحول في فترة تاريخية إلى كنيسة، كما تحول إلى مسجد إبان سيطرة العثمانيين.
وهناك معبد أرخثيون الذي يقع على مكان مقدس من الهضبة، وهنا كان الصراع على أوجه بين الربة أثينا والإله بوسيدون على رعاية المدينة، وكانت أثينا في النهاية هي الراعية كما ذكرنا سابقاً. يتميز هذا المعبد بأعمدته التي نُحتت على هيئة سيدات يتمتعن بالرشاقة والجمال، ويمثل قمة في الجمال المعماري.
إن قمة الهضبة توفر للناظر صوراً بانورامية لمختلف أجزاء المدينة، فهنا أسطح القرميد تغطي المنازل في حي بلاكا، وهناك الطريق الذي يوصلك إلى قوس هارديان وبجانبه تلك الأعمدة المنتصبة والممددة في أطلال معبد الإله زيوس كبير آلهة الأولمب وقريب منها الملعب الأولمبي. 
نزلنا من الهضبة بعد أن قضينا فيها بضع ساعات منبهرين ومتأملين، واتجهنا نحو مسرح ديونيسيوس، وهو أحد أقدم المسارح في أوربا وتعود تسميته إلى الإله ديونيسيوس، وعليه كان يقام مهرجان يتنافس فيه أعظم المسرحيين الإغريق من تراجيديا سوفوكليس إلى كوميديا أريستوفان.
واصلنا المسير حتى وصلنا إلى مبنى شُيِّد على طراز العمارة الحديثة، إنه متحف الأكروبوليس، الذي يزوره أربعة آلاف زائر يوميا. صمم المتحف بطريقة تحافظ على الكنوز الأثرية في المنطقة، فرفع عن سطح الأرض بأعمدة خرسانية، وفي طابقه الأرضي كانت الأرضيات الزجاجية تتيح للزائر النظر إلى الموقع الأثري الذي شُيد عليه المتحف، كما أن جدران المبنى الزجاجية تمنحك فرصة النظر إلى معالم المدينة، خصوصا في الطابق العلوي الذي يضم مقهى يبيع المأكولات اليونانية الخفيفة، ومحلاً لبيع الكتب والتذكارات، أما عن مقتنيات المتحف الذي افتتح في عام 2009م، فيضم منحوتات نفيسة تم العثور عليها في الأكروبوليس، وخصص فيه مكان خاص لعرض تماثيل البارثينون. 

حي بلاكا
مع انتهاء جولتنا في متحف الأكروبوليس قضينا ما تبقى من ساعات هذا اليوم في حي بلاكا، إذ لم تكن تفصلنا عن الحي العامر سوى خطوات قليلة. تتزيا بلاكا بمعمار جميل يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما جاء مجموعة من البناة المهرة من إحدى الجزر لتشييد قصر للملك أوتو Otto ولبناء منازل لأثرياء المدينة، وكانوا يقومون ببناء منازل متواضعة ليسكنوها هم وأسرهم، وكانت النتيجة هذه الصورة الفسيفسائية الرائعة للحي المطلّ على الأكروبوليس. في أزقة بلاكا ينتشر الورد والأزهار في كل مكان مع نماذج من العمارة ذات الطابع الكلاسيكي الأنيق. تناول وجبة العشاء في أحد المطاعم أو المقاهي في حي بلاكا تجربة جميلة لا تنسى، كما يمكنك شراء صابون زيت الزيتون أو إحدى منحوتات مشاهير أثينا القديمة، سقراط، أفلاطون: بيركليز، أو هيرودوت إن شئت، أو أن تتحصن من أعين العائنين بتلك العيون الزرق التي تباع بكثرة هنا لدفع الحسد، وإن أردت فهناك البومة المقدسة التي تمجدها الأساطير اليونانية وترمز بها إلى الحكمة.
وفي طريق عودتنا إلى الفندق كنّا نتأمل الجدران الأثينية، فهناك أمر لا تخطئه عين ناظر في أثينا، ألا وهو فن الغرافيتي. والغرافيتي هو سيد الموقف في الجدران القديمة، وفعلاً فاجأنا الكم الهائل من الرسومات والخربشات التي تغطي حوائط المدينة، وتعبر عن مكنونات شباب أثينا وآماله.

معبد دلفي 
لم يتبق لنا كثير من الوقت في هذه الرحلة، وحرصا على استغلاله استغلالاً صائباً، طلبنا رأي المرشدين السياحيين عن أفضل موقع تاريخي نزوره في اليونان بعد الأكروبوليس، فأرشدونا إلى معبد الإله أبوللون ويدعى معبد دلفي، الواقع في مدينة دلفي التي ترتفع 750 مترا فوق سطح مياه خليج كورنثياس، على بعد مسافة تزيد على 250 كيلومترا شمال غربي العاصمة أثينا. وتستغرق المسافة ساعتين ونصف الساعة في الحافلة السياحية، إذ يقع المعبد في أعلى جبال دلفي. وأخبرنا المرشدون السياحيون أن قدماء اليونان كانوا يعتقدون بأن دلفي هي مركز الأرض، ما أضفى عليها هالة من القداسة. فقررنا زيارة المعبد، وقضينا الساعتين اللتين استغرقتهما الرحلة بالتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة على وقع تقاسيم جميلة للراحل الكبير رياض السنباطي، من تقاسيم الكرد إلى الحجاز كار إلى عزف وغناء لرائعته الأطلال، سريعاً مرّ الوقت، فتوقفت بِنَا الحافلة قبل الوصول إلى المعبد بقليل في مقهى على ربوة بديعة لارتشاف القهوة، ومررنا في طريقنا على قرية صغيرة تشرف من علوٍ على منحدرات جبل بارناسوس تدعى أراخوفا، ولا تبعد سوى بضع كيلومترات عن منطقة الآثار، وتتميز بيوتها بمعمار بسيط وأنيق، وتتمتع بإطلالات رائعة على تضاريس المكان من جبال وأودية خضراء اللون.
دلفنا إلى المعبد، وأخذنا نتأمل موجوداته التي تتضمن الهيكل الرئيس لأَبولو ابن كبير الآلهة زيوس، وإله الشمس والموسيقى كما تذكر الميثولوجيا الإغريقية، ومدرجاً للأَلعاب الرياضية ومسرحاً واسعاً رحباً، كما يحتوي المعبد على عديد من الأبنية والنُّصب التذكارية. أصوات غوالق الكاميرات تعم المكان، محاولة تأبيد اللحظات في هذا الأثر العظيم بإطلالاته الملهمة وغزارته التاريخية التي تملأ القلب سكينة مجهولة. وكانت تلك العبارة التي نقشت على هذا المعبد (اعرف نفسك) قد ألهمت الفلاسفة والشعراء منذ قديم، وتمثلها سقراط في حياته وماتزال تلهم كل زائر.
وبقرب المعبد، الذي وصفت عرافته سقراط بأحكم الأثينيين كما أسلفنا، هناك متحف يضم كنوزا ونفائس لا تملّ العين رؤيتها وتفحصها لتعميق معرفتك بهذا المخلوق العجيب الذي يدعى إنساناً، فتعرف بذلك نفسك أكثر فأكثر، فالمعرفة هي بلا شك فضيلة.

المتحف الوطني
شارفت رحلتنا على الانتهاء، وقضينا اليوم الأخير في أثينا، في زيارة متحف الآثار الوطني، درة المتاحف اليونانية، ومن أهم المتاحف على مستوى العالم، نظرا لما يحتويه من مقتنيات لا مثيل لها في أي بلد آخر، ومنها القطع الأثرية المتنوعة المأخوذة من مواقع أثرية من مختلف أنحاء اليونان، من عصور ما قبل التاريخ إلى أواخر العصر القديم. يقع المتحف في حي إكزاركيا وسط العاصمة اليونانية. وتتعدد معارض المتحف وتنقسم إلى مجاميع، منها مجموعة آثار ما قبل التاريخ كالعصر الحجري الحديث على سبيل المثال، ومجموعة المنحوتات، ومجموعة المزهريات والمحتويات الصغيرة، ومجموعة المسبوكات، ومجموعة الفن المصري، وغيرها.
لا يفوتك هنا أن تلقي نظرة على قناع أجاممنون الشهير، وأجاممنون هذا، وفق إلياذة هوميروس، هو الذي قاد حملة لاستعادة هيلين زوجة الملك مينلاوس من طروادة التي هربت إليها مع بارس. 
ختاماً، ووفق أفلاطون فإن أثينا مدينة تستحق المديح، يقول أفلاطون على لسان سقراط: «إن مدينتنا تستحق المديح، ليس منَّا فقط بل من جميع أفراد البشر» (محاورة منكسينوس أو في الخطابة)... وهي بالفعل كذلك .

ساحة سينتاجما العامرة

سوق أثينا وضجيجه

معبد هيفايستوس