في ذكرى مرور 90 عاماً على ميلاده د. حسين نصار: علينا أن نستعين بتراثنا المنتمي لعصور القوة

في ذكرى مرور 90 عاماً على ميلاده د. حسين نصار: علينا أن نستعين بتراثنا المنتمي لعصور القوة

يعد د. حسين نصار من الأعلام الأجلاء الذين أثروا حياتنا الأدبية، تعدد نشاطه بين تاريخ الأدب ونقده وتحقيق التراث والعمل الأكاديمي وبرع في كل هذا وذاك، وترك بصمة عظيمة في كل هذه المجالات في زمن ندرت فيه القدوة الحقيقية التي ترشدنا سواء السبيل والانشغال بأمور ثانوية والتركيز عليها، فكان لزاماً الهروع إليه، نسترجع معه الذكريات ونقارن بين عصر وعصر، نستخلص العبر والاستفادة من تجربته في حياتنا المعاصرة.

ساهم حسين نصار في نشر العديد من أمهات كتب التراث العربي الأصيل التي سدت الثغرات في هذا المجال، منها ديوان ابن الرومي وديوان سارقة البارقي وديوان ظافر الحداد وغيرها من الكنوز، كما جمع العديد من دواوين الشعراء وكتب مقدمات لها، وترجم كذلك بعض الكتب التي سدت ثغرة كانت موجودة بالمكتبة العربية. بدأ اهتمامه بالترجمة من نقطة اهتمامه باللغة العربية، وهذا يتجلى واضحاً في ترجمته مؤلفات لكبار المستشرقين، ليقدمها لقراء العالم العربي، من أجل أن تفتح أمامهم آفاقاً جديدة في مواطن الدراسة العربية، وظهرت مهارته في ترجمة كتاب «المغازي الأولى» للمستشرق يوسف هورفتس عام 1949م، و«دراسات عن المؤرخين العرب» للمستشرق مرجليوث، ومقدمة المستشرق تشارلز ليال الذي قدم تحقيقه لديوان عبيد بن الأبرص، و«أرض السحرة» لبرنارد لويس، و«ابن الرومي... حياته وشعره» للمستشرق روفون جت، وكان حسين نصار يرجع إلى المصادر العربية المطبوعة والمخطوطة التي يترجمها المستشرقون إلى الإنجليزية من مصادرها العربية.
    لم يترجم كتب الأدب فقط، بل تجاوزها إلى ترجمة كتب عدة في الموسيقى العربية ألفها الأيرلندي جورج فارمر (ت 1965م)، 
 هي: «تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر»، و«الموسيقى والغناء في ألف ليلة وليلة»، و«مصادر الموسيقى العربية».
في أول زيارة قمت بها لأستاذنا د. الطاهر أحمد مكي، أخطأت العنوان، وطرقت على باب د.حسين نصار، ففتح لي ابنه قائلاً: هذه شقة د.حسين نصار، وأشار إلى اللافتة الدقيقة المعلقة بجانب الباب، وأرشدني إلى الشقة المقابلة التي هي لأستاذنا د. الطاهر مكي (حيث يسكنان في دور واحد بعمارة أعضاء هيئة التدريس)، ورجوته أن أقابل د. حسين، فقال لي ريثما تنهي لقاءك مع الدكتور الطاهر لأنه نائم الآن، وعدت إليه، بعد أن أجريت حواري مع الدكتور الطاهر مكي، وجاء إليَّ في شموخه وصوته الرفيع وأنا دهش بلقائه، لأنني سمعت عنه الكثير وتهيب الناس من الاقتراب منه، وضرب لي ميعاداً بعد يومين وخرجت من عنده، وأنا قلق ماذا أقول له؟ فذهبت إلى صديقي الشاعر سعد عبدالرحمن (رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة)، فعدد لي نقاطاً وقضايا وملامح عن شخصيته وعائلته، لأنه من بلدته أسيوط مسقط رأسه، وقال لي إنه ينتمي لعائلة نصار الشهيرة التي أنجبت العديد من الأعلام، وعلى رأسهم شيخ القضاة المستشار الجليل ممتاز نصار. وفي الميعاد ذهبت متهيباً لقاءه، فتبسط الرجل معي، وكان حديثاً من القلب عرج فيه على محطات عدة في حياته الثرية المتخمة بجلائل الأعمال. والحقيقة أنني التقيته على فترات متعددة ورصدت معه تجربته في مجال الأدب وفنونه على مدار أكثر من ستة عقود هي رحلته التي أثمرت الكتب وتلاميذه الذين تخرجوا على يديه وينتشرون في الجامعات المصرية والعربية.   
تناقشنا في أمور عدة تخص المشهد الثقافي في مصر والعالم العربي، وكان من ثمرة هذه اللقاءات هذا الحوار:
< نشأ الدكتور حسين نصار في مجتمع صعيدي أصيل، له ظروفه وتقاليده، فما  تأثير النشأة على الاهتمام بالأدب وتاريخه؟
  - نشأت في مدينة أسيوط، والتحقت بالمدرسة الابتدائية فيها، ثم التحقت بمدرستها الثانوية، وأعتقد أن مدرس اللغة العربية في السنة الثالثة الابتدائية  كان له أثر كبير في حياتي، فهو الذي حببني وزملائي في اللغة العربية وآدابها، وحببنا أيضاً في القراءة، ثم التقيت بمجموعة أساتذة اللغة العربية في المدرسة الثانوية بأسيوط، وكان منهم المحقق الكبير محمد أبوالفضل إبراهيم، كنت بالقسم العلمي والتحقت بطب الإسكندرية، جامعة فاروق الأول، كان ذلك إبان الحرب العالمية الثانية, وفي تلك الفترة كانت الإسكندرية عرضة للغارات الألمانية، فخافت علي أسرتي، حيث كنت الابن الوحيد لهم، فعدت إلى القاهرة، والتحقت بكلية الآداب، خاصة أنني حين كنت في «التوجيهية» دخلت المسابقة التي ابتكرها عميد الأدب العربي أستاذنا الدكتور طه حسين، ومن ينجح فيها كان يتمتع بالمجانية في الجامعة إذا التحق بها، وكان هذا النظام يعطي للطالب الحق في اختيار أي مادة من المواد، فاخترت اللغة العربية.

في كلية الآداب
< من هم أساتذتك الذين أثروا في مسيرة حياتك العلمية، ومازلت على الوفاء لذكراهم؟ 
- سبق أن قلنا إن أستاذنا المحقق محمد أبوالفضل إبراهيم كان يدّرس لي مادة اللغة العربية في المرحلة الثانوية، وهو الذي حببني فيها، وعندما التحقت بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، كانت تعج بكوكبة من الأساتذة الأجلاء في كل التخصصات أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وإبراهيم مصطفى، وشوقي ضيف، وفؤاد حسنين، ومحمود الخضيري، ومراد كامل، وعبدالوهاب عزام، وعلي عبدالواحد وافي، ومحمد كامل حسين، وأمين الخولي، ولعله كان أبرز مؤثر في قسم اللغة العربية الذي كان يثير أذهان الطلاب, وكان يحب المناقشة والجدل, لذا كان لافتاً للنظر أكثر من غيره, وثاني شخصية تأثرت بها هو الأستاذ مصطفى السقا، وربما أكون أقرب في طباعي وممارساتي وحياتي إليه، الذي اشتغلت معه الماجستير والدكتوراه، والذي أكاد أقول إنه تبناني، ويتميز هذا الأستاذ بأنه هادئ الطباع, يكره المشكلات، فإذا وجد فريقين ابتعد عنهما معاً ما استطاع، وهو منظم في حياته عطوف, وقته كله للقراءة والدراسة والعمل.. محب لتحقيق المخطوطات، وكل هذا جعلني أتأثر به عندما عرفته وكان يأخذني معه في أي مكان يذهب إليه، ولا يحتجب عني، سواء ذهبت إليه ليلاً أو نهاراً, حتى وهو مريض كان يبقى معي حسبما أريد, ومكتبته مفتوحة لي، وقبل وفاته أوصى أبناءه بأن آخذ ما أريد من المكتبة, ثم إذا أرادوا أن يبيعوا منها ما يشاءون فليفعلوا، وقد تطبعت بكثير من صفات الأستاذ مصطفى السقا، فأنا أعتقد أن النظام هو طابعي الذي لا أتنازل عنه على الإطلاق, وحياتي مرتبة تماماً وكذلك عملي مرتب، ووقتي كله مخصص للعمل من قراءة وكتابة واستفادة وتردد على المكتبات المختلفة، خصوصاً دار الكتب، فقد كان الأستاذ مصطفى السقا يفعل هذا كله، وأنا مثله أيضاً في حب العمل في المخطوطات، وفي كلية الآداب صاحبت فيها كوكبة من الأصدقاء الذين صاروا نجوماً وعلى رأسهم: عبدالحميد يونس، وشكري محمد عياد، ولطفي عبدالبديع، ويوسف خليف، وآمال فهمي، وناصر الدين الأسد، وإحسان عباس، وشاكر الفحام، وعزالدين إسماعيل، ونعمان طه، وعواطف البدري.

 في الإذاعة المصرية 
  ويواصل د. نصار سارداً محطة مهمة في حياته وهي عمله بالإذاعة المصرية: «بعد التخرج عينت مذيعاً بالإذاعة المصرية، وكان عبدالوهاب يوسف رئيس قسم المذيعين، وعلي الراعي كبير المذيعين، وأنور المشري المذيع الأول، ومعي زملائي: صفية المهندس، وتماضر توفيق، وعواطف البدري... في تلك الأثناء حصلت على الماجستير في موضوع «نشأة الكتابة في الأدب العربي»، بإشراف الأستاذ الكبير مصطفى السقا الذي شملني برعايته وأرشدني إلى أقوم طريق... بعدها انتقلت للعمل في كلية الآداب معيداً، حيث لم يكن نظام المدرس المساعد قد وجد بعد، وحصلت على الدكتوراه في موضوع «المعجم العربي – نشأته وتطوره» بإشراف الأستاذ السقا أيضاً، وهذا الموضوع لم يسبقني فيه أحد من قبل، وأفاد كل المشتغلين به من بعد، وفي هذه الأثناء جاء مصر المحقق السعودي الكبير أحمد عبدالغفور عطار للبحث والتحقيق ونشر العديد من كتب التراث المهمة برعاية ودعم مالي من رجل الأعمال السعودي حسن شربتلي، وكان أن أعجب بموضوع الدكتوراه فنشره في مشروعه وأفاد أيضاً منها عندما حقق «معجم الصحاح» للجوهري.
< تنوع إنتاجك بين مجالات شتى في العلوم الإنسانية, على سبيل المثال تحقيق التراث, والدراسات اللغوية والدراسات الأدبية والتاريخ والترجمة والموسيقى... هل كان لك هدف من هذا التنوع وعدم الاقتصار على مجال واحد؟
- منذ أن فكرت في أن أكون كاتباً كانت هناك خطة بالنسبة لي.. فعندما كنت طالباً كان لابد في الصيف من قراءة كتاب شرح ابن عقيل في النحو العربي كله, ثم لابد أن أترجم فصلاً أو جزءاً من كتاب من اللغة الإنجليزية، فعلت هذا في العطلات الثلاث. وفي الخطة التي بعد ذلك قررت أن أبدأ حياتي بالترجمة، لأنني ظننت -وهو ظن صحيح - أن البدء بالتأليف وليست لدي الثقافة الواسعة إلا الثقافة الجامعية فقط أو بعض القراءات التي تردفها عبثاً, ومن هنا فكرت في أن أبدأ بالترجمة. وبحكم تلمذتي على يد الأستاذ مصطفى السقا انفتح أمامي أيضاً باب التحقيق فاشتغلت بالتحقيق والترجمة مدة, وانتقلت من هذا إلى كتابة المقالات في مجلات مختلفة بمصر ولبنان, ثم التأليف، وأنا أعتقد أن التأليف يحتاج إلى ثقافة أوسع مما تحتاج إليه الترجمة أو التحقيق. وبعد ذلك بفترة رأيت أن التحقيق يحتاج إلى أن يكون المحقق ملماً بالثقافة العربية كلها باتجاهاتها جميعاً.. أيضاً أنا محب لفلسفة التاريخ لا للتاريخ المحض، أما الموسيقى والأدب فقد كانا في فترة كنت فيها أحد العاملين في الإذاعة المصرية، حيث عملت مذيعاً ثم مقدماً للبرامج, وكنت قبلها أتصور أنني سأعين معيداً في الجامعة بمجرد تخرجي, لكنني لم أُعين, وعملت في الإذاعة سنتين راضياً بالواقع الذي صرت فيه، على أن أبدأ في استثماره فاستثمرته في الأدب والموسيقى, خاصة أنني كنت محباً للموسيقى منذ المرحلة الثانوية.
< مرحلة تحقيق التراث أساسية ومهمة في حياتك، ما هي الظروف التي جعلتك تنازل في هذا الميدان؟
 - عندما كنت طالباً بالكلية، وجدت أساتذتي أمثال: مصطفى السقا، وشوقي ضيف يرددان كلمة التحقيق كثيرًا، ثم عرضا علينا أموراً تتصل بالتحقيق، وعندما كنت أذهب إلى دار الكتب كنت أجدهما يعملان بالمخــــطوطـــات، وكنت أتصل بهما وأعرف ماذا يفعلان، منذ ذلك الوقت اتصلت بالأستاذ السقا (أبي الروحي) - كما ذكرت سلفاً- أنهل من علمه وأستفيد من طريقته حتى توفي في 1969م، بل اخترته مشرفاً على رسالتي للماجستير والدكتوراه – كما أسلفنا – وإن كانتا لا تمتان للتحقيق بصلة، وكان أول ما حققته هو «ديوان سارقة البارقي»، وهو شاعر من العصر الأموي، وكنت ماأزال طالباً، ثـــم عــــدت للتحقيق ثانـــية بعد أن التحقــــت بالعمــــل في الجامعة، وأخرجت الأعمال الكبيرة والضخمة منها «ديوان ابن الرومي» في ستة مجلدات، اشترك معي فيها محققــــون من مركــــز تحقيق التراث بدار الكتب، وكانت آنذاك تقع ببـــــاب الخلق، وتوالت الأعمال، منها «معجم أحمد تيمور» في ستة مجلدات، وجمعت وحققت دواوين «جميــــل بثيـــنة»، و«قيس بن ذريح»، و«ابن وكيع التنـــيسي»، و«ديوان ظافر الحداد»، وغيرها.

< مشكلات ومواقف قابلتها في تحقيقك لكتب التراث؟
- المواقف كثيرة، وسأذكر منها ما قابلته في تحقيقي لديوان ظافر الحداد الشاعر السكندري المتوفى سنة 528هـ، فالمعلومات عنه شحيحة، ولا توجد نسخة من الديوان في دار الكتب أو معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، أو مكتبة جامعة القاهرة، أو المكتبة الأزهرية، أو مكتبة جامعة الإسكندرية، أو مكان آخر، بالرغم من أن ظافر الحداد عاش في مصر ولم يغادرها إلى أي بلد آخر. 
كان يعيش في الإسكندرية ولم يغادرها إلا إلى القاهرة فقط ثم يعود إليها، ولم أجد من أشعاره غير بيتين في أحد كتب المقريزي، وعلمت أن هناك ثلاث نسخ من الديوان في بغداد والمغرب وألمانيا، ونسخت الديوان خلال زيارتي لبغداد، ومردُّ هذا إلى صلاح الدين الأيوبي الذي قضى على الدولة الفاطمية وآثارها بحجة القضاء على المذهب الشيعي بمصر، لذا أغلق الأزهر وتخلص من المكتبات الفاطمية، ولم يكن الفاطميون أقل عناية بالكتب واقتنائها، وبخاصّة النادر منها في كلّ فنٍّ وعلمٍ، وكثيرًا ما كانوا يحرصون على اقتناء نُسخٍ من مختلف الكتب بخطّ مؤلّفيها، يدفعون في سبيل ذلك أغلى الأثمان، مبالغةً في التحقيق والتدقيق، فضلاً عن تنسيق تلك الكتب وتبويبها والمحافظة عليها وفقَ نظام دقيق، تيسيرًا للرجوع إليها والاغتراف من مناهلها، وسأضرب لك الأمثلة، فحين تولّى الخليفة الفاطميّ العزيز بالله الخلافةَ عام 365هـ استوزر يعقوب بن كلس، وكان محبًا للكتب، كلفًا بها، فأنشأ مكتبةً ضخمةً عُرفت باسم «خزانة الكتب» بذل أموالاً طائلة لتغذيتها بالمؤلّفات النادرة والمهمّة في التاريخ والأدب والفقه... وكان فيها أكثر من ثلاثين نسخة من كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، منها نسخة بخطّ يده، وعشرون نسخة من كتاب الطبريّ، ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد، وقد أورثَ العزيز بالله ابنه الحاكم بأمر الله (386هـ- 411هـ) حبَّ الكتب، فأنشأ «دار العلم» أو «دار الحكمة»، أقام بها القرّاء وأصحاب اللغة والنحو والأدب والطّب وأجرى لهم الأرزاق، وأباحَ الدخول إليها لسائر الناس، وجعل فيها ما يحتاجون إليه من الورق والأقلام والحبر. وقد وصل عدد الكتب فيها إلى ما يقارب المائة ألف كتاب.
وكان عدد نُسخ المكتبة الفاطميّة يزداد بمرور الأيّام والأعوام، حتى بلغ عدد النسخ من كتاب «تاريخ الطبري» عند استيلاء صلاح الدين الأيوبيّ على مصر 1200 نسخة، وكان فيها 2400 ختمة قرآن بخطوطٍ محلاة بالذّهب، فلا عجبَ في أن يقول المقريزيّ إنّه كان فيها أكثر من مليونٍ وستّمائةِ ألفِ كتاب في الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ والنجامة والروحانيات والكيمياء، ومنها ثمانية عشر ألف كتاب في العلوم القديمة، وفيها ستّةُ آلافٍ وخمسُمائة جزءٍ من كتب النجوم والهندسة والفلسفة والفلك، وهذا يعني أن عددَ الكتب في الخزانة التي أنشأها العزيز بالله الفاطمي منذ تأسيسها (365هـ) إلى أن استولى صلاح الدين على الإرث الفاطمي في مصر (567هـ) قد زاد بما يقارب الستين ضعفًا، وقستُ ذلك على زيادة نسخ كتاب الطبري، فقد كانت عند تأسيس الخزانة عشرين نسخة، وبلغت 1200 نسخة عند استيلاء صلاح الدين على مصر. وهذا هو سبب معاناة الباحثين في تاريخ وأدب مصر الإسلامية، فهناك مئات الكتب مفقودة نجد نقولاً منها في كتب المتأخرين مثل المقريزي، والنويري، والسيوطي.
< وماذا عن جهود المستشرقين... هل أفادوا في تحقيق التراث؟
  -  أفادوا في مناهج تحقيق التراث على النمـــط الحديـــــث، وهـــم في الأســــاس يعملـــــون لبني أوطانـــهم وبني جلداتهــــم، ولن يعرضوا حلولاً إسلامية، ومن يتوقع آراءً إسلامية يكن مخطئاً، وقد يكون منهم المنصف ومنهم المُغرض.
< لماذا تراجع نشاط تحقيق التراث في مصر الآن؟
- كما أسلفنا المجتمع تغير وتغير كذلك المستوى الثقافي له، حيث إن المجتمع لا ينظر إلى الثقافة باعتبارها المقوم الأول لوجوده ومكانته، وبفقد الوعي انحطت هذه الثقافة، وإني أعجب من طــــبع جانب من هذا التراث وإهمال جوانب أخرى، وكذلك إعادة الكتب المحققة من قبل برغم التقدم التكنولوجي الرهيب عما ذي قبل، وقد وصل منهج تحقيق التراث للذروة بوجود طائفة من أعلام المحققين طبقوا هذا المنهج في أعمالهم والقائمة طويلة، وكان من المؤمل أن تزيد الأعداد، ولكن الآن هناك عزوفاً شبه تام عن استخدام هذا المنهج، ودخل المجال المدعون الذين يتسرعون في نشر الأعمال المحققة من دون تقديم الجديد الذي يستدرك على المطبوع. 
ويستلزم ذلك أن يتسلح المحقق بأدواته، وهذه الأدوات أن تكون لديه طباع خاصة، وأمانة خاصة، وقدرة على قراءة المخطوط قراءة صحيحة، لأن كلمة تحقيق تعني القدرة على قراءة المخطوط، وما يفعل بعد ذلك من تعليقات وشروح وفهارس فنية هي فقط  تحليات وزوائد... المهم أن يخرج المتن سليماً من السقم.
  ويحضرني في هذه المناسبة موقف طريف هو أن أستاذاً للتاريخ الحديث والمعاصر تساءل من قبل: لماذا تهتمون بالتحقيق؟! أتريدون العمل بوزارة الداخلية؟! وهناك شيء جدير بالذكر هو تراجع دور مصر، الذي كان يوجه الدول العربية في الماضي، هذا الدور الذي صنع النهضة في مصر والعالم العربي.
<  هناك من ينادي بضرورة القطيعة مع التراث, بدعوى أنه يعيق التقدم.. فهل يسد التراث الطريق أمام التقدم؟
- التراث أنواع وليس واحداً، فهناك تراث أنتجته عصور الضعف، وهناك تراث أنتجته عصور القوة والازدهار، ويجب أن نــفرق بين أنواع يمكن أن تكون قيوداً على تقدمنا وأنواع يمكن أن تكون رافداً, بل حافزاً للتقدم. والأمر يعتمد على المجتمع الذي يواجه التراث، فالمجتمع الضعيف يخضع للتراث مهما كان هذا التراث تراث قوة أو ضعف. وإذا لم يكن لدى المجتمع طموح أو قدرات معينة، فإنه إن لم يخضع للتراث القديم فسيخضع للجــــهل والــــفوضى, أو يخضع لتراث أمم أخرى, لكن إذا كان مجتمعاً قوياً طموحاً يريد المستقبل فلن يعيقه شيء. 
الشيء نفسه يقال للذين ينغلقون على ذواتهم ويطالبون بالقطيعة مع الواقع والعصر، لأنه لا يمكن أن نعيش كما كان يعيش الجاهليون أو المسلمون الأُول, أو أبناء القرون الثاني أو الثالث أو الرابع, لأن الحياة تغيرت, والعلوم تغيرت, والمجتمع تغير. لم تكن هناك سيارة أو أدوات للهندسة والجغرافيا أو صواريخ, وكل هذه تحتاج من الإنسان إلى قدرات علمية معينة ليشتغل بها ويصلحها, ثم تحتاج إلى قدرات فكرية معينة ليستطيع أن يعمل بها أو ينتجها إن كان هناك طموح أكثر، أو يبتكرها لأنه لا يمكن الخضوع للمجتمع الغربي على طول الخط. إذ لابد أن نعيش قرننا وإلا فإننا سنذبل ونموت مثل أي شيء لا يعيش في عصره.
< ساهمت في إبراز دور مصر الأدبي والثقافي في العصور الإسلامية... ما العوامل التي جعلتك تبرز هذا الدور؟
  - كما ذكرت أن رسالة الماجستير كانت في الأدب العربي، وعملت بتاريخ الأدب العربي  عامة، فكل شاعر نشرت ديوانه، كنت أضع مقدمة شاملة لدراسة عصره وآثاره وشعره، وكان من هؤلاء الشعراء «ابن وكيع التنيسي»، ولما توفي أستاذي الدكتور محمد كامل حسين، وهو غير الأديب وأستاذ الطب محمد كامل حسين، صاحب «قرية ظالمة»، قمت بتدريس أدب مصر الإسلامية خلفاً له، فعملت العديد من الدراسات في هذا المجال إلى أن شغلت درجة «أستاذ كرسي» سنة 1969م، وحققت كتباً تتصل بمصر وآدابها، مثل «النجوم الزاهرة في حلي حضرة القاهرة» لابن سعيد الأندلسي، و«ديوان ظافر الحداد».
جدير بالذكر أن الأستـــاذ أمين الخولي كان أول من تبنى ونادى بتدريس أدب مصر الإسلامية، وإن لم يكن له أي آثارحول هذا الموضوع، تبعه في ذلك محمد كامل حسين وعبداللطيف حمزة، فلهم الآثــــار الجليلة القدر. 
   ويواصل د. حسين نصار سرد تجربته: «عملت رئيساً لقسم اللغة العربية عام 1972م وفي سنة 1975م اختارني د. محمد صبحي عبدالحكيم عميد كلية الآداب، وكيلاً لكلية الآداب للدراسات العليا والبحوث، والدكتور صبحي من الدفعات التالية لي في التخرج هو وجمال حمدان، وسيد يعقوب بكر، وصلاح الدين الشامي، وهناك واقعة ظريفة جديرة بالذكر، وهي أننا جميعاً حصلنا على الدكتوراه في عام واحد، وظللنا معيدين بها، ولم يعلن العميد عن درجات شاغرة حتى تولى العمادة الأستاذ الدكتور يحيى الخشاب، وأصدر قراراً بتعييننا جميعاً، ولما اختير د. صبحي نائباً لرئيس جامعة القاهرة انتخبني زملائي عميداً للكلية.
  < عايشت أجيالاً في أثناء عملك بكلية الآداب، لماذا تدنى مستوى خريج الآداب اليوم وصار لا يهتم بالأدب وشؤونه عما ذي قبل؟
 - كان التعليم في الماضي تعليماً جاداً، المدرسون يعشقون التدريس ويناقشون الطلبة في كل أنماط الثقافة، ويكرمون المميزين منهم، وكانوا يتبرعون بساعات إضافية لتنمية مستوياتهـــم ومناقـــــشة موضوعات الإنشاء لديهم، من دون النظر إلى المقابــــل المادي، فمثلاً عندما كنا في المرحلة الثانوية كــــان المدرس يــــأتي إلينا قبل بدء اليوم الدراسي بساعة لمناقشة إنشاء كل واحد منا، أما اليوم فقد تغيرت الحال، صارت اللامبالاة هي السمة الغالبة في كل مجال، الكل يبحث عن المقابل المادي من دون عطاء، نقل التعليم إلى المنازل عبر الدروس الخصوصية التي انتشرت انتشاراً بشعاً، وطرق التدريس تغيرت، وصارت لا تبحث عن أي إبداع، ونصيحتي تتلخص في الاهتمام بالمعلم أولاً وإرجاع الثــــقة له، وتقديره مالياً ومعنوياً، حتى لا يبحث عن بديل يهــــدد مكانــته.
   أما بالنسبة إلى طالب الآداب، فيجب عمل امتحان له قبل دخوله الجامعة كما كان يتم قديماً، وتنمية الإبداع بداخله واحترام رأيه، وتقريب المسافة بين الأستاذ والطالب، كل ذلك من الممكن أن يعيد مجد طالب الآداب كما كان في الماضي.
 
في أكاديمية الفنون 
< عملت بالإذاعة ثم بالتدريس في الجامعة، ثم في مجال تحقيق التراث، وعميداً لكلية الآداب وأخيراً رئيساً لأكاديمية الفنون، ألا يعد ذلك مفارقة؟
 - تشعبت بالعمل في مجـــالات مختلفة، وكان في بعض الأحـــــيان لا توجد روابط بين تلك المجالات، أما تعييني رئيساً لأكاديمية الفنون فقد جاء بالمصادفة، حيث إنني قمت  في أثناء عملي عميداً لكلية الآداب بتنظيم احتفالية عن طه حسين اشتملت على دراسات أدبية ونقدية وقصائد شعر ومسرحية ألفها الثنائي الكبير محمد عناني وسمير سرحان عن أزمة كتاب الشعر الجاهلي، وقدمت الأبحاث والأشعار بالكلية، أما المسرحية فعرضـــــت بالمســــرح القومي بحضور منصور حسن وزير الثقافة والإعلام، ويبدو أنه أعجب بالليلة وبالتنظيم الذي قمت به، ففكر في أن ينتدبني رئيساً لأكاديمية الفنون، وخاصة أن فترة الأستاذ الدكتور رشاد رشدي كانت قد قاربت على الانتهاء، وفعلاً طلبني وعرض عليَّ الأمر، فقبلت وفي أثناء عملي بالأكاديمية وضعت قانوناً لهم وافق عليه مجلس الشعب شبيهاً بقانون الجامعة.
<  كيف يحيا الدكتور حسين نصار حياته الآن؟
 أحيا بين كتبي وأبحاثي، كما أنني مقرر لجنة الدراسات اللغوية والأدبية بالمجلس القومي للثقافة والفنون والآداب والإعلام، ومستشار رئيس دار الكتب عن مركز تحقيق التراث، وعضو في المجلس الأعلى للثقافة، وعضو اتحاد الكتاب.
 < وماذا عن التكريم؟
- خلال رحلتي حصلت على تكريمات من مصر والدول العربية، أهمها:
 جائزة الدولة التقديرية في الآداب 1986م، وجائزة الملك فيصل العالمية في الآداب 2004م وجائزة الرئيس مبارك في الآداب 2006م، لكن التكريم الأهم هو زيارة زملائي لي، وكذلك زيارة أبنائي من الطلاب والأصدقاء.
< للدكتور حسين نصار العديد من التلاميذ المنتشرين في مصر والجامعات المصرية، ماذا عنهم؟
  هم كثر جداً، ولكنني أذكر بعضــــهم وأشهــرهم: وفاء كامل عضو مجمع اللغة العربية، وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب، وعوض الغباري من جامعة القاهرة، وعبدالخالق محمود - رحمه الله - من جامعة المنيا، ومحمود الربداوي من سورية، وفهـــد سنبل من السعودية... أما عن الأســــرة فلــــي ولـــدان: الأول هو الدكتور أيمن (أســــتاذ في طب بنها)، والثاني الدكتور ياسر (أستاذ في طب قصر العيني) .