محمد أركون والتراث

محمد أركون والتراث

«أنا صوت يرتفع من داخل الإسلام لكي يقول إن هناك طريقة أخرى لمقاربة الظاهرة الدينية اليوم، أنا صوت من بين أصوات أخرى تحاول أن تعبّر عن نفسها وتحتلّ مكانتها في المجتمع، وفي أوساط الباحثين العمليين، وذلك من خلال مناقشة ترغب في أن تكون ديمقراطية بالمعنى الفكري والعقلي للكلمة». 
محمد أركون، «العلمنة والدين، الإسلام - المسيحية - الغرب»

يشكّل محمد أركون حالة فكرية نقدية، تزداد الحاجة يوماً بعد يوم للرجوع إليها والنهل من معينها.
يقدّم لنا هذا القول بطاقة تعريف موقعّة بقلم مفكرٍ انتهج النقد سبيلاً والبحث وسيلة للكشف عن الطبقات المتراكمة على الظاهرة الدينيّة التي أدّت إلى حجب الرؤية عن العقل وإدخاله في متاهات عديدة. يتحدّث محمد أركون عن «طريقة أخرى» يودّ أن يعتمدها في مقاربة التراث، يريد تقديم قراءة مختلفة لنصوصٍ كانت قد أُوِّلت، وتفاسير كانت قد فُرضت على أنها الأصح، وأقفل من بعدها باب الاجتهاد.
يطرح أركون ضمن مناقشة ديمقراطية مشروعه النقدي مشرعاً الباب أمام الروح في مسيرة بحثها عن المعرفة. يريد أن يقوم بنقد العقل الإسلامي والبحث في آليات اشتغاله عبر التاريخ، وفي الأحكام التي أطلقها والتصنيفات التي اعتمدها، اهتمّ بالمَنْسِيين في التاريخ الإسلامي، بـ «أهل الملل والنحل»، أولئك الذين كُتب تاريخهم زوراً من قِبَل المنتصرين عليهم، كما أنه توقف عند بعض المهمّشين الذين لا يُعيرهم المفكرون اهتماماً. التفت إلى الثقافة الشعبية، وإلى القصص المحكية، إلى تراث مصنّف درجة ثانية أو ربما عاشرة، ليشير إلى أنه هناك أيضاً تكمن إحدى تجليات العقل البشري، ولا يجوزُ حصرها في دائرة واحدة ذات قواعد ونظم محدّدة.
إن النصوص التي سبق أن أنتجها لايزال بإمكاننا استنطاقها وسبر أغوارها لما فيها من عمق ودقة ومواكبة لأبرز الإشكاليات التي من شأنها أن تواجه المفكر العربي المعاصر. من يتتبّع مشروع أركون الفكري يرى بوضوح المسار النقدي المسيطر على توجّهه الفكري. فالمقاربات النقدية التي قام بها طاولت أكثر من حقل وتطرّقت إلى أكثر من مجال. لم يوفّر النقد لدى أركون التراث العربي الإسلامي، ولا التراث الغربي الأوربي. لم يتردّد في الاقتراب من الظاهرة الدينية، ومما هو مقدّس، لم يتغاضَ عن إعادة النظر في مفهوم المشروعية وكيفية إضفائها على المجالين الديني والسياسي. إنها عملية إعادة نظر واسعة النطاق تقفز فوق الحدود التي تضيّق مسار الفكر وتحجّمه. من هنا يمكن أن نتوقف عند النقد كما تبلور في نص محمد أركون لإظهار لمحة موجزة عن مشروعه.

النقد كمفهوم وممارسة عند أركون  
إن من يقرأ نص أركون يلحظ أن محاولاته النقدية تحمل همّ التعرية التاريخية والاجتماعية والفلسفية للتراث. فهو يهدف إلى كشف ما هو مستور أو ما قد تمّ إخفاؤه عمداً أو عن غير قصد. وحين تعمق في مشروع نقد العقل الإسلامي انهمك بالكشف التاريخي عن عملية تشكّل العقل للمرة الأولى، وإبراز آلية اشتغاله في المجتمعات العربية والإسلامية. 
يتمحور المدخل إلى النقد عند أركون حول إعادة قراءته للإسلام، والتفريق بين معنيين للدين: الأول روحي ومنزّه ومتعالٍ، والثاني قانوني ورسمي ذو بعد سلطوي.
يشدّد أركون على أن المعنى الأول للدين يكمن في «تلك الرعشة الدينية كما عاشها الأنبياء أو كبار المفكرين والعلماء». (أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998، ص236)، فلا يحصر البعد الروحي بالدين وحده، إنما أيضاً بلحظة الكشف العلمي أو الفلسفي.
أما المعـنـى الـثاني للـدين فـيتمحور حول التركيبات اللاهوتية والرسمية، ويقوم على المنحيين القانوني والسلطوي، حيث يصبح الدين مؤسسة متضامنة مع السلطة الحاكمة، وهو يلتقي بالعمق مع الأيديولوجيا، وفي هذه الحالة تعمل السلطة الدينية على تحريف الوظيفة الروحية للدين. إن الانتقال من المستوى الروحي للدين إلى المستوى الأيديولوجي لم يحصل فقط في مجال الفكر الإسلامي، إنما أيضاً في تاريخ الفكر الأوربي الغربي إبان القرون الوسطى، لكن عقل الحداثة انطلق في مساره النقدي ليقلب المقاييس في أوربا، بينما بقيت الحال على ما هي عليه في المجتمعات العربية والإسلامية.

أسس الممارسة النقدية
ليس النقد في مشروع أركون الفكري فعلاً سلبياً يقوم على الهدم والتشويه والتغاضي عن مكامن القوة في أي موضوع يدرسه، وخاصة في ما يتعلّق بالتراث العربي الإسلامي. إنه على العكس من ذلك، فهو يهدف إلى بناء رؤية جديدة، رصينة وموضوعية للماضي، ولما تمّ إنتاجه عبر قرون من الزمن.
تكمن مرتكزات الفعل النقدي الأركوني في إعادة تأمل المشروعية الدينية والسلطة الدينية والسلطة العقيدية، وذلك من أجل العمل على إحلال المشروعية البشرية مكانها، وفرض قطيعة حاسمة بين ما يسمّيه بالذروة الإلهية للسيادة من جهة، والذروة البشرية التي تقوم على السيادة الشعبية من جهة ثانية.
كما أن فعل النقد كما يحدّده أركون ويمارسه في أبحاثه يكمن في تفكيك «التركيبات المعرفية» للعقل الديني التي تتضمن الأنظمة اللاهوتية، والتفاسير والتواريخ، من أجل تحويلها إلى ورشة عمل لا تهدأ. والعقلانية كما يفهمها ليست سوى تركيبة مؤقتة يتمّ تخطّيها في ما بعد لكي تحلّ مكانها عقلانية أخرى أكثر توافقاً مع المعطيات الجديدة. إن المنهج النقدي لا يعترف بإمكان تأسيس نهائي ومطلق للعقل البشري، ولا يقرّ بوجود أصول ثابتة ونهائية له. يعتبر هذا الأمر من أبرز مكتسبات الأبستمولوجيا الحديثة التي استفاد منها أركون. فلا يعتبر أن المعنى بحدّ ذاته موجود على نحو مسبق أو جاهز، لأن هناك عوامل عديدة لعبت دوراً في تشكيله وانبثاقه، وهو ينحلّ ويتبدّل بعد فترة قد تطول أو تقصر لكي يحتلّ مكانه معنى آخر، يبقى عرضة للتغيير.
إن إحدى مهمات العقل النقدي لدى أركون تكمن في الحفر عميقاً من أجل «البحث عن الشروط (أو الظروف) التي يتمّ فيها إنتاج المعنى وما يشكله بالنسبة للوجود البشري». (أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، ص238). إن هذا الحفر يجب أن يكشف عن كيفية «بناء وتسيير شؤون القيم التي تحسم مصير كل شخص بشري داخل الجماعة التي ولد فيها هذا الفرد والتي يطور وجوده داخلها». (أركون، محمد. الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ص302).

بين الديني والسياسي
ويميّز محمد أركون في كتاباته بين العقل الديني والعقل اللاهوتي-السياسي:
فالأول يحدده كـ «كل متكامل ومنفتح، ولا يمكن استنفاده. إنه كل متكامل من التماسكات الاحتمالية أو الضمنية (أي المعاني أو الرموز أو الدلالات الاحتمالية أو الضمنية المفتوحة على اللانهائي)» (السابق، ص314). إنه يلتقي بالعمق هنا مع المعنى الأول للدين المنفتح على المطلق. العقل الديني فعال إذاً في مجال التعاليم الأصلية المعترف بها على أنها «مدونات للنصوص التأسيسية»، لذلك نجد أن اليهودية والمسيحية والإسلام ثلاث طوائف مرتبطة بالمعنى الأول للدين، هذا الذي يشير إليه أركون باعتباره «المكان الأمثل للذاكرة».
أما العقل الثاني، أي العقل اللاهوتي-السياسي فهو يهتمّ بتجسيد العقل الديني، أي هذا الكل المتكامل والمنفتح في إطار «أنظمة معقلنة من المقولات والمعايير والعقائد واللاعقائد. وهذه الأنظمة تهضم أو تستوعب في آن معاً الشيفرات الثقافية والحاجيات المتغيرة لكل فئة يوجَّه إليها هذا العمل» (م.س. ص314).
هناك إذن علاقة  واضحة بين العقل الديني والعقل اللاهوتي، فالأول بمنزلة النظرية والثاني هو التطبيق، لذلك فإنه يتفرّع عن الأول. يمكن أن نلحظ في هذا السياق أن المسار النقدي الذي يتبعه أركون يركز على التمييز، لا بل الفصل بين معنيين للدين الإسلامي، ومستويين للعقل الإسلامي، بغية تسليط الضوء على عمليات تشويه المقصد الأعلى للدين التي مارستها الأيديولوجيا السلطوية عبر التاريخ وهي متشحة بالعقل الديني، أي بكل المعاني والرموز والدلالات المفتوحة على المطلق. إن العقل اللاهوتي لا يتردّد في استخدام الجهاز العقلي والمرجعيات المطلقة عينها التي قدمها الخطاب النبوي، كما أنه يستخدم التبشير بالخلاص الأخروى وبث الأمل في النفوس على النحو الذي يتضمنه معطى الوحي.
من هنا يأتي إصرار أركون على القيام بتفكيك جذري للماضي، ماضي أي أمة أو طائفة في سبيل فهمه وتقييمه لكي يتمّ التخلّي عما لم يعد مفيداً، والاحتفاظ بما هو إيجابي ويُسهم في البناء الجديد. لذلك نجده يلحّ مراراً وتكراراً في أكثر من مناسبة على تطبيق النقد التاريخي والألسني والسيميائي والأنثروبولوجي والفلسفي على التراث، لكي يتمّ تحريره من كل العراقيل التي من شأنها أن تحدّ من حركة المفكر وحريته.
يعلن أركون، في أكثر من موضع أو مناسبة، هدفه من ممارسة النقد في أن يجعل ما هو «مستحيل التفكير فيه» أو «لا مفكر فيه» أمراً ممكناً التفكير فيه على الرغم من كل الضغوط والعراقيل التي يمكن أن يتعرض لها من يتخذ النقد منهجاً للبحث في ساحة الفكر الإسلامي أو العربي المعاصرين. هناك صعوبة كبرى لدى مسلمي اليوم في القيام بعملية الفصل بين المكانة اللاهوتية للخطاب القرآني من جهة، وما يسمّيه أركون بالشرط التاريخي واللغوي للعقل الذي يعمل على إنتاج خطابات بشرية ترتكز بشكل مباشر على العقل الإلهي، من جهة أخرى. من هنا كان النقد الفلسفي ضرورياً من أجل الكشف عن أنماط المعرفة التي تربط بين اللغة والتاريخ والحقيقة.

الحقيقة من المنظور النقدي
يتوقف أركون في سياق أبحاثه عند مفهوم الحقيقة بالنسبة إلى المفكر النقدي، فيرى أنه لا يمكن اعتبارها جوهراً ثابتاً أو أمراً معطى على نحو مكتمل ونهائي، مثلما فعلت الأديان والأنظمة الميتافيزيقية المثالية على حد سواء. والحقيقة على خلاف ذلك، إنها «مجموع آثار المعنى التي يسمح بها لكل ذات فردية أو جماعية نظام الدلالات الإيحائية المستخدمة في لغته. إنها مجمل التصورات المختزنة من قبل التراث الحي للجماعة القبلية، أو للطائفة الدينية، أو للأمة. فكل أمة أو طائفة تعتبر تراثها بمنزلة الحقيقة المطلقة. إن الحقيقة ليست جوهراً أو شيئاً معطى بشكل جاهز ونهائي، وإنما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي قد ينهار لاحقاً لكي يحلّ محلّه تركيب جديد، أي حقيقة جديدة». (أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، ص166).
يبدو واضحاً هنا موقف أركون المنفتح تجاه مفهوم الحقيقة، وهو ناتجٌ عن أسباب عدّة لعل أبرزها، كونه قد نشأ في بيئة جزائرية متنوعة الأعراق والثقافات، وكونه قد تمرّس في الأبستمولوجيا الحديثة واطلع عن كثب على أهم ما نُشر في الغرب حول نقد العقل اللاهوتي المسيحي من جهة، ونقد عقل التنوير من جهة أخرى.
إن الهمّ المعرفي الذي تكشف عنه مؤلفات أركون يكمن في الخروج قدر المستطاع مما هو متحجّر ومغلق ومسجون داخل الأطر الثابتة للعقائد على اختلاف مرجعياتها وتنوع مصادرها. إنه يسعى إلى موقف متوازن يبرز أثر الوقوع في أسر الأنظمة المغلقة إن في المشرق العربي الإسلامي أو في الغرب الأوربي. لذلك كان موقفه النقدي قد طاول العقل الإسلامي كما العقل الغربي، متحدّثاً عن النقاط الإيجابية كما السلبية عند الطرفين. لم يحصر أركون مقاربته النقدية بتراث واحد، ومنطقة واحدة، إنما أصرّ على أن يقارب بالمنهجية النقدية عينها ما أنتجه الفكر الغربي وعقل الحداثة أيضاً، حتى أنه دفع ثمن ذلك من سوء فهم، وصعوبات اعترضت مساره في أوربا.

بين الحقيقة والتاريخ
يشدّد أركون مراراً وتكراراً على أنه لا يمكن تفسير الوحي خارج تاريخيته، أي بمعزل عن تطوره ونموّه عبر التاريخ، وما طرأ عليه من متغيرات بتأثير من هذا التاريخ عينه. هناك تفاعل دائم يجب عدم التغاضي عنه بين هذه الأقطاب الثلاثة: الوحي، والتاريخ، والحقيقة. ويشير إلى أمر بالغ الأهمية يكمن في ضرورة اعتبار التركيبات اللاهوتية الإسلامية من حديث وفقه وعلم كلام... إلخ، على أنها من إنتاج البشر، لذا فمن حق المفكر أن يُخضعها للبحث التاريخي، من دون أن يمسّ التجربة الروحية الكبرى. كما أن الدخول في الحداثة يقتضي عدم الاكتفاء بالتعاطي بما هو مسموح التفكير فيه من دون سواه، والانغلاق في دائرة السياج العقيدي الضيق. إنه يحرّض بشكل مستمر على خرق دائرة «المستحيل التفكير فيه» لفتحها والحفر في طياتها، على الرغم من كل الضغوط والموانع المتنامية، وذلك من أجل الكشف عن أنماط المعرفة التي سبق أن أنتجها العقل الإسلامي وأيّدها. من هنا تبرز أهمية مثلث آخر يربط بين: «اللغة، والتاريخ، والحقيقة».

مرتكزات النظرة النقدية
هناك أخيراً خمس خطوات مفصلية وجّهت تصوّر أركون للنقد ولكيفية ممارسته، يمكن إيجازها في ما يلي:
أ- تأثره بأبي حيان التوحيدي الذي يقول: «الإنسان أشكل عليه الإنسان»، جعله يعتبر أن الإنسان «مشكلة محسوسة» بالنسبة إلى الإنسان، فتصبح بالتالي المعرفة البديهية أمراً بعيداً عن الواقع. إن جعل الشيء مُشكَلاً يعني نزع البداهة عنه والوهم بمعرفته كما هو، في سبيل تقديم تصوّر جديد له.
ب - إن معرفة الواقع بدقة هي من مسؤولية الإنسان وحده، والواقع هنا يُقصد به العالَم، والمعنى والكائن الحي... إلخ.
ج- إن معرفة الواقع تتطلّب جهداً متواصلاً يمكّن الإنسان من تخطّي الحدود والشروط والإكراهات الجسدية والاقتصادية والسياسية واللغوية التي بإمكانها أن تحدّ من شرط الباحث الوجودي باعتباره كائناً حياً خاضعاً لقانون الطبيعة، ومتكلّماً وسياسياً وتاريخياً واقتصادياً.
د - ليس النقد أمراً سلبياً، إنه توجّهٌ نحو قراءة كيفية تجسيد الوحي  والمبادئ الروحية تاريخياً، وذلك انطلاقاً من النظرة العقلانية واستخدام المنهجية التاريخية، بالإضافة إلى مكتسبات علوم الإنسان والمجتمع واللسانيات في مقاربة التراث وتفكيك ما ينتجه العقل الديني. 
هـ - نجد عند أركون أن الرؤية النقدية تعني عدم التوقّف عند حلّ محدد، أو تفسير واحد مقنن، وذلك على الرغم من أهمية النتائج التي تمّ التوصّل إليها. إن مسار الناقد الحق كالصوفي الذي لا يعرف الاستقرار في مراحل سلوكه نحو ربه، والعالِم الذي يمارس البحث العلمي المتواصل رافضاً التوقف عند نتيجة معينة لأنها في نظره تقريبية ومؤقتة، وعينه على تجاوزها في الخطوة التالية. 
خلاصة القول، إن النقد عند أركون ليس مجرّد موقف أو فكرة يتغنّى بها، ولا سلاحاً حاداً يشهره عشوائياً في وجه الماضي، إنما هو منهج ومسار يفضي بالضرورة إلى التغيير. إنه مشروع فكري وإنساني يعمل على إلقاء مزيد من الضوء على حقائق تهمّ الوجود البشري، ويجتهد في تحرير الروح من السجون الفكرية التي فرضت عليها. النقد يبدأ بالحفر والزحزحة لكي ينتهي بالتجاوز والتحديث والدخول في مشروع الحضارة الإنسانية والمساهمة فيه. إنه باختصار إعادة قراءة التراث من زاوية مختلفة تستثمر كل مكتسبات علوم الإنسان والمجتمع واللغة، إنه دعوة لاتخاذ موقف مغاير من النص.
ختاماً، يمكن أن نستنتج مما تقدّم، أن باب النقد حان له أن يبقى مشرعاً على مصراعيه. وممارسة النقد باتت ملحة باعتباره حقاً يمارسه كل مفكر، وباحث، ومثقف. لا بل إنه واجب من غير المناسب التغاضي عنه، ولا التساهل ولا التراجع في شأنه. النقد والانفتاح والتجاوز والانطلاق نحو الأبعد والأعمق والأوسع عناوين عريضة، وصيحات مدوية تتفجّر من عمق مفكرٍ يبقى على الرغم من رحيله يعيش معنا ضرورات الحاضر ووجعه، ملهماً ومرافقاً لمن يودّ المغامرة في حمل راية النقد المُجدي، والخوض في ركاب الحداثة، والانشغال بما يرتقي بالإنسان نحو مزيد من التطور والتجلّي العقلاني، بدل الانزواء في التخلّف، والاستسلام للرتابة والتكرار.
في كتابات أركون دعوة صريحة لتشريع باب النقد ليس بهدف التجريح ولا الذم ولا تسجيل المواقف البطولية، ولكن حباً بالعقل الكامن وراء التراث وخدمة للحضارة الإسلامية وانسجاماً مع صفحاتها المشرقة. هناك حثُ متكرّر على عدم تخلّي الإنسان عما يميّزه ككائن عاقل ومدرك لشروطه الإنسانية كما لحقّه في الثورة والرفض والانقلاب والتغيير والانطلاق في رحلة حدودها متفلّتة من كل حدّ. من هنا السؤال عن جدوى تهميش مثل هذه المشاريع النقدية الرصينة التي بذل أصحابها أعمارهم في سبيل بلورتها ونشرها ومراجعتها تباعاً، لمَ لا يُعاد درس هذه الطروحات بهدف الإفادة منها ونقدها وتخطّيها في ما بعد؟ ألم تقم الحضارات بمجملها على المسار النقدي الذي يعيد النظر مرة بعد مرة بما سبق اكتشافه وإنتاجه واعتباره أنه الأفضل والأصح والأكمل؟ .