أَثر الغَرْب في معالم عصر النهضة (مقالة بانوراميّة)

أَثر الغَرْب في معالم عصر النهضة (مقالة بانوراميّة)

للثقافة الغربيّة، التي أَضحت ثقافة كونيّة، بفعل تقدّم الغرب ونجاحه وهيمنته، آثارٌ  لا سبيل إلى تجاهلها، أو الغضّ من شأنها، في الحياة العربيّة القريبة والمعاصرة. ولعلّ الكثير من تجلّيات دخولنا العصرَ، والانتسابِ إلى نمط عيشه وأَساليب تفكيره، عائدٌ إلى هذا التأثّر، الذي يراوح بين العمق والسطحيّة، بمفاهيم الديمقراطيّة والليبراليّة،في السياسة والأدب والتربية، وشتّى مرافق المجتمع الاقتصاديّة والفكريّة. 

إذا ما تناولنا بعض مظاهر النهضة والأثر الذي تركه الغَرْب في نشوئها وتطوّرها، من مثل: التعليم، الطباعة، الصحافة، والجمعيّات؛ فهناك روافد أخرى ساهمت في إمداد النهضة بدم جديد، وكان لهذا الغرب حضوره فيها، شأن: ظهور المكتبات العامّة؛ ودخول التمثيل على حياتنا، وقد انبرى الكتّاب عندنا لمدّه بالروايات المترجَمَة على وجهٍ خاص؛ وهناك أيضاً الاستشراق وما بلغه في درس حضارتنا من مستوى علميّ رفيع مازلنا، ويا للعَجَب، قاصرين حتّى يومنا عن مجاراته، ولا أَقول منافسته. والشيء اللافت في هذه النهضة أنّها تفتّحت في وَسَطين متميّزين، عَبْرَ وطننا العربيّ، هما مِصْر ولبنان، ومن هذين الموقعين تفشّت بقعة المعرفة وعمّ نفعها.

التعليـم
لو عدنا نستكشف مظاهر النهضة وعواملها الدافعة، لعثرنا على بَصَمات الغرب الثقافيّة واضحة للعِيَان. فالمدارس أَوّل ما أسّست عندنا كانت أَجنبيّة، ثم لحقت بها المدارس الوطنيّة، مقتفيةً أَثَرَها. فمدرسة عَنْطورَه القديمة العهد، والواقعة في كِسْرُوان، أسّست سنة 1734، وقد أَدارها اليسوعيّون. ومدرسة عَبَيْه، التي يعود تأسيسها إلى سنة 1847، أَدارها كرنيليوس ڤانديك، أي الأَمريكان. وقد تنازع هذان الفريقان الأَجنبيّان، اليسوعيّون والإنجيليّون، أَقدار التعليم في لبنان، ووجّهه كلّ فريقٍ لما فيه خدمة مصالحه العليا. ونعلم أنّ الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة التي غدا اسمها بعد ذلك الجامعة الأَمريكيّة، قد أسّست سنة 1866. وكان لابد لليسوعيّين أن يلحقوا بالأَمريكان في مضمار التعليم العالي، فأسّست الكلّيّة اليسوعيّة سنة 1874.
لهذا نلاحظ أنّ طابَع التعليم الوطنيّ كان متأثّراً بالمُنَاخ «الكوسموبوليتي» السائد. فنجد، منذ وقتٍ باكر، أنّ مدرسة شهيرة مثل عين ورقة، وقد أسّست سنة 1789، وكانت ديراً في الأساس، تعاطت إلى جانب العربيّة، تدريس السُّرْيانيّة والإيطاليّة واللاتينيّة. وتكاثرت المدارس الأَهليّة في لبنان، إذ حرصت كلّ طائفةٍ على بناء المدارس المختصّة بها: البطرِيَرْكيّة، الثلاثة الأَقمار، الحكمة، الكلّيّة الإسلاميّة التي كان يرأسها الشيخ أَحمد عبّاس الأزهري. وينبغي أن ننبّه إلى أنّ النهضة الحقيقيّة الواسعة، للتعليم في لبنان، بدأت إثر حوادث 1860 الطائفيّة البغيضة. حيث تقاطر كثير من اللبنانيّين المنكوبين إلى بيروت، فكبُرت بهم وعَمَرَت. وكان من بين الوافدين عليها النساء اللواتي فقدنَ المُعيل، ولهذا نلحظ أنّ مدارس البنات كانت سبّاقة إلى الظهور فيها، عقب الفتنة الطائفيّة المتقدّمة الذكر. ومن أَشهر مدارس البنات التي عرفتها بيروت: المدرسة الإنجليزيّة التي أسّست سنة 1860؛ والكلّيّة الإنجيليّة الأمريكانيّة للبنات، وقد تمّ إنشاؤها سنة 1861.
أمّا مِصْر، القطب الثاني للنهضة، فكان فيها الأزهر، الصَّرْح القديم جدّاً، حتّى على نطاق العالم، إذ يعود أسيسه إلى سنة 971، على يد الفاطميّين.
ولكنّ العلم غدا في الأزهر منغلقاً، يقتصر على العلوم الدينيّة، مع بعض الحساب لمادّة المواريث، وبعض علم الهيئة، أي الفلك، لمواقيت الصلاة. ومع أَواخر القرن التاسع عَشَرَ أَراد المصلحون تجديدَ الأزهر، وإدخالَ العلوم الحديثة فيه، فلاقى محمّد عبده في محاولته الإصلاحيّة عَنَتاً وصدّاً. 
 إنّ جهود محمّد علي، وبعده إسماعيل، في الميدان التعليميّ لجليلة. ويكفي أن نذكر مثلاً، في إحصاءٍ بالغ التعبير، أنّ محمّد علي أَنشأ بين عامي 1824 و1839 ستَّ عَشْرَةَ مدرسة كبرى، متخصّصة في قضايا العسكر والطِبّ والصيدلة والتعدين والهندسة والزراعة واللغات والترجمة والصنائع؛ وقد بلغ عدد تلامذتها نحو تسعة آلاف، وتتكفّل الدولة بكلّ مصاريفهم. وعندما جاء إسماعيل إلى كرسيّ الخُدَيْوِيّة ساهم في تنشيط التعليم، على منوال جَدّه محمّد علي، وأمدّه بأَساتذة استقدمهم من الغرب، وتابع إرسال البُعُوث إلى أوربا. ووضع للتعليم نظاماً تحت إشراف نِظارة المعارف، فصارت المدارس تتدرّج من ابتدائيّة إلى ثانويّة فعليا.
وفي عهده أيضاً تعزّزت العربيّة، وهي لغة التعليم؛ ونشأت مدرسة الإدارة، ومدرسة دار العلوم، ومدرسة المعلّمين. كما أنّ التعليم انتشر في أَنحاء القُطر عن طريق الكتاتيب التي بلغت الآلاف، ونيّف عدد التلامذة فيها، لتلك المرحلة، على المائة ألف.

الطباعـة
هناك رافد ثقافيّ آخَرُ كان عاملاً ممهّداً للنهضة ودافعاً لها، وهو الطباعة. ويمكن القول إنّنا لم نتخلّف كثيراً في تعرّفنا إلى هذا الفنّ الحديث الذي شاع في أوربا، إبّان منتصف القرن الخامسَ عَشَرَ، وذلك بفضل مخترعه الألمانيّ جوتنبرج. على أنّ أَوائل الكتب العربيّة المطبوعة خرجت من «أورا» نفسها، ومن إيطاليا بالذّات. والكتاب العربيّ الأَوّل المطبوع هناك صدر سنة 1514، عن بلدة «فانو»، وكان دينيّ الطابَع، وهو «الأورلوجيون»، المعروف بكتاب «السواعي»، ويتضمّن مواقيت الصلاة في الكنائس البيزنطيّة. وطُبع بعد ذلك القرآن الكريم في «البندقيّة»، على أنّ القوم خافوا هناك من تأثيره على المسيحيّين في الشرق ومزاحمته لهم، فأَعدموا طبعته! وتوالت مئات الكتب العربيّة تظهر في العواصم والمدن الأوربيّة العريقة، شأن: روما، باريس، لندن، برلين، لَيبْسِك، لَيْدِن، وبطرسبرج... أمّا الدولة السبّاقة إلى الطباعة بالحروف العربيّة في المشرق فكانت سورية، وكانت حلب محور هذا النشاط منذ 1703، وقد ظهرت طبعة للإنجيل فيها سنة 1706. مع العلم أنّ الآستانة عرفت المطبعة، منذ بدايات القرن السادسَ عَشَرَ، ولكنّ الكتب العربيّة لم تظهر فيها إلاّ ابتداءً من سنة 1728؛ وقد اضطرّ القيّمون على الطباعة بالعربيّة إلى استصدار فتوى تُجيز لهم ذلك، كما استصدروا فتوى ثانية لطباعة الكتب الدينيّة ولتجليد المصحف الشريف.
وعرف لبنان مطابعَ طارت لها شهرة، نظير مطبعة الشوير للشمّاس عبدالله زاخِر، وقد عمل أَوّلاً بمدينته حلب في هذا الميدان، ثم انتقل إلى دير الشوير حيث أَسّس مطبعة، فصدرت عنها سنة 1733 مزامير داود. واستمرّت هذه المطبعة دهراً من الزمن، إذ ظلّت عاملة لقرنٍ ونصف القرن، إلاّ أنّ أَكثر ما أَخرجته يتّصل بالدين. جدير بالذكر أنّ المطابع التي وقفت وراء نشر الثقافة، بمختلِف أَلوانها، من علمٍ وطبّ ورياضيّات وأدب ولغة وشعر وتاريخ، هي التي أُنشئت في بيروت. وكان من أَهمّها مطبعة المرسلين الأمريكان التي وصلت إلى بيروت سنة 1834، وذلك من مالطة حيث جرى تأسيسها في السنة السابقة. وهناك مطبعة الآباء اليسوعيّين التي أسّست سنة 1848، وكانت لاتزال، قبل قُرابة عقدين من الزمن عند إغلاقها، من أَبرز المطابع في الشرق العربيّ جُوْدة ومستوى. وتلاحقت بعدئذٍ المطابع بالعشرات في بيروت، عَبْرَ القرن التاسعَ عَشَرَ وفي أَوائل القرن العشرين، وخصوصاً على إثر إعلان الدستور العثمانيّ سنة 1908.
أمّا في مِصْر فإنّ أَوّل مطبعة عربيّة عرفتها كانت تلك التي أَتت بها الحملة الفرنسيّة سنة 1798، واقتصر عملها بخاصّةٍ على المنشورات. ومع رحيل الفرنسيّين سنة 1801 رحلت معهم المطبعة؛ فكان على مصر أن تنتظر حتى سنة 1821 عندما أَنشأ محمّد علي، في جملة إصلاحاته الجمّة، المطبعة الأهليّة التي اشتهرت بمطبعة بُوْلاق، حيث استقرّت أخيراً في هذا الحيّ القديم من أَحياء القاهرة. وكانت مطبعة بولاق في أَوّل أمرها، في عُهْدَة أحد اللبنانيّين، وهو نقولا مسابكي الذي تعلّم في روما صنع الحروف وسبكها. وفي بولاق، المَنْشَأة الضخمة، الذائعة الشهرة والمديدة العمر، طُبعت مئات الكتب المهمة في العلوم والآداب وعلوم الدين؛ ومنها خرجت الكتب التراثيّة، والكتب التطبيقيّة للتدريس، والكتب العلميّة المترجَمَة؛ وفي بولاق تمّ إنجاز مطبوعات الحكومة.
وتوالى إنشاء المطابع في مصر، وخصوصاً في عهد إسماعيل. وبلغ من أهميّة المطبعة أنّ الأَقباط، عندما أَسّسوا مطبعة خاصّة بهم، فإنّ بطرِيَرْكهم كان في استقبالها عند ورودها سنة 1860 من الخارج، ومشى الشمامسة، وهم يحملون الشموع، في هذا الاستقبال الكبير المنعقد على شرف المطبعة المستورَدَة. 
كان الشعب بمجموعه يقتات الجهل، فجاءت المطبعة ونشرت بينهم الكتاب، ويسّرته غذاء روحيّاً مشاعاً، وذلك بثمنٍ زهيد في القياس إلى كلفة النّسخ؛ وبشكلٍ عمليّ سريع، إذ إن النّسخ عمليّة بطيئة. ومن أَفضليّات الطباعة على النّسخ أنّها توفّر أعداداً ضخمة مما نشاء من الكتاب المطبوع وكيفما نشاء، وذلك على نَسَق ٍ واحد. ثم إنّ النُّسّاخ في لغتنا كانوا معرَّضين للوقوع، عدا الأَخطاء، في التصحيف؛ مع العلم أنّ معظم حروف الهجاء عندنا منقوطة، وأنّ الحروف، وخصوصاً الصائتة فيها، ليست حركاتها جزءاً من كتابة الحروف، كما هي الحال مثلاً في اللغة الفرنسيّة.
وعمدت المطابع التي تكاثرت في لبنان ومصر إلى نشر التراث الأدبيّ، ممّا أَتاح للأَجيال الجديدة من الأُدباء الاطّلاع عليه والإفادة منه. ولا تجديد ولا بعث  من غير الرجوع أَوّلاً إلى مناهل تراث الأمّة.
إنّ المطبعة هي التي سهّلت لنا أيضاً سُبُل التعرّف إلى الأدب الغربيّ في ترجماته العربيّة، ممّا أدّى بنا إلى استساغة أَنواعٍ أَدبيّة لم نكن نعرفها، أو نألفها، لأنّها غريبة على تراثنا المعهود. وهذه الحركة الطباعيّة الناشطة ساهمت في نشأة الثقافة الجديدة، المتلقِّحة  بالمناهج والآداب الأوربيّة. 

الصحافـة
في شرقنا العربيّ كانت مصر سبّاقة إلى هذه «الصِّناعة» التي انتشرت في أَيّامنا انتشاراً مذهلاً. إنّ الحملة الفرنسيّة نشرت صحيفتين فرنسيّتين، وقد ذهبتا بذَهَابها. فلمّا جاء محمّد علي أَصدر «الوقائع المصريّة»، وهي أَوّل صحيفة عربيّة عامّة عرفتها البلاد العربيّة. ونتحفّظ عن تاريخ صدورها الأَوّل في سنة 1828، وذلك لأنّها بدأت تصدر في أَوّل أَمرها بالتركيّة، ثم غدت تصدر بالعربيّة والتركيّة، وأخيراً اقتصرت على العربيّة. وشارك في تحريرها فريق مختار من رجالات مصر، شأن: الشيخ حسن العطّار، والشيخ رِفاعة رافع الطَّهْطَاوي، والشيخ محمّد عبده. على أنّ «الوقائع المصريّة» كانت أَشبه بالشهاب اللامع ينطفئ بعد حين، فما إن جاء عبّاس الأَوّل وسعيد حتّى توقّفت عن الصدور، كما توقّفت أُمور ثقافيّة وعمرانيّة كثيرة في عهدهما الممتدّ من 1848 إلى 1863.
وهنا نجد أنّ الراية انتقلت إلى بلاد الشام، ففي سنة 1858 صدرت في بيروت «حديقة الأَخبار» لخليل الخوري، مرّة في الأسبوع؛ وقد استمرّت في صدورها حتى سنة 1909، أي نصف قرن، وهي مدّة لا يُستهان بها، لأنّ صُحُفاً جمّة كانت تبرز ثم تختفي غالباً عقب سنة أو سنوات معدودة. ولصحيفة «حديقة الأَخبار» فضل جليل، يتجلّى في سعيها إلى ترويض العربيّة، لتكون مِطْواعة في التعبير عن المعاني الجديدة. فقد جاء التقدّم الغربيّ بأُمور لا تُحصى في الحياة والمعرفة، وليس من اليسير بتاتاً نقل هذا التطوّر وتبيان معالم هذا التمدّن؛ وهنا تبدو الحاجة ماسّة إلى ترجمة وتعريب المصطلحات الوافرة، الدالّة على هذه الحياة الأُوربيّة الغنيّة. ونحن نتكلّم ههنا على الصحف العربيّة التي أَصدرها اللبنانيّون في بلادنا، في حين أنّ نشاطهم الفكريّ الذي يتميّزون به امتدّ خارج نطاق البلدان العربيّة، وذلك إلى داخل المملكة العثمانيّة وخارجها. ولعلّ أَشهر صحيفة عربيّة عرفتها الآستانة، وتردّد صدى شهرتها في الشرق العربيّ، وكانت صَفَحاتها حافلة بنتاج أُدباء العصر، هي «الجوائب» لأَحمد فارس الشِّدْياق، وهو أَحد فرسان النهضة الأدبيّة اللامعين؛ وظلّت صحيفته أسبوعيّة مستمرّة في صدورها طَوَال ربع قرنٍ (1860 - 1884).
وشاعت تسمية الصحيفة باسم الجريدة، وكانت قبلاً يُطلق عليها النشرة؛ أو الوَرَقة الخبريّة؛ أو الجرنال؛ أو الغازيت، وتَرِدُ أيضاً غزتة؛ أو الوقائع، كما هي الحال مع «الوقائع المصريّة». وكانت كلمة الصُّحُف شاملة، فأخذوا يميّزون بين الصحف السياسيّة اليوميّة أو شبه اليوميّة أو الأسبوعيّة؛ وبين المجلاّت العلميّة والأدبيّة، وكانت أسبوعيّة أو شهريّة. ومن الجرائد التي عرفتها بلاد الشام نذكر «البشير» التي أَصدرها اليسوعيّون سنة 1870، وكانت شديدة اللهجة متعصّبة. ومن الجرائد القديمة العهد أيضاً والمعمّرة «لسان الحال» لخليل سركيس، الصادرة سنة 1877. أمّا المسلمون فلم تنشأ لهم صحيفة في لبنان سوى في سنة 1885، عندما أَصدر الشيخ عبدالقادر القبّاني «ثَمَرات الفنون».
على أنّ اللبنايّين قاموا بنهضتهم الصَّحَفيّة المرموقة في وادي النيل، وليس في موطنهم الأَصليّ. وذلك أنّهم وفدوا على مصر أَيّامَ إسماعيل، الذي كان راغباً في تقريب الأُدباء، سخيّاً عليهم؛ مولعاً بالشهرة السياسيّة؛ مطلقاً للصحافة حرّيّتَها، على ألا تَمَسَّ شخصه. وكان مُقَام هؤلاء اللبنانيّين أَوّل الأمر في ثغرٍ متوسطيّ مشابه لثغرهم، وهو الإسكندريّة؛ وفيه أَصدروا صُحُفهم التي صار لها صيت عظيم، قبل أن ينتقلوا بها إلى القاهرة. ففي الإسكندريّة أَصدر سليم وبشاره تقلا «الأَهرام» سنة 1876. وفيها أَصدر أَديب إسحق وسليم النقّاش جريدتهما «المحروسة» سنة 1880. ويمكن القول إنّ اللبنانيّين الذين استوطنوا مصرَ كادوا يهيمنوا على النشاط الصَّحَفيّ هناك. وممّا ساعدهم في هذا النفوذ الثقافيّ: أَنّهم مارسوا الصحافة في لبنان أَوّلاً، ثم كانوا على صلةٍ بالحياة الأُوربيّة، وقد درسوا اللغات االأَجنبيّة؛ فكان أن نقلوا معارفهم إلى صُحُفهم التي صارت أيضاً نافذة الشرق على الغرب. أمّا فضلهم الأَكبر فيتمثّل في ما أَدخلوه، على اللغة الصَّحَفيّة، من تطريةٍ وجودةِ عبارةٍ واستقامةِ أُسلوبٍ.
ومن الذين كانوا مُفْضِلين في عمليّة الإطلال على الأَفكار الغربيّة، والالتفات إلى إحياء التراث الأدبيّ العربيّ في خميرته الكلاسيكيّة، والنهوض بمُهِمّة وضع المصطلحات، نأتي على ذكر رِفاعة رافع الطَّهْطَاوي الذي أَشرف على «الوقائع المصريّة»، وعلى مجلّة «روضة المدارس» التي أَصدرتها نِظارة المعارف سنة 1870، على عهد ناظرها الشهير المرموق علي مبارك. وعلى صَفَحات هذه المجلّة العلميّة والأدبيّة برزت أَقلام مصريّة مختارة، من أَمثال: عبدالله فكري، إسماعيل الفلكي، علي مبارك، بالإضافة إلى رِفاعة طبعاً.
وفي زمن الاحتلال الإنجليزيّ نشطت الصحافة مؤيّدةً أو مناوئةً، وظهرت الصحف التي لعبت دوراً سياسيّاً أو وطنيّاً في تاريخ مِصْر. وهكذا عرف الناس «المُقَطَّم» سنة 1888، وصاحباها هما صاحبا مجلّة «المقتَطَف» الشهيرة، يعقوب صَرُّوف وفارس نمر، وكانت مساندة للإنجليز. فكان أن ظهرت في السنة التالية جريدة وطنيّة إسلاميّة، لتردّ لها الصاع صاعين، وهي «المؤيّد» للشيخ علي يُوْسُف. وتصدّرت هاتان الصحيفتان الساحة السياسيّة؛ وتكاثرت الصحف بالعشرات، يساعدها في الظهور الحرّيّة وعدم التشدّد في قانون المطبوعات. وغدت هذه الصحف إمّا مُقَطَّميّة، وإمّا مؤيّديّة؛ أي إمّا أَنّها موالية للاحتلال، مشيدة به ومسوّغة لفِعاله؛ وإمّا أَنّها محاربة له، ناقمة عليه وعلى أَعوانه من أَهل البلد. أمّا «الأَهرام» فكانت ظهيرة لفرنسا. أمّا الصحف القُبْطيّة فكانت إجمالاً مُقَطَّميّة.
ومع بروز الحزب الوطنيّ ولمعان صورة فارسه الأَغرّ، مصطفى كامل، صدرت «اللواء» سنة 1900، حاملةً الهمَّ الوطنيَّ، ومناضلةً ضدّ الاحتلال بغير هَوَادة. وكان من جملة تجديدات «كامل» الجمّة، أَنّه أَصدر «اللواء» بالفرنسيّة والإنجليزيّة، إلى جانب العربيّة، وذلك لخدمة القضيّة الوطنيّة، وفي سبيل تنوير الأَجانب على حيثيّاتها. وأَلّف كامل لهذا الغرض شركة ماليّة ذات أَسهم، وهي تُعتبر الأُولى من نوعها في ميدان الصحافة المصريّة. وتبعتها، في النسج على منوالها، «المؤيد»، و«الجريدة» التي صدرت سنة 1907، وكانت ناطقة باسم جماعة حزب الأُمّة. وتطوّرت الصحافة في تلك المرحلة حجماً وإخراجاً، وتنويعاً لموضوعاتها؛ وتعدّت في الظهور القاهرة والإسكندريّة إلى المدن الريفيّة؛ كما ترتّبت أَحوالها، بحيث اشترك أَصحاب الصحف جميعاً من عربيّة وأجنبيّة في تنظيمٍ نقابيّ. وصارت الصحف محوراً تتحلّق حوله الأَحزاب الناشئة، ولهذا نلحظ أنّ نجم اللبنانيّين المؤسّسين الكبار أخذ ينوس أمام صعود الوطنيّين المِصْريّين. شرعت الصحافة «تتمصّر»، وتغدو وَقُوداً للروح الوطنيّة المكافحة، وخصوصاً بين الشباب الطامح.

المجلات
تكلّمنا على الجرائد العربيّة، أمّا المجلاّت فمن أَقدمها « يَعْسُوب الطب» لمحمّد علي البقلي الحكيم، صدرت في القاهرة سنة 1865، وكانت أَوّل مجلّة طبّيّة عربيّة، وقد نهضت بمُهِمّة وضع المصطلحات الطبّيّة والعلميّة في اللغة العربيّة. وكانت تُطبع في بُوْلاق على نفقة الحكومة. وكان صاحب هذه المجلّة شهيراً في مصر، إذ كان رئيس الأَطبّاء، وتولّى رئاسة المدرسة الطبّيّة المصريّة، وكتب بعض المؤلَّفات الطبّيّة النافعة، وعلى يده تخرّج عدد وافر من الأَطبّاء المصريّين المشاهير. وهناك «الجِنان» للمعلّم بطرس البستاني، الصادرة في بيروت سنة 1870، وعاشت أَمداً مجلّة حافلة تُعنى بالأدب والسياسة والتاريخ والشعر ومختلِف العلوم، بحيث إنّها تركت سِماتها على حركة النهضة، بفضل منشئها العلاّمة، وكان صدورها مرّتين في الشهر. وفي سنة 1876 صدرت في بيروت «المقتَطَف» لصرُّوف ونمر، وصارت من أَشهر المجلاّت العربيّة، وحوت العلوم والصناعات والآداب؛ وقد انتقلت سنة 1886 إلى مصر، حيث تابعت الصدور. 
وظهرت مجلاّت ثم احتجبت، إلاّ أنّ من أَهمّ المجلاّت ذيوعاً وديمومةً «الهلال» لجرجي زيدان، الصادرة في القاهرة سنة 1892. وعلى الساحل اللبنانيّ صدرت في صيدا مجلّة «العرفان» للشيخ أَحمد عارف الزّين، وذلك سنة 1909. وكان لهذه المجلّة دور ثقافيّ أدبيّ بالغ في جنوب لبنان. ومن المجلاّت التي عاشت وتركت ظلالاً بالغة على حركة الفكر والأدب، وبفضلها تربّت أَجيال واغتذت، نذكر على وجه الخصوص المجلّتين الأُسبوعيّتين الشهيرتين: «الرسالة» لأَحمد حسن الزيّات، الصادرة سنة 1933؛ و«الثقافة» لأَحمد أَمين، الصادرة سنة 1939.

المكتبـات
هناك رافد ساهم في النهضة ومهّد لها، وليس بجديدٍ على حضارتنا العربيّة، وهو المكتبات أو المكاتب أو خزائن الكُتُب. فليس عبثاً ما يقال من أنّ هولاكو، عندما استولى على بغداد، سدّ دِجْلَةَ بكُتُبِ خزائنها! وقد ضاعت من تراثنا مؤلَّفات لا يحصرها عدّ. ونشأ في ظلال الحضارة الإسلاميّة فنّ عريق قائم على: النَّسْخ، والتجليد، والزخرفة، والفنّ الحروفيّ. وغدا اقتناء الكتب والبحث عنها تقليداً حضاريّاً، جرى عليه الخلفاء، فحاكاهم فيه مَنْ هم دونهم من وزراء وعُمّال ووُجهاء ومتموّلين. 
ولا نتوقف عند الخزائن الخاصّة، وإنّما نلتفت إلى الخزائن العامّة، نظير: «بيت الحكمة» زمن العباسيّين في بغداد، و«دارالحكمة» على عهد الفاطميّين في القاهرة. وتوالت الهزائم السياسيّة تهدّ جسم الدولة الإسلاميّة، وغرقت بعدئذٍ في ظلام الانحطاط، فغدت الخزائن مهملة مضعضعة، شأن كلّ مَرْفِق ٍ ثقافيّ أو حضاريّ قد استولى عليه البِلى. وفي مصر أسّست أَوّل مكتبة عموميّة زمن إسماعيل سنة 1870، ودُعيت «المكتبة الخُدَيْوِيّة»، وحوت ما أَخرجته مطبعة بولاق، وما تناثر من كُتُبٍ جميلة موقوفة في المساجد، وما اشتملت عليه بعض المكتبات الخاصّة النفيسة. وأَشرف على هذا العمل ناظر المعارف علي مبارك، فإذا بهذه المكتبة، شأن الكثير من إنجازات هذا المثقّف المصريّ الكبير، حافلة بالكتب والمخطوطات في موضوعات شتّى. وحوت في الأربعينيّات من القرن العشرين سبعين ألفَ مجلّدٍ، قارب أن يكون نصفها من الكتب العربيّة، والباقي في اللغات الأوربيّة وفي التركيّة والفارسيّة. ومن المكتبات الكبرى في مصر «المكتبة الأزهريّة»، التي ضمّت بين جَنَباتها، سنة 1879، ما كان موزَّعاً من كتبٍ في أَروقة الأزهر. 
وهناك طبعاً المكتبات الملحقة بالمدارس الكبرى، والجمعيات العلميّة، وبالجامعة المصريّة. على أنّ أرض الكِنانة عرفت بعض المكتبات الخاصّة، الجليلة الشأن، من أَمثال: «الخزانة التيموريّة» للعلاّمة أَحمد تيمور، التي حوت مجموعة من المخطوطات العربيّة النادرة؛ و«الخزانة الزكيّة» لشيخ العروبة أَحمد زكي، التي تميّزت بما ضمّت من أَعمالٍ وضعها المستشرقون في لغات عديدة حول الشرق. أمّا في سورية ولبنان فاشتهرت، إبّان النهضة، «المكتبة الظاهريّة» في دمشق، وكان يقف وراء تأسيسها، سنة 1878، الوالي العثمانيّ الذي اشتهر بالإصلاح، مدحت باشا. وهناك «المكتبة الشرقيّة» للآباء اليسوعيّين؛ ومكتبة الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة (الجامعة الأمريكية في بيروت). وقد اشتمل العراق على مكتباتٍ حاشدة بالكتب العزيزة المنال، والتي يخال الباحثون أنّها مفقودة تماماً!

الاستشراق
ولابدّ، في ختام هذه المقالة البانوراميّة، من الإشارة إلى فضل المستشرقين في رواج النهضة. لقد احتفل المستشرقون الأَوائل بالعلوم العربيّة، منذ القرن العاشر الميلاديّ، وذلك ليوطّئوا لمرحلة الرُّنسّانس عندهم، ولينشلوا أَنفسهم عهدذاك من الظلمة الثقافيّة التي كانت تلفّهم. وهكذا توافد بعض الأوربيّين على الأندلس بخاصّة، ليدرسوا العربيّة هناك. ونقلوا، بعدئذٍ، من العربيّة إلى اللاتينيّة، تراث العرب في الفلسفة والطبيعيّات والرياضيّات والطبّ والكيمياء. حدث هذا في إسبانيا، وقد جمع أَلفونس العاشر، صاحب قشتالة، المترجمين في بلاطه، على شاكلة ما فعل المأمون مع علوم عصره التي تمّ نقلها إلى العربيّة. وأَخذ الأوربيّون يفتتحون المدارس في بلادهم لتحصيل العربيّة. ولكنّ هذه المرحلة لا تعنينا الآن، وإنّما نحفل بالتفات المستشرقين المُحْدثين إلى بلادنا ولغتنا وتراثنا وماضينا، يستنبشون الخفايا، ويغوصون بحثاً عن تفاصيل التفاصيل؛ ويجنّدون مناهجهم، المتطوّرة علميّاً، لاستجلاء ما غمض، وكشف ما دقّ، ولمّ شمل ما تبعثر، وتحقيق ما التبس. فعلوا هذا كلّه في البداية لأَغراضٍ تجاريّة، أو دينيّة تبشيريّة، أو لأَهدافٍ استعماريّة في ما بعد؛ ولهذا تبدّى الشرق العربيّ الإسلاميّ، في بعض كتاباتهم الأولى، على نحوٍ يشي بالتزييف والتحامل.
ولكنّ الاستشراق أَضحى، في تطوّره اللاحق، علماً عريقاً، يدلف إليه الإنجليز والفرنسيّون والأَلمان والطليان والروس وسائر أَبناء الشعوب الأوربيّة؛ بحيث اغتنت المكتبة العربيّة، منذ القرن السابعَ عَشَرَ، بآثارِ علماءٍ درسوا كلّ ما عندنا على نحوٍ إنسكلوبيديّ رائع. هم بذلوا الوقت المديد، والمال الطائل، والجهد الفريد، ليتعرّفوا إلى ماضينا وحاضرنا، وحقّقوا الشيء الكثير من آثار تراثنا ونشروه وبعثوه من رقدة المخطوطات إلى دولاب المطبعة. وهكذا قرأنا تراثنا المضيء، بواسطة عملهم الدؤوب، المفرط في الدقّة، المتناهي في عمليّة جمع ذرّات المعرفة. ومَنْ يتقصّ اليومَ أَعمال المستشرقين المستعربين وجمعياتهم ومعاهدهم ومؤتمراتهم ودوريّاتهم وتنقيباتهم، فهو واقف عند ذلك على حقيقةٍ يداخلها العَجَب: إنّنا برغم التقدّم الكبير الذي أَحرزناه، وبرغم ما أَخذنا عن الثقافة الغربيّة من مناهجَ وحقائقَ، مازلنا قاصرين عن بلوغ ما وصل إليه المستشرقون من مستوى علميّ موضوعيّ رفيع، وذلك في درس حضارتنا وتراثنا. هم أَدرى بنا ممّا نحن بأَنفسنا! .