ماهية التاريخ وكتابته

ماهية التاريخ وكتابته

التاريخ هو كل ما حصل في الماضي من أحداث لعب فيها الإنسان والزمان والمكان دوراً  أساسياً. وفعل الماضي مؤثر في الحاضر ومن ثم في المستقبل. التاريخ إذاً هو وقائع وأحداث وتجارب وقعت وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية فاعلة في الحاضر والمستقبل.

إن مشكلات الحاضر جذورها في الماضي، وهي مؤثرة في المستقبل، ولذلك هناك ما يربط الأزمنة الثلاثة عضوياً... الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا يفسح المجال لنا لذكر بعض الأمثلة على ذلك وهي كثيرة، فلاتزال مشكلات الحدود تؤثر في حاضر الدول وسيكون لها تأثير في مستقبلها، وهي مشكلة الحاضر وكانت مشكلة الماضي وهي كذلك مشكلة المستقبل. ومثال آخر من واقع الوطن العربي هو قضية فلسطين لقد بدأ التآمر عليها من وعد بلفور البريطاني أو الصهيوني في أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعد ثلاثين سنة قام الكيان الصهيوني عام 1948م في فلسطين وأصبحت قضية العرب الأولى منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، أي إنها قضية الماضي والحاضر، ولم يتم حل المشكلة وتبقى قضية المستقبل، اجتازت ثلاثة أزمنة وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أمثلة وقضايا لا حصر لها التي لم تنته بانتهاء أحداثها.
وإذا تكلمنا عن التاريخ كأحداث ووقائع فإن هناك فكراً تاريخياً مصاحباً لها وناتجاً عنها وهذا هو دور مدوني التاريخ، ومؤرخي أحداثه بتفسير الظواهر والمتغيرات والتجارب، لا بل إن الفكر التاريخي نفسه جزء من التاريخ يتغير ويتطور مع الزمن ليصبح لدينا تاريخ للفكر أيضاً.
لا يستطيع المتخصصون في العلوم المختلفة تجنب الخوض في التاريخ وهم يعالجون موضوعات في تخصصات غير تاريخية في الأدب والاقتصاد والسياسة والاجتماع والجغرافيا والقانون وغيرها. وقصر النظر والتسطيح الفكري والثقافي يجعلان البعض يطرح سؤال ما فائدة دراسة التاريخ؟ فإذا كان الهدف من طرح هذا السؤال معرفة تلك الفائدة، فهذا مشروع ومفيد، بيد أنه إذا كان الغرض والهدف هو عدم الانشغال بهموم التاريخ وقضاياه، فهذه مشكلة علمية وثقافية تحتاج إلى المعالجة لذلك القصور المعرفي والثقافي، ولسنا بصدد توصيف تلك المعالجة.    

التاريخ والحقيقة
إن دراسة التاريخ تهدف للوصول إلى الحقيقة، والوصول إلى الحقيقة بهدف التقدم، وهنا يمكن قول كثير، فكيف تتم عملية الوصول إلى الحقيقة؟ الجواب هو بتوفير وثائق الحدث التاريخي، ومن ثم يأتي دور دارس وكاتب التاريخ في الوصول إلى تلك الوثائق، ومن ثم تفسيرها، ومعرفة مدى صدقيتها، بيد أن هناك مشكلة في الوثائق نفسها، فإلى أي درجة هي موضوعية لم تدخل بها الذاتية، وتتأثر بظروف الحدث السياسية والاجتماعية وغيرها، وهذه مهمة أصعب تواجه الباحث في التاريخ، لأن معظم الوثائق التاريخية كتبتها القوى المسيطرة، والحاكمة، والغالبة، وقد لا تكون هناك وثائق مرادفة أو أخرى للمقارنة والاستنتاج.
ويلاحظ أن معظم الوثائق للسلطات والدول رسمية أكثر منها شعبية أو أهلية، ومن هنا تكمن الصعوبة في الوصول إلى الحقيقة. أما مسألة الجوانب التقديرية في فهم الأحداث التاريخية والكتابة عنها، فهذه مشكلة تتدخل فيها طبيعة فكر وثقافة الشخص، الذي يقوم بتلك العملية، وهنا لا تكون الوقائع والأحكام علمية وموضوعية حتى لو بدت كذلك من منطق الأحداث وإحداثياتها، وتأتي بعد ذلك طبيعة تفسير الوثيقة التاريخية، التي تدخل فيها مسألة الأهداف المرحلية لحاضر المفسرين الذين لم يعيشوا الحدث التاريخي، ويدخل التأويل، والمجاملة، والمبالغة، والأغراض السياسية وغيرها في ذلك التفسير، وأحيانا يحُمَّل النص ما لم يحتمل، وكثيراً ما تم تجيير وثائق تاريخية لأغراض سياسية، ونحن بشر معرضون بقصد أو من دون قصد لتحميل الوثائق التاريخية ما لم يحدث فعلاً في الواقع أو حدث ولم يكن لوقائعه الآثار والنتائج التي توصل إليها بعض المؤرخين.
إننا لا نلغي أهمية ودور الوثيقة التاريخية في كتابة وتفسير الأحداث التاريخية، ولكن الشك هنا مشروع في الوثيقة أياً كان نوعها، لأننا نكتشف بين الحين والآخر تفسيرات ومعلومات تاريخية غير التي تم نقلها وتفسيرها قبل ذلك، بل نكتشف تجييراً لوقائع تاريخية لأهداف سياسية وأكثر من ذلك تزويراً وتزييفاً للتاريخ. إنه من الطبيعي أن يتضح ذلك من خلال تجدد واستمرار البحث العلمي التاريخي، فتجد بحثاً في الموضوع نفسه بمنهجية ووثائق أخرى ليصل الباحث إلى حقائق مغايرة لتلك التي توصل إليها آخرون. 

مسألة التزوير والتزييف التاريخي
لأغراض ذاتية وعائلية ومصلحية وسياسية تتم عملية تزوير التاريخ، إما لإخفاء حقائق أو لي عنق الحقائق، أو لذكر وقائع لم تحدث والنفخ فيها، وخطورة الأمر أن باحثين جدداً يصدقون بعض تلك الكتابات، ويستندون إليها في مؤلفاتهم إما بقناعة منهم أو بجهل في المنهجية العلمية التاريخية أو بحثاً عن الأسهل والأيسر من المعلومات المتوافرة، أو بدوافع سياسية لا يقوى الباحث على مواجهتها. ويحدث كثيراً أن تتم عملية انتقاء لمعلومات عن مراجع ومصادر دون غيرها لتأكيد واقعة تاريخية بتاريخ وتوجه ليس هو الحقيقي. وتلعب السلطات في التاريخ دوراً في تلميع صورتها وإخفاء مشكلاتها، وهناك طابور من المرتزقة والوصوليين الذين جندوا أقلامهم لخدمة تلك السلطات في مراحل التاريخ المختلفة، ولهذا نرى اكتشاف حقائق تاريخية لم نعهدها من قبل باحثين منصفين، لا أن يتحول الطاغية إلى بطل والعكس، ويحدث ضمن ذلك التزوير والتزييف عملية تغييب لحقائق تاريخية، بيد أنها لا تختفي للأبد, بل قد تظهر في مراحل أخرى. من هنا نقول إن الكتابة التاريخية دقيقة وخطيرة يجب ألا يمارسها إلا الذين يملكون منهجاً علمياً موضوعياً صارماً وأخلاقاً مهنية عالية، وأخطر ما يواجه الكتابة التاريخية هو التوظيف السياسي لتلك الكتابة، سواء من قبل السلطات الحاكمة أو من قبل قوى سياسية لأهداف سياسية مرحلية، وهنا يراهنون على أمية قطاع واسع من ثقافة الناس التاريخية، وعلى ذاكرة النسيان لديهم ولا يهمهم انكشاف الأمر وتغيير الحقائق التاريخية بعد ذلك، أو أنهم لا يدركون أن ذلك قد يحدث.
وهناك صنف من كتبة التاريخ يلجأون إلى سرقة أعمال أقرانهم نصوصاً أو أفكاراً، وينسبونها إلى أنفسهم، ومن ممارستنا للكتابة التاريخية خلال العقود الماضية اكتشفنا كثيراً منها، والذين يخافون  من ذلك يلجأون إلى التكرار، سواء لأعمالهم في الكتابة التاريخية أو لأعمال غيرهم مع تغيير طفيف في العناوين والمصطلحات، ويحدث أن يتلاعب البعض في الترجمة من لغات أخرى والادعاء أنها من أعمالهم.
كثيرون يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه في التاريخ لا يفهمون منهج الكتابة التاريخية، والله يعلم كيف حصلوا عليها، وتكشفهم ضحالتهم، وتلاعبهم بعد الحصول على تلك الشهادات وممارسة الحياة العلمية والعملية، وهؤلاء موجودون يتاجرون بالعلم، ويتلاعبون في تعليم أبنائنا ودرجاتهم، وفاقد الشيء لا يعطيه إما لدوافع اجتماعية أو غيرها أو لتغطية الجهل في مادة التخصص معرفياً وثقافياً.

قضايا الكتابة التاريخية 
إن القضايا في شأن الكتابة التاريخية كثيرة ومتشعبة، منها الكتابات التاريخية لغير المتخصصين في التاريخ، وهؤلاء لابد من تصنيفهم، أولاً: أصحاب العلوم المساندة للتاريخ من حقهم أن يكتبوا في التاريخ، وقد تفوق بعضهم على عدد من المتخصصين في هذا المجال. وثانياً: عدد من هواة الكتابة التاريخية تنقصهم المنهجية العلمية في مجال التاريخ، ولذلك قد تشوه كتابات بعضهم الحقائق، أو تعالج قضايا ثانوية على حساب القضايا الأساسية، وتشغل الناس في أمور جانبية، وإشغالهم عن التفكير في القضايا الأساسية أو يحدث تزييف لحقائق تاريخية تؤثر على معرفة أو ثقافة عدد من قارئي التاريخ. وما يشغلنا بعد فترة طويلة من ممارسة الكتابة التاريخية أن تجاوز مرحلة الكتابة عن الوقائع في ما مضى من أحداث وتطورها وتداعياتها إلى مسألة مهمة وهي تاريخ الفكر المصاحب لتلك الأحداث أو السابق عليها. وفي مقالة كهذه من الصعب اللجوء إلى التفصيل في سردها أو ذكر الأمثلة التاريخية العديدة عليها فقط لنرجع إلى الثورة الفرنسية في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، لنكتشف أن الثورة لم تكن لتحدث لولا جهد الفلاسفة والمفكرين في نقد الواقع والتبشير بالتغيير، وكذلك يمكن أن ينطبق على عصر التنوير في أوربا كلها وليس في فرنسا وحدها لتنتج لنا الحضارة المعاصرة.
إن الاهتمام بهذا الجانب أساسي في الكتابة التاريخية بدراسة المناهج التاريخية والأيديولوجيات والفكر مصاحباً لمعالجة ماذا حدث  على أرض الواقع من متغيرات وأحداث.

لماذا نكتب التاريخ وندرسه؟
إننا ندرس التاريخ ونكتبه لأسباب عديدة سنذكرها هنا كنتيجة لما ذكرناه فى هذه المقالة من رأي قابل للحوار.
أولاً: إن هويتنا وثقافتنا المعاصرة والقادمة أساسها تاريخنا، وحرصنا على دراسته أساسي لمفهوم هويتنا.
ثانياً: إن مشكلات الحاضر تمتد جذورها إلى الماضي، وليست وليدة اليوم، ولذلك لا نستطيع أن نبعد الماضي عن الحاضر.
ثالثاً: إن تجاوز مشكلات الماضي والحاضر لا يتم إلا بدراسة جذورها وأسبابها بشرط ألا نكون ماضويين بل حداثيين.
رابعاً: إن علم التاريخ شامل لكل شيء حصل في الماضي، وهو لا يدرس لذاته، بل لأهداف ترنو إلى الاستفادة من تجارب الماضي.خامساً: مع ما في الماضي من سلبيات كثيرة فله إيجابيات كثيرة أيضاً لا يجب اجتزاؤها بالتركيز على جانب دون آخر.
سادساُ: إن ثقافة الإنسان مرتبطة بمعرفته التاريخية، وعلى المتخصصين مسؤولية معرفية وثقافية تاريخية.
سابعاً: نحن في عصر التخصص الدقيق، ولسنا في عصر العالم الموسوعي، ويبقي التاريخ مهماً لأي باحث خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن دون ذلك تكون الدراسات ناقصة.
ثامناً: إن الكتابة التاريخية مسؤولية كبيرة، وعلينا توخي الدقة والأمانة والموضوعية في التعامل مع أحداث التاريخ. تاسعاً: على الذين يتعاملون مع الكتابة التاريخية أن يراجعوا كتاباتهم، ولا مانع من تصويبها وتعديلها في ضوء المستجدات.
عاشراً: المتخصصون في العلوم التطبيقية والبحثية يحتاجون أيضاً إلى معرفة ثقافة تاريخية في مجالات تخصصهم أو ما يتعلق بها.
حادي عشر: ليس هناك موضوعية كاملة في الكتابة التاريخية، بيد أن المطلوب جرعة أعلى من الموضوعية لدى المتعاملين مع الكتابة التاريخية.
ثاني عشر: إن فكر واتجاه الذي يكتب التاريخ يؤثر في ماهية ما كتب لأنه بشر، لكن المنهج العلمي العقلاني هو التحدي أمام المتعاملين مع هذا المجال الحساس والمهم، وهذا هو رأي ورؤية في التاريخ وكتابته، وهو اجتهاد قابل للنقد.   
ثالث عشر: إن تنويع المصادر المتعلقة بالموضوع قيد الدراسة مهم في توثيق المعلومات للوصول إلى الحقيقة التاريخية .