دراما رمضان وتشوّه القيم الاجتماعية

دراما رمضان وتشوّه القيم الاجتماعية

يمكن القول وبكل صراحة إن المسلسلات التي تعرض في شهر رمضان ترفع شعار «اهبط بالمستوى «ترفع نسبة المشاهدة»، وبات الهدف الأول عند صُنَّاع دراما رمضان تحقيق مكاسب مادية ولفت الأنظار بأي شكل من الأشكال، من خلال نشر الفضائح، والكلام السوقي، والسخرية، وإظهار  مفاتن الجسد، وتعليم فنون تعاطي المخدرات والرقص الشرقي الفاحش.

منذ سنوات وهناك حالة ترد وانحراف متعمدة في الدراما الخاصة بشهر رمضان، وخاصة تلك التي ظهرت بعد أحداث الربيع العربي 2011، تحت قاعدة أن الفن مرآة المجتمع وانعكاس لواقعه، وهذا الأمر في حد ذاته يُشكل خطورة بالغة على المجتمعات والأجيال القادمة، خاصة أن القائمين على الإنتاج الدرامي أغلبهم تجار يقدمون كل سلعة لا تحمل قيمة ومضموناً بدافع مضاعفة هامش الربح، متخذين من قصص الشوارع الخلفية وحكايات الفتوة والاتجار بالسلاح والآثار والمخدرات والدعارة نموذجاً لتعميمه على واقع المجتمعات العربية.
بشيء من التفصيل قدمت الدراما العربية في رمضان 2016 نموذجاً أكثر من سيئ للجيل العربي المطحون بحكم مشاغل العمل والبطالة والبحث عن الرزق، وصدَّرت ثقافة الشر والقتل والعنف وأظهرت الحياة المخملية لتجار المخدرات والبلطجية، الذين يلبسون أفخم الملابس ويعيشون في قصور وفيلات، وتحيط بهم النساء والخمر والساقطات، ويثيرون غرائز الشباب المطحون بهذا الثراء الفاحش الذي جاءهم بسهولة، حتى رجال الشرطة في دراما رمضان، إما أنهم منحرفون وإما يعملون لمصلحة تجار المخدرات والسلاح. ودرجت الدراما المصرية المجهزة للعرض في رمضان تحديداً على تقديم صورة بالغة السواد عن مصر، تتضمن قيماً سلبية وعنفاً وتدميراً ورقصاً وملاهي ليلية، صورة غابت عنها الطبيعة المصرية التي نعرفها والقائمة على الاعتزاز بالأسرة والاحترام، وعمدت إلى نسف كل القيم الأساسية التي يفخر بها المجتمع بما احتوته من مشاهد المسلسلات لحياة الدعارة والملاهي الليلية والبلطجة والشوارع الخلفية.

الدراما السورية
أما في الدراما السورية فقد تنوعت الموبقات، فبعد أن كانت تتناول غرف النوم والخيانات وتعدد العلاقات من سنوات ماضية، درجت في رمضان الماضي على تقديم العلاقات المحرمة كوسيلة للترويح عن النفس وجزء من الحرية الشخصية أو كوسيلة لرد الخيانة بخيانة، واليوم كان الأبرز تكريسها لفكرة العصابات والمافيات والإجرام في المجتمع السوري، وجعلها السّمة الغالبة على الأفراد والجماعات وتكرارها، بالإضافة إلى دخول ضيف جديد على الدراما السورية هو تجارة وتعاطي المخدّرات وانتشارها في المجتمع السّوري في فئة الشباب والمراهقين، أما الكحول فقد أظهرت الدراما السورية أنّ المواطن السوري الذي يطفح الدم ليل نهار، لا يحتسي إلا المشروبات الكحولية.
وفي دراما المغرب العربي، وإن كان كثيرها لا يصل إلى مشرقه بحكم اللهجة ومحددات ومطالب المعلنين؛ فقد اتجهت إلى تعرية الواقع وتدور في الدائرة المغلقة ذاتها من عرض حالات تتعرض للرذيلة وتعاطي المخدر والانحراف والخيانة الزوجية والإرهاب في تكرار ملّه المشاهد وغابت عنه المضامين المتنوعة مع غياب تام للمسلسلات التاريخية أو الاجتماعية، في مسعى لخلق صورة جديدة للإنسان العربي ورسم أشكال مغايرة لما هو موجود في الواقع اليومي.
أما خليجياً، فهي على ذاتها، فلا جديد فيها، وتأخذ الأحداث دائماً منحنى تراجيدياً مأساوياً وكأن الحياة مجموعة من الأحزان المستمرة، وكأن المجتمعات لا يوجد بها سوى الحزن، فيعتقد المتابع أنه أمام مجتمعات تتفنن في الحزن؛ تدور في مجملها حول قضايا هامشية وهي في المجمل تكرار ممل لحلقات يشعر من خلالها المشاهد بامتعاض لتناقلها طرح قضايا ومواضيع تجاوزها المواطن الخليجي بكثير.

دراما قاتمة لهدم الأسرة
أما بالنسبة لوضع المرأة، فصُنَّاع دراما رمضان 2016 كانوا مشغولين بتحرير جسدها أكثر من انشغالهم بتحرير العقول من الجهل، وتحولت الفضائيات العربية في سهرات رمضان من منبر لكشف الحقائق إلی منبر لكشف العورات.
لقد أبدع كتَّاب المسلسلات في بيان التحرش بالمرأة، ليس بتقديم الحلول ولكن بشكل قائم على تأجيج الظاهرة، وتداول أنماط سائدة في التعبيرات التي تركز على فاحش القول، لتدور عدسة المخرج وتبحث بين ثنايا الحارات الشعبية والشوارع الخلفية والملاهي الليلة بعدسة مقربة جداً عن المفاتن الجسدية، والنص المصاحب لها وبكل أسف له إسقاطات تنطلق من مفردات الغزل الشعبية المتداولة في كثير من تفاصيل حياة المدن العربية هنا وهناك.
حملت دراما رمضان 2016 صورة مقيتة سوداوية للمرأة برزت خلالها صورة المرأة سيئة الخلق، فظهرت - وفق دراسة الصندوق القومي للمرأة في مصر - أشكال مختلفة للنساء، منها المرأة الراقــــصة وفـــتاة الليل، والمريضة نفسياً، والمطلقة التي تخطف الزوج من زوجته، والمرأة العاملة غير الناجحة في حياتها الأسرية، وإظهار المشكلات النفسية التي تعاني منها المرأة، والكــــثير من مظـــاهر العنف ضد المرأة، مادياً أو معنوياً أو كليهما معاً، سواء بالإهانات اللفــظية أو بالتعدي بالضرب، كما لوحظ معاناة المرأة من العنف المعنوي والقهر، من الأسرة أو الزوج أو المجتمع.

العجز الرسمي
على المستوى الرسمي يقف القائمون على القطاعات الإعلامية في كثير من الدول العربية موقف المشاهد السلبي، فيشاهدون السموم وهي تتكاثر هنا وهناك في فضائية أو برامج تعمد إلى التسطيح دون محاولة لتقييد لهذا التكاثر المسموم، أو ممارسة حقهم الطبيعي في إغلاق الفاسد منها، أو على الأقل تقنين المضمون وأوقات المشاهدة، كما يفعل كثير من الدول التي تحترم جمهورها، فهو غائب في شرائعهم، مما جعل أصحاب تلك الفضائيات بوقاً لكل رأي شاذ يلوث الجمهور بأوهام صناعة الفكر والرأي، وهو فكر ورأي ملوث. 
والغريب أننا نقف عاجزين غير مدركين حجم التلوث، أما أصحاب الرأي والخبرة الإعلامية والاجتماعية؛ فهم مشاركون في الغالب الأعم في الجريمة، فلا تجدهم يطرحون سؤالاً واحداً لملاك الفضائيات أو في مؤسسات المجتمع المدني: هل الفضائية التي تقدم ذلك التلوث الإعلامي مدركة لرسالتها؟ هل تؤمن فعلاً بأخلاقياتها المهنية والمواثيق الإعلامية التي وافقت عليها عند البث؟ أم أن رغبات الممول الخفي هي مصدر الإلهام لهذا المضمون الإعلامي الفارغ؟ 
إن التسطيح الفكري والانهيار الأخلاقي اللذين نشاهدهما في الفضائيات العربية يؤكدان بشكل حازم أن الممولين، وإن زاد عددهم، إلا أن الفكرة والمحصلة النهائية لهذا التلوث واحدة متشابهة ملموسة، وإلا ما معنى تكاثر السموم وانهيار النسيج القيمي والأخلاقي والديني للمجتمع بفعل تأثيرات الإعلام الواضحة ؟
هذا التسطيح قادنا بإرادتنا نحو المذبح، حيث تغلغلت السطحية الإعلامية في فكرنا وإعلامنا، وقضت على كل حصون الممانعة الدينية والثقافية، وبالتالي هُزمنا بأيدينا بعد أن تنازلنا طوعاً عن ممانعتنا القيمية. وطغى البُعد التجاري والترفيهي على القنوات الفضائية، وسيطر عليها إعلام التهميش والتهريج، وغابت الرؤية الثقافية والإعلامية الواضحة، وأصبحت العلاقة بين الوسيلة الإعلامية والجمهور علاقة معقدة تحدد فيها المصالح وفق مبدأ تجاري لا يُلتفت فيه كثيراً إلى رغبات الجمهور، وأصبحت الخصوصية العربية محطة للتجريب عند أصحاب القنوات، وكل صاحب قناة يدلي بدلوه ويجرب ويقرر - بناء على ردات الفعل العربية - ما يصلح وما لا يصلح للبث، فتحولت الفضائيات العربية بفعل هذه العقلية التجارية الضيقة إلى بقالات صغيرة، لبيع المفاسد مباشرة على الهواء، تقدم للجمهور بضاعتها الفاسدة التي لا صلة لها بقيم أو أخلاق أو حتى مراعاة لواقع الحياة اليومي العربي وبناء المشاهد الواعي.
عندما غابت سلطة المشاهد ظهرت مسلسلات تتناول مشاكل المجتمع بصورة سلبية تؤثر عليه وتعطي رسالة سلبية للنشء بأن يأخذ حقه بالسلاح والقتل، فالنموذج المفضل الآن هو البطل الشعبي الذي يأخذ حقه بيده ممارساً كل أشكال العنف والبلطجة، بعيدًا عن سلطة المجتمع والدولة والقانون، أما الدراما النسائية فهي أيضاً لا تقل وقاحة وتنشر قيماً لا أخلاقية تمجد بائعة الهوى والراقصة، أما الخيانة فمنذ سنوات وهي تقدم دروساً متواصلة في أسس الانحراف. 
إن ما يعانيه الإعلام العربي وصُنَّاع الدراما هو فراغ ثقافي وديني كبير، وبدلًا من أن نملأه بقصص هادفة، نقدم مسلسلات تتضمن حوارًا مبتذلاً ومشاهد تؤثر سلبًا على المشاهدين من خلال تقديس صورة البطل وإيجاد الذرائع للخيانات المتواصلة التي تقدمها المرأة في الدراما.
ووفق تلك الصورة السوداوية التي تم عرضها، لا يبدو أن هناك بصيص أمل في حدوث انقلاب في آليات عرض الأعمال الدرامية، وبات الجمهور - وفق صُنَّاع الدراما - مجرد وعاء يمكن تعبئته بأي شيء، ولا يمتلك لا الإرادة ولا الوعي ولا الذائقة التي تؤهله لرفض ما يقدم له. إن الحل الذي يمكن أن يقوم به المجتمع هو أن يضع سؤالاً عند كل مشاهدة لأي برنامج: ما المردود الفكري والإنساني من وراء المشاهدة؟ وإن نجح في الإجابة بصدق عن هذا السؤال فقد تحققت سلطة المشاهد التي تسهم في تطوير جماليات تلقي الأعمال الدرامية من خلال ارتفاع الوعي الناقد لدى المشاهد.
إن تعزيز سلطة المشاهد الواعي يمكن لها أن تحاكم أي عمل فني من خلال الخبرات التراكمية التي اكتسبها من المشاهدة .