«الخروج»... دراما الجريمة لا تشفع لصنَّاعها الاستخفاف بعقولنا

«الخروج»... دراما الجريمة  لا تشفع لصنَّاعها الاستخفاف بعقولنا

المط والتطويل والأحداث المكررة، كانت سمة غالبة في مسلسلات رمضان الماضي، بحيث نجد كلا منها يفتح أحداثاً أخرى وخيوطاً فرعية جديدة، هدفها وصول حلقات المسلسل إلى الثلاثين، وربما يتعدى بعضها ذلك، هي ظاهرة رفضها النقاد وشنوا هجوماً عنيفاً عليها في السنوات الماضية، ولكنها لاتزال مستمرة لحسابات أخرى ومصالح مادية بين المنتجين والمؤلفين وفضائيات التسويق. ومن الظواهر الأخري التي انتشرت - وإن لم تكن جديدة - ظاهرة الاقتباس من الأعمال الأجنبية في السنوات الأخيرة، التي أصبحت اتهاماً يطارد عدداً من المسلسلات كل عام، وهو ما كان شديد الوضوح من المشاهد الأولى للمسلسل المصري «الخروج» وافتتاحه بمشهد قتل طقسي داخل إحدى قاعات الفن التشكيلي على خلفية موسيقى ملحمية غربية، وكان واضحاً من الوهلة الأولى أن المسلسل يقتبس فكرة فيلم Seven أو الخطايا السبع للمخرج ديفيد فينتشر، وتناص كامل مع  مسلسل التحقيقات السويديّ/الدنماركيّ on/Broen. وعلى النقيض من الفيلم أو المسلسل الدقيق بتفاصيله والتعبير عنها على نحو منسق، فالسيناريو كان دقيقا في سرد تسلسل الأحداث وعبقرياً في صنع الأجواء المثيرة التي تجعل المتلقي يتابع هذا الفيلم بشغف. جاء سيناريو «الخروج» مهلهلاً مفككاً، فرغم أن ضابط المباحث عمر فاروق - ويقوم بدوره ظافر العابدين - قدم استقالته على خلفية اتهامه باستخدام أساليب عنيفة تصل للتعذيب، فإننا نجده يواصل أسلوبه العنيف الإجرامي نفسه في انتهاك القانون وحقوق المتهمين الذين هم أبرياء إلى أن تفصل المحكمة في إدانتهم.

قص ولصق
ينهج عمر أسلوبه العنيف في أثناء متابعة قضية القتل. مفارقة أخرى تتعلق بمشاعر «ليلى» المحامية التي يبدو أنها كانت وراء إدانة عمر بانتهاك القانون، ولم يقدم لنا السيناريو تطوراً لتلك العلاقة التي تحولت من النقيض إلى النقيض، كما لم يقدم لنا تفسيرا منطقيا لوجود رقم ليلى بداخل فم النصف العلوي من جثة القتيل رجل الأمن، بينما النصف السفلي لتاجر مخدرات، وهنا يبرز السؤال: ما الذي يربط بين تلك الشخصيات؟ فبينما تنمو العلاقة طبيعية سلسة بين التحريان ديفيد ميلز (برات بيت) ووليام سومرست (مورجان فريمان) في البحث عن المجرم غريب الأطوار المهووس بقصص دانتي والميثيولوجيا عن الجحيم وعلم اللاهوت، لا نجد هذا في العلاقة بين عمر فاروق والضابط الجديد (ناصر محمود)، الذي أداه ببراعة النجم شريف سلامة، والصورة الأمريكية عن الشريكين التحريين لم تقدم تطوراتها رغم المط والتطويل والتكرار في المشاهد، التي لو حذف نصفها لما تأثر السياق الدرامي أو الزمني للأحداث، فقد تطلب الوصول لمشهد قتل اللواء صالح إبراهيم (لعبه الفنان صلاح عبدالله بأداء باهت لا جديد فيه) أكثر من أربع حلقات.
من الأحجيات التي يتركها القاتل المجهول وراءه صورة لتمثال العدالة وسيفها المكسور، وابتزازه للدولة بإطلاق سراح ثلاثة سجناء مقابل الإفراج عن اللواء صالح إبراهيم، وإقحام مسلسل البراءات لبعض رموز النظام المباركي من المتهمين بقتل ثوار 25 يناير كدليل على العدالة المعوقة التي تكيل بمكيالين، فبرغم أن أحد المسجونين متهم بإحراق إحدى المحاكم، نرى السيناريست مؤلف العمل محمد الصفتي يقدم شقيقه ووالده كأشقياء وبلطجية، يسرقون سلاح الضابط الحكومي الذي بدوره يستعين ببلطجية آخرين لاستعادته، وربما حاول السيناريو رسم صورة للضابط الفاسد الذي يستغل نفوذه لإقامة علاقة مع إحدى فتيات الليل، لكنها جاءت صورة سطحية، فبينما ناصر محمود لا يجد الوقت لبناته أو زوجته، والبيت بالنسبة له مجرد فندق للنوم فقط، تحت ضغوط العمل وانشغاله الدائم به، نجد لديه الوقت الذي يمضيه في اللهو. في حين أن السيناريو قدم قبلها مشهدا لابنته مقيدة بصحبة شاب تعرفت عليه عبر الشات، بل تدمر حياته الزوجية عندما تخبر زوجته بتلك العلاقة، لكنه لا يتورع عن التورط في علاقات شائنة ومشبوهة مع الساقطات طوال أحداث المسلسل، وكأنه تعمُّد من صنَّاعه لتكريس الصورة السلبية لرجل الشرطة، وأنهم ليسوا أكثر من بلطجية بسطوة السلطة واحتكار العنف. وهي الصورة التي أصبحت سائدة ونمطية بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011. وكأننا أيضا أمام عمل آخر ينتقم من جهاز «الداخلية» المصري، متغافلاً أو متجاهلاً عن عمد مئات الشهداء الذين يقعون من أفراده يوميا وعلى مدار الساعة، سواء في عمليات مكافحة الإرهاب في سيناء، أو في أثناء أداء واجباتهم المنوطة بهم في غيرها.

مفارقات وتناقضات
تشير خيوط التسلسل الدرامي إلى ضلوع الدكتور صبري عنايت الذي تألق في أدائه، خاصة أنها شخصية مركبة شديدة التعقيد أحمد كمال في سلسلة الجرائم ردا على فرار مغتصب ابنته المتوفاة إكلينيكياً، لكنه يصر على إبقائها متصلة بأجهزة الإعاشة الصناعية. وكان من الأمور اللامنطقية أن يترك ابنته الوحيدة غارقة في غيبوبة ويهيم على وجهه، في نوبة استيقاظ ضمير غير حقيقية، فبينما يوزع أمواله على المحتاجين لا يتورع عن ارتكاب الجريمة تلو الأخرى، من أول التحرش بممرضات المستشفى واستغلالهن واستمرار هذه الممارسات حتى بعد ما أصاب ابنته، وصولا إلى القتل بالشبهة مستعينا بأحد المتشددين من السلفيين وإقحام ظاهرة جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا سياق منطقي أو مفهوم.
أما الأكثر عبثية فهو علاقته بزوجته الدكتورة راجية علام التي تألقت في أدائها الفنانة سلوى محمد علي، ففي الوقت الذي تحاول استعادته وإخراجه من حالة فقدان التوازن التي أصابته، مرددة طوال الوقت أنه لم يعد لديهما سوى بعضهما بعد وفاة ابنتهما، تدفع إحدى الممرضات لتأسره في شباكها وعندما يقدم على خطوة الزواج منها تثور ولا تهدأ حتى يطلقها، بعدما تنصب لها فخا مع عشيقها، الذي يلاحق بدوره الدكتور صبري عنايت لينتقم منه ثأرا لزوجته التي صدمها بسيارته، وبرأ القضاء ساحته. إن انتقام الزوج كان تمردا على العدالة العرجاء التي رأت أن مقتل زوجة وأم وتهدم أركان حياة أسرة بأكملها، قتل خطأ سوى بالكفالة وحكم مخفف مع إيقاف التنفيذ، فالقاتل من السادة صفوة المجتمع، يملك أن يدفع الدية (الكفالة) مقابل حيوات أكثر من أربعة أفراد في المجتمع!  

النوايا الحسنة
النوايا الحسنة لا تصنع دراما جيدة حتى ولو على مستوى التسلية أو المتعة، والسيناريو المهترئ لمسلسل «الخروج»، يستنسخ دراما الجرائم بأجوائها الغريبة عن متلقي العمل، تستخف بعقله، فلا تطور للشخصيات والعلاقات بينها ولا تصاعد درامياً طوال الحلقات التي جاوزت نصفها ولم نشاهد سوى مط وتكرار واستنساخ للمشاهد بلا سياق درامي أو ضرورة فنية، إنما ملء لساعات مشاهدة ليس أكثر.
وقع المسلسل في كثير من المتناقضات اللامنطقية، فبينما الضابطان ناصر وعمر ينتهجان أسلوب العنف في الاستجواب، نراهما يختطفان أحد رجال الأعمال المهددين بالقتل لحماية حياته، رغم أنهما مؤمنان تماما بأنه لا يستحق سوى القتل لفساده وإفساده. يقدم المسلسل حجة لدفاعهما عن رجال الأعمال الفاسدين ألا وهي إنفاذ القانون وتطبيقه! كما لم يقدم صنَّاع العمل تطوراً منطقياً أو خلفية ولو قصيرة عن دوافع وأسباب انحراف «شهيرة» التي لعبت دورها الفنانة علا غانم، وإن كانت كعادة الدراما المصرية تردد طوال مشاهدها أن العوز والفقر كانا وراء انحرافها، وإن كانت ذريعة واهية بلا منطق خاصة بعدما تقدم أحدهم للزواج منها ورفضته، بل وسلكت إحدى شقيقاتها سلوكها في العمل كغانية!
لم يخلُ المسلسل من بعض اللمحات الإيجابية، ودقه ناقوس الخطر المستمر والقائم دائما عن غياب دور الأب في الأسرة وتأثيره القاتل، سواء في حياة ليلى المحامية، أو اضطرارها للخضوع لأوامر القاتل واستخدامها لها في تنفيذ جرائمه حماية لحياة ابنها المهددة طوال الوقت من القاتل وابتزازه لها.
الأمر نفسه نجده مع الضابط ناصر محمود من حيث انشغاله الدائم بالعمل وغيابه عن منزله وأسرته، فلا تواصل مع ابنتيه خاصة المراهقة، وعدم سيطرة وانعدام جسور من الثقة والتواصل بين الابنة المراهقة وأمها، فتندفع الفتاة لمغامرات خطيرة مع شباب تلتقيهم عبر غرف الدردشة الإلكترونية. وحتى بعدما يضبطها والدها ناصر محمود مع أحد هؤلاء الشبان في وضع مخل بالسيارة على الطريق الصحراوي، لا يلتفت إلى هذا المنحنى الخطير في حياة ابنته، بل يواصل الغياب وإهمال أسرته وزوجته. وهي قضية شديدة الخطورة في الأسر العربية عامة والمصرية خاصة، فمع انشغال الأب والأم بالعمل، وغيابهما عن المنزل والأولاد لفترات وساعات عمل طويلة، تزداد مساحات تدخل الأغراب في حياة الأولاد والهيمنة عليها، سواء من رفاق الدراسة أو مرتادي الواقع الافتراضي الإلكتروني، وهو ما نشاهد نماذج حقيقية منه على أرض الواقع تنتهي نهايات مأساوية مؤسفة، وربما كانت هذه هي النقطة الإيجابية الوحيدة في المسلسل.