عناصر القص في تراثنا الإسلامي

عناصر القص في تراثنا الإسلامي

تنطوي علاقتنا مع «تراثنا الإسلامي» على أبعاد معقدة، بدءاً من إدراكنا للمفهوم نفسه، فالبعض يُضيق المفهوم كي يقصره على ما يتعلق بالكتاب والسنَّة وآثار الصحابة وكبار الفقهاء، أي على العلوم الدينية من نصوص وتفسير وفقه وعقيدة.
ومن ثم يكاد يقتصر المفهوم زمنياً على فترة النبوة وما تلاها من عقود قليلة، ومكانياً بما لا يتجاوز تقريباً شبه الجزيرة العربية.

لكن معنى التراث الإسلامي أكثر رحابة في مفهومه وزمكانيته، فهو يشيــــر إلى «هــــوية» مجمـــوعة من الأمم التي ارتبطت تاريخياً بالدين الإسلامي، ويحيلنا إلى بعدين: البعد المعنوي المرتبط بالنصوص الدينية والتقاليد والقيم والعادات والقصص والشعر، والبعد المادي الذي يظهر في العمارة وإنشاء المــدن والآثار المختلفة.
ومن ثم فإن التراث الإسلامي هو نتاج عمليات تاريخية متراكمة ساهمت فيها أمم وأقوام شتى، من العرب والترك والفرس والأكراد والمغول والهنود وغيرهم.
ويمكننا القول إن هناك تصوراً مغلقاً ومحدوداً لـ «التراث الإسلامي» كمفهــــوم عقائدي تقريباً، مقابل مفهوم حضاري منفتح ومتجدد. وقد سعى البعض دائماً إلى الاكتفاء بالمفهوم الأول وتكريسه وتهميش وإلغاء المفهوم الآخر.
وكان من أسباب ذلك، أن المفهوم الأول ارتبط بالخطابات والممارسات الدينية والرسمية، بينما المفهوم الآخر كان أكثر تنوعاً، وثراء، وتعبيراً عن الثقافة الشعبية.
في ضوء ذلك نفهم، مثلاً، إعادة طبع وتلخيص مؤلفات «ابن كثير» المؤرخ والمفسر، في مقابل الهجوم على مؤلفات مثل «ألف ليلة وليلة» و«الأغاني» و«المقامات» والاستخفاف بها، وإقامة ما يشبه تراتبية تُعطي المكانة للمنجز «الرسمي» وليس «الشعبي»، ولـ «النقلي» على «العقلي»، ما أحدث نوعاً من القطيعة مع أجزاء مهمة في تراثنا الإسلامي.
يُضاف إلى ذلك إشكالية أخرى تجلت مع محاولات النهضة المرتبكة قبل قرنين من الزمان، واستيراد أشكال تعبير من الغرب مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرح.  ففي ظل ما يشبه القطيعة مع تراثنا القصصي، انتشرت مسلمات تبادلها النقاد والمؤرخون من قبيل أن أشكال التعبير المستحدثة لا وجود لها في ثقافتنا العربية والإسلامية.
ويمكننا فهم ذلك في ضوء مركزية الغرب ونظرية «الاستشراق»، والتماهي مع المستعمِر والنماذج التي يقررها ويفرضها على المستعمَر. هذا التماهي مع الغرب جعلنا أحياناً نتنكر لتراثنا أو نقف منه موقفاً عدائياً، ونكرس الفجوة القائمة بيننا وبينه. ويظهر هذا التماهي بشدة في استيراد «العمارة الغربية» وتدهور «العمارة الإسلامية»، رغم ما تميزت به من صحون وانفتــاح على الشمس وقباب ومشربيات. كما نرى ذلك أيضاً في ذيوع مطاعـــــم الوجبــات الســـريعة وشبه انقراض أنماط وأشكال الأكـــلات المحلية!

جذور الحكاية التراثية
وثمَّة سبب آخر، وهــــو أننـــا نقـــيـــس نصـــوصنا القديمة التي كُتبت قـــبل أكـــثر من ألــــف عام بمقاييس هذه الأيــــام، فـــإذا لم تـــكن «الحكاية التراثية» مطابقــــة لجماليــــات القصـة القصـــيرة الآن، فلا نستطيع أن نعتبـــرها «قصة»، وربما نسلبها ما تتمتع به من قــــيم أدبـــــية، من دون أن نضع في الاعتبار تطور الفنــــون السردية حتى في الغرب نفسه، وأنه من المفترض عند تحليلها جمالياً أن نضعها في سياقها التاريخي.
بهذا المعنى يمكننا أن نعتبر المقامات وحكايات الشُّطَّار والعيارين بذرة لـ «دون كيشوت»، كما أثبت المستشرقون الغربيون أنفسهم أن «رسالة الغفران» للمعري كانت نواة مهمة لـ «الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«حي بن يقظان» تركت أثراً هائلاً على الآداب العالمية، وعلى الســـينما أيضاً.
فليس صحيحاً أن تراثنا الإسلامي يقتصر على الجانب العقائدي فحسب، ولا على الشعر وحده، حتى وإن كان ديوان العرب، ولا على أمة واحدة، ففي «ألف ليلة وليلة» مجهولة المؤلف، أو المؤلفين، يتضح بسهولة أن هذا السفر العظيم تمت كتابته تحت تأثير ثقافات بغداد والقاهرة وبلاد فارس والهند.
وعندما نتحدث عن فن «القصة القصيرة» وننسبه إلى الغرب، وإلى رواد أمثال تشيخوف الروسي وجي دي موبسان الفرنسي، وإدجار آلن بو الأمريكي، فهذا لا ينفي أن لهذا الفن جذوره البينة في تراثنا العربي والإسلامي،  وهي جذور كانت - ومازالت - قابلة لاستنباته وتطويره.
ففي تراثنا ذاعت فنون سردية تتصف بالإيجاز والمفارقة والتمثيل وحس السخرية، وكلها من مقومات وأركان القصة القصيرة اليوم، منها ما يسمى «فن الأمثال». ففي كتابه «سرد الأمثال» الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سورية، يتطرق د. لؤي حمزة عباس بالتحليل المتعمق إلى سردية «الأمثال» تطبيقاً على كتاب «أمثال العرب» للمفضل الضبي، ويكشف البنى السردية التي تحكمها، مثل الاستهلال: أول من قال كذا.. زعموا أن كذا (في إشارة إلى رواة غائبين)، ورواية الحكايات التي تنتهي بأن تصير مثلاً معبراً عن وعي جمعي. 
ومن أهم ما يميز المثل أيضاً العناية بالشواهد الشعرية والقصة والتفسير، وغالباً ما تنتهي السردية بإنجاز «المثل». وتكمن أهمية هذه الدراسة في التأكيد على العناصر السردية مهما صغر حجم المثل.
ومن نماذج الأمثال، نقلاً عن «المنتقى من أمثال العرب وقصصهم» لسليمان الخراشي، دار القاسم، نقرأ قصة مثل «على الخبير سقطت»، فالخبير هو العالم، والخبر العلم، وسقطت أي عثرت عليه، ويقال إن المثل لمالك بن جبير العامري وكان من حكماء العرب، وتمثل به الفرزدق للحسين بن علي رضي الله عنهما، حين أقبل يريد العراق، فلقـــيه وهو يريد الحجاز، فقال له الحسين رضي الله عنه: ما وراءك؟ قال: على الخبير سقطت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والأمر ينزل من السماء، فقال الحسين رضي الله عنه: صدقتني.
وإذا كان الكثير من الأمثال تعود إلى عصر الجاهلية مثل: «على نفسها جنت براقش»، و«خلا لك الجو فبيضي واصفري»، «إن وراء الأكمة ما وراءها»، إلا أن المسلمين الأوائل اعتنوا بتوثيقها، وأضافوا عليها الكثير من القصص والروايات مما وقع في زمنهم.

فن الخبر
وإلى جانب فن «الأمثال» لدينا أيضاً «فن الخبر»، وتشير حنان مدراعي في دراستها بمجلة الرافد، التي جاءت تحت عنوان «فن الخبر في التراث النثري القديم... المفهوم والتطور» إلى أنه فن قصصي يتسم بالبساطة والاقتصاد في الأسلوب، واعتماد السند (العنعنة)، وعدم الامتداد في الزمن والمكان، والتركيز على الحدث بدلاً من الشخصية، والتزام ترتيب محدد في البنية السردية، كما يتشابه أيضاً مع النادرة والخرافة.
وتشير مدراعي إلى أهم المصنفات التي احتوت على الأخبار، فأولها وأشهرها كتاب عبيد بن شرية الجرهمي في الأخبار في زمن معاوية، وكتاب «التيجان في ملوك حمير» لوهب بن منبه، وثمة مؤلفات تراثية كثيرة غلب عليها تجميع الأخبار مثل: «البرصان والعرجان والعميان والحولان» للجاحظ، و«الأذكياء»  و«أخبار النساء» لابن الجوزي، و«الكامل» للمبرد، و«الأغاني» للأصفهاني، و«أخبار القضاة» لأبي بكر محمد وكيع، و«المختار من نوادر الأخبار» للمقري، و«لطائف الأخبار» للتنوخي.
وكان من غايات «الخبر»، بحسب الباحثة، أنه مصدر وأصل كل العلوم والمعارف، فضلاً عن الغاية الأخلاقية، وتحقيق الأنس، وبعث اللذة النفسية وإمتاع المتلقين.
ونقلاً عن كتاب «أخبار الظراف والمتماجنين» لابن الجوزي، بعناية بسام الجابي، دار ابن حزم، نورد أنموذجاً لفن «الخبر».
«قال المدائنيُّ: كان المطلب بن محمد على قضاء مكة، وقد كان عنده امرأة قد مات عنها أربعة أزواج، فمرض مرض الموت، فجلستْ عند رأسه تبكي، وقالت: إلى من تُوصي بي؟ قال: إلى السادس الشقي».
نلاحظ هنا أن «الخبر» يطابق «الطرفة» أو ما نسميه اليوم «النكتة»، لا يميزه عنها سوى الحرص على الإسناد والعنعنة، باعتباره خبراً واقعياً.
لكن على مستوى آخر قد يمتد ويطول «الخبر» ويتعقد بناؤه قليلاً، وتُضاف إليه شخصيات أخرى، ونحن هنا لسنا مشغولين بمدى وقوعه في الحقيقة، بقدر الانشغال بجوهره الأدبي وعناصره السردية.
ومن تلك الأخبار التي يطول حجمها عن «الطرفة»، وتهدف إلى تأكيد أهمية الدهاء والحيلة وحسن التخلص، وليس إلى إضحاك المتلقي، ما يُروى عن كلثوم بن الأغر (المعروف بدهائه) والذي كان قائداً في جيش عبدالملك بن مروان، وكان الحجاج بن يوسف يبغض كلثوماً فدبَّر له مكيدة جعلت عبدالملك يحكم على كلثوم بالإعدام فذهبت أمه إلى عبدالملك تلتمس عفوه، فاستحى منها لأن عمرها جاوز المائة عام، فقال لها سأجعل الحجاج يكتب في ورقتين الأولى: يُعدم وفي الورقة الثانية: لا يُعدم، ونجعل ابنك يختار فإن كان مظلوماً نجَّاه الله.
وقام الحجاج بكتابة كلمة «يعدم» في الورقتين وتجمع الملأ في اليوم الموعود ليروا ما سيفعل كلثوم، فلما جاء في ساحة القصاص قال له الحجاج وهو يبتسم: اختر واحدة، فابتسم كلثوم واختار ورقة وقال: اخترت هذه... ثم قام ببلعها من دون أن يقرأها، فاندهش عبدالملك وقال: ما صنعت يا كلثوم؟! لقد أكلت الورقة دون أن نعلم ما بها!
فقال كلثوم: يا مولاي اخترت ورقة وأكلتها دون أن أعلم ما بها، ولكي نعلم، انظر للورقة الأخرى فهي عكسها، فنظر للورقة الباقية فكانت «يعدم»، فقالوا: لقد اختار كلثوم «ألا يعدم».
في هذا «الخبر» تتوافر كل عناصر القص لأي قصة قصيرة:
1 - السارد: شخص ما محايد، غير متورط في الحدث، مراقب، قد يكون مؤرخا.
2 -  الحدث: مكيدة الحجاج لكلثوم.
4 - الزمان: عهد عبدالملـــك بن مروان.
5 - المكان واقعي: قصر الخليفة (غير معلن صراحة)، ساحة القصاص (ليست موصوفة).
6 - الشخصيات: البطل كلثوم والذي يواجه تهديداً جدياً على حياته، الخليفة عبدالملك، الحجاج، والدة كلثوم، حشود العامة. 
7 - المفارقة: حيلة ذكية صغيرة قد تنقذك من خطر الموت.
من خلال نموذج «الخبر» الذي قمنا بتشريحه، يتبين أنه يحتوي على جميع عناصر القص الحديث. وليس معنى ذلك أن العرب والمسلمين عرفوا فن «القصة القصيرة»، بل كان لديهم ما يشابهها، في سياقهم الزمني، وعدم تطويرنا لهذا الفن يأتي بسبب الفجوة والقطيعة بيننا وبين تراثنا.
قد لا يبدو سهلاً تحديد الفروق الفاصلة بين «الخبر» و«المثل» و«الخرافة» على لسان الحيوان، و«الأسطورة»، و«الحكاية» الخيالية، و«الطرفة» و«النادرة»، و«اللوحة» السردية الساخرة، لكن أهمية هذه الأشكال السردية القصيرة، تكمن في ما يلي:
التأكيد على عظمة تراثنا السردي بما يتلاءم مع طبيعته الشفاهية آنذاك، حتى بعد انتشار التدوين. عدم صحة ما يُقال بأن العرب والمسلمين لا يملكون تراثاً قصصياً، وأنهم كانوا يفتقرون إلى «الخيال» و«الحس النقدي» حسب أقوال بعض المستشرقين.
هذا التراث السردي الثري تعرض للتهميش وعدم الاعتناء، بسبب تراتبية الاهتمام بالتراث العقائدي وشروحاته، وهو التهميش الذي طال سرديات شعبية مطولة أيضاً مثل: السيرة الهلالية، وسيرة عنترة، والأميرة ذات الهمة، وغيرها.
وبالفعل نشطت في الآونة الأخيرة الدراسات البلاغية والسردية التي تُعنى بتطبيق المناهج الحديثة في قراءة وتدقيق هذا التراث وإعادة الاعتبار إليه، واستلهامه في الأجناس الأدبية الحديثة .