موظف قريتي... وموظف أوربا

موظف قريتي... وموظف أوربا

كنت على مدى أسبوع كامل في تلك المكتبة الكبيرة من مكتبات أوربا، أطلب الكتب وأقلِّب الأوراق، وأدوِّن في  مفكرتي أرقام الصفحات التي أرغب في الاحتفاظ بصور  عنها. كان من خطئي أنني أبقيت مسألة التصوير  إلى اليوم الأخير من إقامتي القصيرة هناك، ظناً مني أنني سوف أفعل ذلك لاحقًا، في مرة واحدة لا غير، وكأن الموضوع موضوع تخصص وتوزيع أدوار: مرة للاختيار  ومرة  للتصوير. ولم يكن في علمي أن التصوير  المؤجل يستغرق وقتاً طويلاً، إذ إنه يتطلب استدعاء الكتب مجدداً من أماكن حفظها، فالعاملون في المكتبة يعيدونها إلى مقراتها فور  انتهاء الضيوف القرَّاء من الاطلاع عليها، والكتاب هناك لا تقر له عين إلا إذا أعيد إلى حجرته، ورقد على مقربة من رفاقه الذين يتكلمون لغته، ويفكرون تفكيره، وينادمون من ينادم ويعاشرون من يعاشر. 

كانت عقارب الساعة قد تجاوزت التوقيت الرسمي للعمل، وكان الانهماك بادياً عليَّ، وفي دلالاته الاهتمام والاضطرار وإعلان ضيق في الوقت وحاجة إلى المتابعة وطلب للتبرير، وخصوصاً أن التصوير الإلكتروني الساحر السريع لم يكن معروفاً آنذاك. وقد لاحظ الموظف المعني ذلك، مما شجعني على أن أشرح له عن وضعي، فاستدعى ابتسامته على الفور، ووافق على أن يمنحني وقتاً إضافياً، هو الذي ينتظر لحظات فراغه كمن ينتظر فك الأسر ورفع الحصار وإسكات العطش والجوع، كيف لا واليوم التالي كان يوم عطلة، وما أدرانا ما يوم العطلة في بلاد الإفرنج؟ 
تلقفت الفسحة التي سنحت لي  وأنجزت ما كنت بدأت به، من دون أن أهمل التعبير عن امتناني للموظف بكل إيماءة لطيفة وحركة طيبة، وهو بدا سعيداً حين رآني مهتماً بأوراقي متلهفاً لجمعها والتأكد من أرقامها.
مشيت في الختام مغادراً ببطء وخفر، وأنا أوزع نظري بين الموظف المضياف والباب الواسع الكبير، ولولا خوفي من أن أزيد في إلهائه وتأخيره، لتسمرت أمامه منشداً عبارات التقدير والعرفان، إلا أنه كان من الصعب علي أيضاً أن أدير عرض الكتفين إليه وأمضي، أو أكتفي بتحيته وتحية رفاقه في مرة واحدة مختصرة، أو أن أودعهم بشكل قاطع وسريع، كل ذلك إلى أن أصبحت في الخارج، حيث وقفت أتنفس نفساً ممدوداً، وأنا أشد حصادي إلى صدري وكأن فيه حروف المكتبة كاملة، أو خطوطها وصور لوحاتها، وخلاصة الحبر المسكوب فوق مجلداتها عبر العصور.
واصلت التحديق بالمباني والساحات والناس، ورحت أقنع ذاتي بأن الأوراق التي أتيت بها من المكتبة هي النائبة الممكنة عن كل ذلك. سوف تغني مكتبتي الصغيرة قلت، على الرغم من أن عددها لم يتجاوز المائتين. وسوف تكون الملح أرشه على مائدة كتبي حين أعود، لا بل العطر والبطم والشومار، وسوف تقيم الذكريات في نفسي كلما تزحلق عمر أو مر زمن. 
كان الليل قد اقترب من الشوارع الممتدة أمامي، إلا أن الحياة بقيت نابضة ناشطة، والظلام الذي حل كان خفيفاً متقطعاً بفعل الأنوار المتلألئة، مما زاد الأمكنة جمالاً، ورفع عن كاهلها كثيراً من تعب النهار وضجيجه، وهيأها لسهر واعد هادئ. 
أكملت إلى مسكن صديق لي أمضي الساعات الباقيات برفقته، إلى أن كان الصباح، حيث أصبحت في المطار مسلِّماً نفسي لإحدى ذوات الجناح، ولم يكن من ذلك بد.
لا شك في أن حنيناً ما يتربص بأي مسافر بعيد عن قريته، يعيده إلى واقعه ويشير عليه باسترجاع ماضيه، ويدعوه إلى متابعة ما كان بدأه في كل شأن. كما أن الأيام التي يمضيها المسافر في بلاد بعيدة لابد أن تحسب أيام بطالة كائناً ما كان النجاح الذي يعرفه في خلالها. وهكذا وجدت نفسي فور وصولي إلى أرض الأهل والأجداد مستأنفًا خطواتي، الكاملات منها والناقصات، وكان في أولاها أن أتوجه إلى إحدى الدوائر لإنجاز معاملة تنتظرني منذ ما قبل السفر. كان المكان المقصود موجوداً في الطابق الثاني من مبنى رسمي مشهور. ما إن وطئت قدماي الدرجة الأولى من درجات سلمه الأسمنتي الطويل حتى ظهر لي في أعلاه حارس بملابس أميرية وفي يده سلاح. وزعت النظر بين الحارس ودرجات السلم وكأنني في طريقي إلى منحوتة «انتصار ساموتراس» في متحف اللوفر، فلو أبقيت نظري مشدوداً إلى الدرجات لبدوت غير مهتم بالحارس، مُعرضاً عنه مستخفاً بما يتكبده من جهد ويبديه من يقظة على مدى الحراسة والسهر، ولو أطلت، من ناحية أخرى، التحديق به، لبان أنني أخشاه وأرهب جانبه، وبالتالي أنظر إليه بعين اللؤم والتأفف، وأنني أضيق بوجوده ذرعاً. هكذا إلى أن أدركته ووصلت إليه. كان سؤاله التلقائي: إلى أين؟ أجبت كما يجب أن أجيب، مظهراً ما بيدي من أوراق. أشار برأسه معبراً عن موافقته على مواصلة الدرب، لكنه بقي مسمراً في مكانه من دون أن يعدل في وقفته قيد أنملة، حيث لم يفسح لي كي أتقدم بيسر وسهولة، فمِلت بجسمي نحو الجدار مفضلاً ألا أزعجه وأحتك بكهربائه فيتطاير منه شرر أو يتناثر زجاج.

وموظف قريتي 
ما هي إلا أمتار حتى كان علي أن أمر بزميل له يجلس في الممر الضيق المواجه للشرفة. إلى جواره طاولة صغيرة أراح عليها إحدى يديه، فيما دلى الأخرى إلى الأسفل واصلاً إياها بمسبحة طويلة تمر حباتها بين أصابعه من دون توقف. أما ساقاه فقد أرسلهما إلى الأمام مثبتا إياهما عند القاعدة الحديدية لسور الشرفة، ورمى ظهره إلى سنادة الكرسي طلباً لراحة أبدية لا بديل عنها. يبقى الرأس، هذا الجزء المستدير من جسمه، لقد سدد ما فيه من بعد نظر إلى البعيد البعيد، تساعده في ذلك الكوة التي أتاحها أمامه فراغ الشرفة، فبدا ذا رؤية شاملة وأحلام كبيرة تستدعي التأمل والشرود! وقد سألني بدوره، وبهزات متلاحقة من رأسه: إلى أين؟ كررت جوابي، ورفعت أوراقي، فأشار برأسه موافقاً من دون أن يحرك ساقيه أو يشير بهما، مما يعني أنهما لم تشاركا في الجواب، أو أنهما لم توافقا على شيء. لكنني اضطررت للمرور فوق الحذاءين اللذين كانتا تنتهيان بهما، إنما بتؤدة وانتباه وشيء من الاستئذان، وهكذا بلغت المكان المقصود. 
كان سبقني إلى هناك أشخاص عديدون، مع كل منهم أضعاف ما أحمل من أوراق. وقفت خلف الموكب أنتظر وفق الأصول، إلى أن حلت حصتي من اهتمام الموظف الموجود هناك، لكن هذا الأخير فاجأني بالقول: طلبك لا ينطبق على اختصاص عملي. أعاد إلي الأوراق وهو يمتعض ويتذمر. إذاً إلى أين يا أستاذ؟ سألت، لم يجب، ومال بنظره إلى الطالب الذي حل خلفي منتظراً. اهتديت، بعد استفسار واستئناس، إلى ما ينطبق على أمنيتي في ناحية مقابلة، وانتظمت من جديد في القافلة القائمة فيها، التي زاد عديدها على كل ما عداها، وارتفعت فيها الأيدي واشرأبت الجباه، وكأن أمامها قطعاً من النقود، أو شطائر من الخبز، أو قطائف من حلوى الأعياد. حصلت جلبة بفعل الازدحام الحاصل، فراح الموظف يصرخ ويحتج، إلى أن طلب من الجمع الخروج من المكان، بعد أن أطلق عليه أوصافاً قاسيةً متنوعة، من انعدام الفهم إلى سوء المنشأ، مروراً بغلاظة المعشر وبشاعة المنظر وفقدان الأمل في التطور والنهوض... خرجنا مطيعين، ثم عدنا كما كنا، ترافقنا الجلبة نفسها، وتتقدمنا الأيدي ذاتها، تلك التي كانت تلوح وتعلو، ومازالت تلوح وتعلو. إلا أن الموظف استأنف عمله وقد تملكه شيء من الزهو والرضا، مع أن ضيوفه لم يغيروا ما بأنفسهم لا من قريب ولا من بعيد، لكن مجرد تلبيتهم لندائه جعله يشعر بأنه ذو شأن بالنسبة إليهم، وبأنه مسؤول عنهم، وخبير في تسيير أمورهم، وقادر على تنظيم صفوفهم وإرشادهم إلى الآداب والأصول. 

في المواجهة
شخص يليه آخر، وها أنا الآن في مواجهة الموظف الكريم. يا للحظ الجميل، تأمل صاحب السيادة أوراقي، قلبها على عجل. بدا وكأنه رآها  من قبل أكثر من مرة، من هنا إسراعه إلى القول إن إحداها غير مقبولة. لم تعجبه ولم ترضه. قلت له مدعياً قوة الحجة والبرهان: «هذه الأوراق كثيرة ومضامينها متقاطعة، وما لم تجده هنا قد تجده هناك، وما كثرتها إلا في سبيل أن يكون مجموعها مكتملاً». لكن الموظف وضع أوراقي جانباً بعد أن سطر على إحداها باللون الأحمر: «مرفوضة». 
حملت أحمالي وغادرت الغرفة مهزوماً، ورحت أدور من شارع إلى شارع حتى بلغت مكاناً تمكنت فيه من تبديل الورقة الساقطة، ثم عدت بعد ساعات إلى الدائرة عينها. صعدت فوق الدرجات. استعدت تصرفات الحارس الأول، والحارس الثاني، ووصلت إلى موقع الموظف الذي فوجئت بغيابه، وحلول آخر في  محله. تلقى الموظف الجديد أوراقي من دون عبوس ولا غضب ولم يكثر من تقليبها وفحصها، ثم كتب عليها ما كتب، وأشار علي بأن أقصد موظفاً آخر في غرفة مجاورة لكي يوقع عليها. عبرت مدخل الغرفة المشار إليها، ووقفت أنتظر بدافع اللياقة والتهذيب. كان الموظف وحيداً في غرفته، مما يدل على مكانة واضحة يتمتع بها. كان متجهماً، ومنكباً على تأمل ما على طاولته من أوراق، وأنا لم أكن أنتظر أن أجده مبتسماً على الإطلاق. حرك رأسه بعد قليل والتفت إلى سقف الغرفة، وقال: ما وراءك؟ فتقدمت إليه على الأثر، ووضعت الأوراق أمامه. راح يمر بأصابعه عليها، وكان في كل حركة من حركاته ما يشير إلى أنها قد تكون مرفوضة، وأن الأمل في نجاحها يقترن بالاستحالة والعدم. راح الموظف ينظر إلي بين الفينة والفينة وكأنه يحاول التأكد من مطابقة أوصافي لمضمون ورقة عزلها عن رفيقاتها وتوقف عندها وأطال، مع أنها لم تكن مرفقة برسم لي، أو صورة أو تمثال.
كانت أوراقي أسيرة وكنت أنا أسيراً. هيَّأت نفسي لرفض إضافي، وأبديت استعداداً صامتاً للذهاب والإياب من أجل إحضار ما يجب إحضاره، وإبدال ما يجب إبداله من أسواق الورق، ففي الإعادة فائدة كما يقولون، ولابد من تجديد الحبر وتوضيح الأرقام وتأكيد الحروف. في خلال ذلك دخل رجل بدا أنه رفيق مقرب من الموظف، وبدأ يعرض ما قام به من أعمال تخصه في البيت والحانوت والمدرسة والمستودع والمستشفى... بدا الرفيق حريصاً على إثبات أنه توصل إلى تحقيق إنجازات ذات فوائد لا تحصى، وبدا الموظف بالمقابل ميالاً إلى الاستيضاح المتواصل بغية التأكد من النجاح المزعوم قبل إعلان الرضا، وكان في خلال ذلك يوزع نظراته بين أوراقي ووجه مرافقه، وفي لحظة سعد ووعد، هوى بإحدى يديه عليها ورسم توقيعه المبرم الفعال، ثم دفعها في اتجاهي على الطاولة الزجاجية الملساء. هززت أصابعي وأدرت معصمي مستفسراً: هل تمت الموافقة؟ مال برأسه إلى الأمام وكأنه يقول من دون أن يقول: نعم. بذلك أورقت أوراقي، واكتسبت خضرتها، وحققت نضرتها، فمضيت شاكرًا ممتنًا، وأسرعت إلى الخارج مستبقًا أن يعدل الموظفون في آرائهم، فيستعيدون الجني، ويبعثرون الحصاد. وحاولت أن أجد في الشارع المجاور فسحة تذكرني بتلك التي وقفت فيها مبتهجاً بالأوراق التي حصلت عليها من الموظف البعيد في البلاد البعيدة، فلم أجد. لقد أحالت المعابد القريبة أمر ابتهاجي إلى معبد بعيد، والمعابد القريبة، كما قيل: لا تشفي. 
وأنا في ذلك، مر بي قريب كان هو الآخر في طريقه إلى مواكبة أوراق له، إنما لم يكن ينقصه في الصبر عليها إرادة، لا بل هون علي أمري بعد أن وجدني أُمعن في استعراض المصاعب ونصب المقارنات، وقال: «من غير الجائز أن تقارن بين ما تلقيته في مكتبة عامة ترفل بالكتب واللوحات ووسائل الهناء، وما جرى لك في دائرة رسمية اجتماعية تملأها شؤون الناس بصفيحهم وقماشهم وترابهم ونباتهم ومتطلبات إقامتهم وارتحالهم». 
إنني أقر بذلك، قلت له، وأَستدركُ وأصحح وأستنهض المنطق وأتمسك بأهداب العدل والإنصاف، وأذهب إلى أن الشيء لا يذكر إلا بالشيء، وها أنا أشد الركاب مفتشاً عن المكتبات العامة في قريتي، قاصداً موظفيها متلمساً لطافاتهم في ساعات عملهم، من دون النيل من أوقات فراغهم، فقد تكون جرتي سلمت بالمصادفة في مكتبة أوربا بعد انقضاء ساعات الدوام، وليس في كل مرة تسلم الجرة، إلا إذا كانت الينابيع قد جفت، ولم يعد للجرة، سليمة كانت أو غير سليمة، داعٍ في الوجود .