رؤى تشخيصية لوضعِ اللُّغةِ العربيَّة في العالَم العربي

رؤى تشخيصية لوضعِ اللُّغةِ العربيَّة  في العالَم العربي

أصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة‭ ‬مهددة‭ ‬في‭ ‬بقائها،‭ ‬بل‭ ‬مستهدفة‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭. ‬فمؤشرات‭ ‬هشاشة‭ ‬وضعها‭ ‬قائمة،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تتميز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬نوعية‭. ‬إنها‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬بيئة‭ ‬ممهدة‭ ‬لها‭ ‬بشكل‭ ‬سليم‭ ‬وكاف‭ ‬يضمن‭ ‬لها‭ ‬البقاء‭ ‬والنماء،‭ ‬لأن‭ ‬متحدثيها‭ ‬ونخبها‭ ‬وشعوبها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تحميها‭ ‬بما‭ ‬يكفي،‭ ‬أو‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تهيئة‭ ‬بيئتها‭ ‬وتنقيتها‭ ‬باستمرار،‭ ‬وبصفة‭ ‬كافية‭. ‬و‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬المزري‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة،‭ ‬يمكن‭ ‬تبيان‭ ‬الخلل‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬السيئ‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬زحف‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬والعامية‭ ‬على‭ ‬وظائفها،‭ ‬ووجود‭ ‬مخططات‭ ‬لاقتلاعها‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬والدولي‭. ‬ولهذا،‭ ‬سنعالج‭ ‬مسألة‭ ‬الاستعمار‭ ‬اللغوي‭ ‬والعولمة‭ ‬اللغوية،‭ ‬ثم‭ ‬مسألة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والدولة‭ ‬والسياسة،‭ ‬وأخيرا‭ ‬حماية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والعدالة‭ ‬اللغوية‭.‬

1 ‬–‭ ‬الاستعمار‭ ‬اللغوي

 إن أزمة اللغة العربية أزمة استعمار لغوي، ونقصد بالاستعمار اللغوي في المغرب الفرانكفونية، أي اللغة الفرنسية التي تعد غنيمة حرب واستعمار أجنبي على المغرب. لأن هناك أمما انقرضت بكاملها عندما اجتاحها الاستعمار اللغوي، كما حدث في أستراليا ونيوزيلندا كمثالين نموذجيين، ومثلما انقرضت لغات الهنود الحمر، وكيف كافح أبناء إقليم الكبيك في كندا من أجل الحفاظ على لغتهم الفرنسية بغية الحفاظ على هويتهم.

نعيش اليوم في عالم من الصراع اللغوي، تنتصر فيه لغات وتنهزم لغات أخرى، ومع هذه الهزيمة تغيب ثقافات وهويات. 

وقد أشارت دراسة لمنظمة اليونسكو، صدرت سنة 2009 إلى أن العالم يضم أكثر من 6 آلاف لغة،  لكن معظمها سيختفي، مشيرة إلى أن 97 في المائة من سكان العالم يتكلمون 4 في المائة فقط من هذه اللغات، في حين أن 96 في المائة من هذه اللغات لا يتكلمها سوى 3 في المائة من سكان هذه الأرض.

ومثال ذلك أن لغة «كشوا» التي يتكلمها نحو ثمانية ملايين في أمريكا الجنوبية معرضة للانقراض بعد ثلاثين سنة فقط، لأن الأطفال في كل المناطق الناطقة بها (البيرو – تشيلي – الأرجنتين...) يتكلمون الإسبانية. كما أن تحرر الشعوب من مستعمراتها غالبا ما اقترن بالتحرر من لغة المستعمر، وحتى الدول التي حافظت على الغنيمة اللغوية بعد الاستقلال، سعت إلى جعلها لغة فاقدة لسماتها الاستعمارية، بغية تلافي التبعية، أو تكريس استعمار جديد، أو التعاون البريء لخدمة المصلحة غير الوطنية، وإن كان الأمر عمليا ليس باليسير. والواقع أن اللغات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية انتشرت في أرجاء المعمورة، نتيجة الهيمنة الاستعمارية أولا، وقامت قوميات هنا وهناك للدفاع عن لغاتها وإحيائها، كما حدث في أيرلندا.

وفي الوضع نفسه الذي عاشته دول العالم بفعل الهيمنة الاستعمارية، التي تفرض لغتها في جميع الميادين الحيوية، كانتشار البرتغالية في البرازيل والإسبانية في أمريكا اللاتينية والإنجليزية في الهند والصين ومصر، والألمانية في الكاميرون والإيطالية في ليبيا، فإن الوضع لا يختلف في العالم العربي الذي هيمنت فيه اللغة الفرنسية في بلدان المغرب العربي. حيث عمل المستعمر على جعل الفرنسية لغة رسمية والعربية لغة أجنبية بعد الاحتلال، كما عملوا على استبعاد الفصحى من التداول، وفرض على المغاربة تعليم العاميات إلى جانب نظام المدرسة التي كانت اللغة الفرنسية مهيمنة فيه. 

والجدير بالذكر أن هيمنة اللغة الإنجليزية في دول الخليج نتيجة العولمة الاقتصادية والمصالح في هذه الدول، كما عملت بعض الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا على استحداث مؤسسات تربوية تدرس فيها جميع المواد باللغة الأجنبية، وهذا الأمر يساهم في تأزم وضع اللغة العربية في منطقة الخليج.

 

2 ‬–‭ ‬العولمة‭ ‬اللغوية

 هناك لغات حضارات كبرى مثل الألمانية والفرنسية والإيطالية، أصبحت تفقد وظائفها التواصلية والعلمية والثقافية تدريجيا، لفائدة عولمة لغوية متوحشة، لأن العولمة اللغوية لها مضمون سلبي على المستوى اللغوي، ونقصد بالعولمة الإنجليزية التي بسطت نفوذها في جميع المجالات المعرفية والحيوية، كما فرضت قوتها على جميع دول العالم دون استثناء، وأمام هذه العولمة اللغوية في المغرب أصبح الأمر يهدد نمو العربية الفصحى ونماءها. ولابد من الإشارة إلى كون أزمة اللغة العربية هي أزمة عولمة واستعمار لغوي، بالإضافة إلى أزمة العنصر الداخلي، أي الإنسان العربي، هذا الأخير يعد ضحية ولا يقدر على المقاومة، أي ليس له إرادة،  وهذا هو مشكل الإنسان العربي، لا يتحمل المسئولية، ولا ينهض، ودائما يحمِّل المسئولية للآخر.

 

3 ‬–‭ ‬العلاقة‭ ‬المتماسكة‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والدولة‭ ‬والسياسة

لقد تقوت العلاقة بين هذه العناصر الجوهرية الثلاثة (اللغة، الدولة، السياسة) في بداية العصور الحديثة، حيث أصبحت الأمم والأوطان والدول تتشكل عبر اللغة، كما حدث في القوميات التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى القوميات الألمانية والإيطالية والإسبانية... ولاشك في أن الدولة طرف أساس في صنع القرار اللغوي، وأنها مسئولة عن مصير اللغة الرسمية في حدودها وخارج حدودها. ثم أن الجانب السياسي له دور مهم في تدبير الشأن اللغوي، حيث برزت النظرية السياسية المعيارية التي تقوم على قيم مثل العدالة والحرية... في التجمعات السياسية داخل المجتمعات البشرية، وأضحت هذه النظرية تمكن من فهم أوسع لدور اللغة في التجمعات السياسية بصفة عامة وفي استقرار هذه التجمعات البشرية بصفة خاصة.

وتمت النظرية السياسية المعيارية لتدبير الشأن اللغوي لبناء الدولة أو الوطن، كما عملت هذه النظرية على بلورة مجموعة من الاهتمامات في ما يخص اللغة، مثل: الممارسات اللغوية الفعلية في المجتمع ومسألة الأيديولوجية اللغوية، أي التصورات التي يحملها الناس عن لغاتهم وعن الواقع الأمثل للغة.

 

4 ‬–‭ ‬حماية‭ ‬اللغة

وأمام هذا الواقع المتردي والمتأزم للغة العربية، ينبغي للدول العربية أن تتدخل اليوم عبر سن قوانين لغوية لحماية اللغة العربية الفصحى، باعتبارها اللغة الرسمية والوطنية للأمة العربية، وضمان استعمالها على أراضيها، وتوفير الخدمات الحكومية عبر التدبير لها، كما فعل الكنديون عبر ميثاق اللغة الفرنسية أو الفرنسيون عبر قانون توبون.

ولم يعد ممكنا اليوم أن تترك الدول العربية لغتها العربية الفصحى، لأن موقف اللامبالاة لم يعد مقبولا أخلاقيا وسياسيا، لأنه يفوت على المواطن حقه في لغته، ولأن ترسيم اللغة في الدساتير سيتتبع التخطيط والتشريع، وتغريم من يخالف القوانين اللغوية وإصدار الأحكام في المنازعات اللغوية عبر الجهاز القضائي. 

و الجدير بالذكر أن الأمر لا يقتصر على الدول العربية وحدها، بل  يمتد إلى النخب الإبداعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي ترقى عادة بلغتها من أجل تموقعها الحضاري والسياسي والعلمي والاقتصادي. لأن اللغات عموما تذكر بأصحابها أو بأسماء مبدعيها، فيقال لغة شكسبير، أو امرئ القيس أو المتنبي أو ابن زيدون أو دانتي أو موليير.... ولابد من أن يعي المجتمع بدوره في حضور لغته والمحافظة عليها وحمايتها، ورفع القضايا إلى المحاكم دفاعا عنها. ولهذا، فالمسئولية عن الحماية نجد الدولة في المقدمة ثم النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والمجتمع المدني والقضاة.

ولقد سعت مجموعة من الدول الحديثة اليوم إلى حماية لغاتها وإحاطتها بمجموعة من القوانين والمؤسسات الساهرة على تطبيقها. وتتخذ بعض هذه القوانين طبيعة جنائية تجعل كل مسٍ باللغة الرسمية أو الوطنية جناية لا تقل خطورتها عن بقية الجنايات. وقد تفرض غرامات مالية عند استعمال كلمات دخيلة على لغتها في الإعلام. ومن بين ميادين حماية اللغة العربية الفصحى ما يلي: 

- تنقية اللغة من الألفاظ والتعابير الأجنبية الدخيلة.

- تخليص اللغة من الركاكة والتعابير الخاطئة وكذلك من الأخطاء الشائعة.

- مراقبة استعمال اللغة في التعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام وغيرها من القطاعات الحيوية.

- القضاء على المواقف العدائية تجاهها كزحف العاميات واللغات الأجنبية.

- ترسيخ ممارساتها في المحافل الدولية والقومية.

- محاربة الأمية.

- تعميم تعليم اللغة على مختلف الجهات والأجيال.

 ويتحمل المجتمع المدني الدفاع عن اللغة العربية الفصحى، من خلال إنشاء جمعيات حماية اللغة العربية للدفاع عنها. وتنظيم أنشطة تعزز مكانتها، والتحسيس بأهمية استعمالها والتحفيز على ذلك، وضرورة الوقوف على المخاطر التي تهددها في موطنها وخارجه، كما يستوجب دعم المبادرات الداعمة لها في المجتمع المغربي، وتنظيم يوم دراسي في السنة للاحتفاء بها، وتشجيع التخاطب والإبداع بها. لأن اللغة العربية اليوم في حاجة ماسة وعاجلة إلى إجراءات عملية وتدبيرية نوعية وشاملة لحل قضاياها. والملاحظ أن حماية اللغة لا تأتي دون قوانين فعالة ورادعة. ثم ضرورة خلق مؤسسة علمية ذات سلطة مرجعية وتنفيذية ساهرة على شئون اللغة العربية، ومسئولة عن أمنها وتخطيطها.

 

5‬–‭ ‬العدالة‭ ‬اللغوية

تنظر العدالة اللغوية إلى اللغة باعتبارها عدالة. ويتم التركيز على الحقوق الجماعية للجماعات اللغوية والثقافية من منطلق العدالة، باعتبارها نمطا من العلاقات الاجتماعية أو السياسية يتم بموجبه معاملة كل شخص أو جماعة على أساس المساواة، وذلك استنادا إلى منظومة القيم السائدة في المجتمع.

 وبناء على ذلك، وجب التمييز في الحقوق اللغوية بين الحقوق الشخصية المتعلقة بالأفراد والحقوق الجماعية التي تعود إلى مجموعات إثنية أو قومية تعيش في ظل دولة واحدة. إن القول بالعدالة اللغوية هي أدوات إشاعة العدل بين الأفراد، وهي الآلية التي يتحقق بها العدل بين اللغات التي تؤسس المشهد العام لدولة ما، عبر تبني سياسية لغوية تعددية تعترف بحق كل جماعة لغوية في التعاطي بلغتها، سواء في الحيز الجغرافي الذي تشغله داخل التراب الوطني للبلاد، أو على امتداد وجود الناطقين بها على أساس المواطنة اللغوية التي تعني التوزيع الثقافي واللغوي لأفراد المجتمع على قاعدة الاعتراف بالمساواة في الحقوق والواجبات، وعلى أساس تعاقد ثقافي لغوي بين الدولة والمواطن.

ومن بين العناصر الأساسية التي تقوم عليها مسألة العدالة اللغوية، نجد: 

- الاعتراف بالتنوع اللغوي داخل حدود الدولة والتأكيد الرمزي للمساواة بين اللغات.  

- تبني لغة مشتركة تحقق التواصل بين جميع مواطني الدولة  الذي يقوم أساسا على Principe de la territorialité linguistique - تبني مبدأ الجهوية اللسانية والاعتراف بحق كل جماعة لغوية باستخدام لسانها داخل حدودها.

والواقع أن مسألة العدالة اللغوية مغيبة في دول العالم بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة، لأن اللغة الإنجليزية هي اللغة المهيمنة في جميع المرافق الحيوية والمجالات المعرفية. ولهذا فالدول العربية غير عادلة في التعامل مع اللغة العربية (أو متكلميها) لكون اللغة العربية مغيبة في أرضها أو بيئتها الطبيعية. وأمام هذا الوضع اللغوي غير العادل لابد من مبادرات ينبغي للدول أو المؤسسات العربية أن تقوم بها، لأن وضع العربية في حاجة ماسة إلى مجهود كبير بإقرار نظام لغوي عادل، ينصف متكلمي العربية في حقهم في العيش اللغوي، وفي البيئة اللغوية التي تحفظ لهم كرامتهم اللغوية للخروج من الحالة اللغوية الحالكة التي تعيشها العربية ومتكلموها.

 

خاتمة

إن الخلل كامن في السياسة اللغوية التي تنهجها الدولة تجاه اللغة العربية الفصحى، وتركها تتخبط في مشكلاتها دون سن سياسة لغوية استراتيجية لمعالجة مشكلاتها والنهوض بها. وتبيان الرؤى المستقبلية لوجودها، ثم ضرورة تـوفير عـدالة لـغوية للعربية الفصحى في ترابها.    

 وغالبا ما تكــون المبادرات والاقتراحات لمعالجة وضع العربية منصبة على ما يسمى بتخطيط المتن، ولم تعتن بجانب أهم يحظى بأولـوية كبيرة، هـو تخطيط النهـوض بـوضع اللغة الـعـربية الـمـجتمعي والسياسي والقانوني، قوميا وإقليميا ودوليا. أو ما يسمى في اللسانيات الاجتماعية بتخطيط الوضع، أي التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالسيادة اللغوية التي تتبعها الدول للنهوض بلغاتها .