الديمقراطية والثورات العربية.. د. سليمان إبراهيم العسكري

الديمقراطية والثورات العربية.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          يبدو مصطلح «الديمقراطية» اليوم واحدًا من أبرز، وربما أكثر، المصطلحات استخدامًا في الإعلام العربي، خاصة عقب التطورات التي تمر بها المنطقة العربية، والتي كشفت عن عدد من  التغيرات والتحولات في الساحة السياسية من بينها تولد مجموعات جديدة من الأحزاب السياسية الليبرالية، وتحول منظمات وقوى سياسية منظمة، أغلبها ينتمي للتيارات الإسلامية، لم تحظ سابقًا بحرية إقامة كيانات سياسية شرعية، إلى أحزاب سياسية بالمعنى المتعارف عليه في المجتمعات المدنية، كما حدث في مصر وتونس، وسواهما، وهو ما يبدو ظاهرة جديدة تعبر عن تحول ثقافي في مفاهيم الديمقراطية، تبدو في ظاهرها عملاً سياسيًا، لكنها في جوهرها صياغة جديدة لمفاهيم الدولة المدنية وحوار بين قوى المجتمع حول الأسس الجديدة لشكل الحكم الديمقراطي المبتغى في المرحلة المقبلة، فكيف يمكن قراءة هذه التغيرات الجديدة؟

  • لعلها المرة الأولى التي تعلن فيها قيادة الأزهر وجوب التفريق بين الدين والسياسة، والتأكيد على أن المؤسسات الدينية، وبينها الأزهر لا ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية
  • التيارات الدينية  تحملت عبئًا في مواجهة الفساد والقمع في أثناء فترة حكم الأنظمة السابقة، وعانت معاناة شديدة بما تكبدته من حملات تضييق واعتقالات، وبالتالي فمن حقها أن تحصل على فرصتها لممارسة العمل السياسي
  • من حق المواطن العربي في المرحلة الجديدة التي تشهد بدايات نشأة الديمقراطية ألا يتعرض للضغوط ذات الطابع الديني، فهي مجتمعات متدينة، أو تميل للتدين بالفطرة، وبالتالي فإن استخدام سلطة الدين للتأثير عليهم لمصلحة قوة سياسية دون غيرها هو استمرار لمسارات سلبية تكرس ألواناً من الضغوط على أفراد المجتمع العربي
  • ما يثار اليوم عن أن التيارات الدينية التي أسست أحزاباً سياسية جديدة تبدو ميالة لاتخاذ النموذج التركي نموذجاً تبني عليه نموذجها السياسي للإدارة السياسية هو أمر لا يمكن التحقق منه في هذه الفترة، خاصة أنها لم تطبقه حتى الآن على هيكلها الحزبي الداخلي

          لعل أبرز ما شهدته الساحة المصرية من تحول في هذا السياق هو إعلان جماعة الإخوان المسلمين في مصر عن تأسيس حزب جديد بمسمى يتخلى عن أي شعار ديني وهو «حزب العدالة والحرية»، وهو ما يعني تحول هذا التيار إلى مؤسسة حزبية تخضع لمفاهيم وقوانين المجتمع المدني في إدارة الشأن السياسي. وقد أعقب إعلان الإخوان قيام بعض الجماعات الدينية السلفية وغيرها من تيارات شبيهة بالإعلان عن تأسيس أحزاب أخرى، فيما يشبه إجماعا من تلك التيارات ذات الطابع الديني على أن ممارسة العمل السياسي لابد أن تخضع لقواعد اللعبة السياسية، وأن تستجيب لمبادئ الديمقراطية بوصفها الصيغة المتفق عليها دوليا في إدارة حكم المجتمعات البشرية.

أسئلة الدولة المدنية

            لكن دخول هذه التيارات الدينية في العملية السياسية عبر الأحزاب أثار تساؤلات عديدة في الشارع العربي عما إذا كانت هذه القوى تبتغي في عملها السياسي هذا تحويل المجتمعات التي حصلت على حرياتها وسعت للقضاء على النظم الديكتاتورية والفساد، إلى ما يسمونه الدولة الدينية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وهي أسئلة تحمل في طياتها تساؤلات أخرى أكثر مباشرة تتضمن شكوكا من استخدام هذه التيارات الدينية للديمقراطية لإقامة دول شمولية أخرى، بديلا للدول الشمولية الديكتاتورية، تحت مسميات وشعارات براقة تتستر بالدين.

          وبدا واضحًا أن المجتمعات العربية التي تعيش هذه التغيرات قد انشغلت بهذه الأسئلة إلى حد تدخل مؤسسة كالأزهر بثقلها في محاولة لإعادة ضبط المفاهيم التي تخلط الدين بالسياسة، عبر وثيقة أعلن عنها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، عقب مشاورات وحوارات جادة مع العديد من التيارات الفكرية وأفراد من المثقفين في مصر، أحدثت أثرا واسعا في أوساط النخبة والجمهور معا، لكونها وثيقة شديدة الأهمية في حرصها على توضيح العلاقة بين الدولة والدين، والتأكيد على التسامح وعلى الطابع الديمقراطي في أصول الإسلام.

          ولعلها المرة الأولى التي تعلن فيها قيادة الأزهر وجوب التفريق بين الدين والسياسة، والتأكيد على أن المؤسسات الدينية، وبينها الأزهر لا ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية. وهي قبل ذلك وثيقة يبدو بها الأزهر وقد استعاد دوره المهم في الإصلاح الديني، وبها يؤكد فهمه للأبعاد الثقافية والحضارية للأديان، وهو ما أعلنه الدكتور الطيب في إعلانه للوثيقة قائلا: «إن الأزهر المنارة الهادية التي يحتكم إليها في تحديد علاقة الدولة بالدين وبيان أسس السياسة الشرعية الصحيحة التي ينبغي انتهاجها ارتكازا على خبراته المتراكمة وتاريخه العلمي والثقافي الذي ارتكز على الأبعاد التالية: البعد الفقهي في إحياء علوم الدين وتجديدها طبقا لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يجمع بين العقل والنقل ويكشف عن قواعد التأويل المرعية لنصوص الشريعة.. البعد التاريخي لدور الأزهر المجيد في قيادة الحركة الوطنية نحو الحرية والاستقلال.. البعد الحضاري لإحياء مختلف العلوم الطبيعية والأداب والفنون.. البعد العملي في قيادة حركة المجتمع وتشكيل قادة الرأي في الحياة المصرية».

          إلى جوار هذه الرؤية الشاملة أكدت الوثيقة على ضرورة الالتزام  بالمواثيق والقرارات الدولية والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية المتوافقة مع التقاليد السمحة في الثقافة الإسلامية والعربية والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة وما قدمه من نماذج فائقة في التعايش السلمي.

          كما أكدت على ضرورة الحرص التام على صيانة كرامة الأمة الإسلامية والحفاظ على عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاثة وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أي معوقات واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها دون تسفيه لثقافة الشعب أو تشويه لتقاليده الأصيلة، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة.

          ومن الجدير بالانتباه أن الأزهر في وثيقته الجديدة شدد على دور العلم والمعرفة العلمية في مستقبل الدول العربية وخصوصا في مصر حيث نبهت الوثيقة إلى «ضرورة اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر وتكريس كل الجهود لتدارك ما فات في هذه المجالات وحشد طاقة المجتمع كله لمحو الأمية واستثمار الثروة البشرية، وتطبيق المشروعات الاستثمارية الكبرى».

          وفي الواقع فإن هذه الوثيقة قد جاءت في وقتها تماما، لأنها ترسخ فكرة مهمة أو بالأدق توجه رسالة للتيارت الدينية التي قررت دخول معترك الحياة السياسية الحزبية، بالتأكيد على أن كل القوى السياسية، وبينها القوى الليبرالية، تتفهم جيدا أن تلك التيارات الدينية قد تحملت عبئًا في مواجهة الفساد والقمع في أثناء فترة حكم الأنظمة السابقة، وعانت معاناة شديدة بما تكبدته من حملات تضييق واعتقالات، وبالتالي فمن حقها أن تحصل على فرصتها لممارسة العمل السياسي.

تناقضات الشعارات مع التطبيقات

          لكن ما ينبغي أن نؤكد عليه هنا أن هذه الممارسة السياسية يجب ألا تتم إلا من خلال إطار مدني يمكنها من أن تكسب ثقة مختلف طوائف المجتمع وأن تقدم نموذجا عمليا تؤكد به استيعابها الكامل لفكرة المساواة بين جميع المواطنين والإيمان بالديمقراطية وحرية الفرد، وألا تكتفي بالشعارات، بل أن تقدم المثل الديمقراطي من خلال إدارة الشأن الداخلي لمؤسساتها الحزبية المدنية الوليدة، من خلال عمل  قيادات تلك المؤسسات على إدارة شئون الإدارة الداخلية بالسبل الديمقراطية وإشاعة حق الاقتراع على من يتولى تلك الأماكن القيادية لديها لكي تقنع الناس بأنها تخلت عن الحزبية الشمولية.

          فمن حق المواطن العربي في المرحلة الجديدة التي تشهد بدايات نشأة الديمقراطية ألا يتعرض للضغوط ذات الطابع الديني، خاصة أن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات متدينة، أو تميل للتدين بالفطرة، وبالتالي فإن استخدام سلطة الدين للتأثير عليهم لمصلحة قوة سياسية دون غيرها هو استمرار لمسارات سلبية تكرس ألوانا من الضغوط على أفراد المجتمع العربي، بعضها طائفي وبعضها قبلي أو عشائري، حيث نرى بعض القوى السياسية في بعض الدول تستخدم سلاح الطائفة لفرض مشهد أو قوة سياسية بعينها، والبعض يستخدم سلطة الترغيب الديني، أو الانتماء القبلي، وكل هذه الألوان من السلطات العاطفية تتناقض مع المبدأين الأساسيين اللذين لا تستقيم من دونهما الديمقراطية وهما الحرية والمساواة.

          كما أن المرحلة المقبلة التي سوف تشهد صياغة العديد من الدساتير الجديدة في الكثير من دول المنطقة في مصر وتونس والمغرب وسورية وغيرها، يجب أن تضع في اعتبارها كل ما سبق من إيلاء فكرة الحرية والمساواة أولوية أولى لكي تكون هذه الدساتير الجديدة معبرة بحق عن التحول الديمقراطي ونقل المجتمعات العربية من عصر مضى إلى عصر جديد يلتحق به العرب بركب الحضارة العالمية الجديدة.

          فالمواطن العربي في النهاية لا يطمع إلا في تحقيق حريته، وأن يعمل بكفاءة في مجال عمله بالشكل الذي يوفر له الرزق القادر على تمتعه هو وأبناؤه بالتعليم والرعاية الصحية الجيدة والحياة المطمئنة بشكل إنساني، وهذا هو الهدف من إقامة المجتمعات الديمقراطية التي لا تميز بين أبناء الوطن، وتحكم علاقتها بهم القوانين التي تحقق للجميع العدل.

          لكن هذه الأفكار، وفقا لما تشير إليه ظواهر القوى الدينية التي ظهرت على الساحة العربية في العديد من الدول، لايزال محل شك وجدل،  ولعل أبرز الدلائل عليه الخلاف الدائر اليوم، بين قيادات جماعة الإخوان المسلمين (وهو التنظيم القائد لفروعه المنتشرة في أغلب الدول العربية) في مصر وبين شباب الإخوان، وهو خلاف يعد اليوم اختلافا مهما قدمته نماذج الشباب من مختلف الانتماءات بين رؤاها ورؤى الأجيال السابقة عليها، وفي حالة الإخوان المسلمين بدأ هذا الاختلاف في الظهور خلال أحداث الثورة، وتجلى بشكل أكثر وضوحا في إصرار قطاع من شباب الإخوان على مخالفة قرارات مجلس الإرشاد في الاشتراك في تظاهرات ما عرف بثورة الغضب الثانية في 27 مايو الماضي في مصر. وهو في الحقيقة صراع  جوهره يعبر عن اختلاف في الرؤى بين جيلين، وربما هذا ما يؤكده قرار إخوان مصر ترشيح الدكتور محمد سليم العوا، عضو مجلس الإرشاد، لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية.

          إن قيادات الأحزاب ذات الشعارات الإسلامية من إخوان وسلف وغيرهما لاتزال تدير منظماتها الحزبية القائمة على تنظيم لا يقبل الحوار بين القيادة والقاعدة، ولاتزال أسسه الفكرية والتنظيمية تقوم على اساس مبدأ «نفذ ولا تناقش» بما يدل على أنها أحزاب أبوية تؤمن بالقرار المفروض من الأعلى للأدنى فقط. التي لا تخرج عن المتبع في النظم الشمولية التي تعبر عن فكر دوجما لا يتحمل الاختلاف والرأي الآخر، ويتعامل مع المختلفين معه بنوع من النفي والإبعاد أو الإقصاء.

النموذج التركي

          لذلك فإن ما يثار اليوم عن أن التيارات الدينية التي أسست أحزابا سياسية جديدة تبدو ميالة لاتخاذ النموذج التركي نموذجا تبني عليه نموذجها السياسي للإدارة السياسية هو أمر لا يمكن التحقق منه في هذه الفترة، خاصة أنها لم تطبقه حتى الآن على هيكلها الحزبي الداخلي.

          فالنموذج التركي الذي قدمه رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان عبر «حزب التنمية والعدالة الاجتماعية» الذي يرأسه، قد حقق نجاحه وحظي بثقة الجماهير في تركيا ليس لأنه ممثل التيار الديني كما يحلو للكثيرين أن يروه، وبالرغم من علاقاته بحركة الإخوان المسلمين، خصوصا أن القوانين والمناخ العام للمواطن التركي هي قوانين علمانية، بل لأن هذا الحزب عبر حكومتين سابقتين استطاع أن يحقق معدلات تنمية متسارعة استطاع المواطن أن يلمس آثارها على حياته اليومية، وفي معدل رفاهيته ومدى قدرته على تلبية احتياجات معيشته اليومية. بالإضافة إلى خصوصية علاقاته الأوربية، وارتباط الدولة التركية بالغرب وأفكاره العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة. وهو حزب لم يمس الأسس الفكرية للعلمانية التركية حتى الآن على الأقل.

          وبالتالي فهذا الحزب لم يرفع شعارات من قبل «الإسلام هو الحل»، أو أي شعارات ذات طابع ديني فضفاض، بل قدم برامج تنمية وصلت بتركيا اليوم، حسب التقارير المنشورة، إلى أن تكون الدولة السادسة عشرة في العالم من حيث قوة اقتصادها،  وهو ما تحقق من العديد من المؤشرات من بينها: قفز الناتج القومي الإجمالي بين عامي  2002- 2008 من 300 مليار دولار إلى 750 مليار دولار، بمعدل نمو بلغ 6.8% وارتفع معدل الدخل الفردي للمواطن في نفس السنة من حوالى 3300 دولار إلى حوالى 10.000 دولار. دخلت تركيا بين أكثر الدول جذبا للاستثمار الخارجي.  كما ارتفع حجم الصادرات من 33 مليارًا إلى 130 مليارًا في نهاية سنة 2008. وفي الفترة ما بين العامين 2002 و2008، انخفضت معدلات التضخم وأسعار الفائدة بشكل كبير، كما استقرت العملة التركية، في حين انخفضت الديون الحكومية إلى مستويات أكثر احتمالا.

          ومثل هذه الإنجازات الاقتصادية الضخمة لا تقارن إلا بالتجارب التنموية الاقتصادية الباهرة التي سبق لدول شرق آسيا ان حققتها.

          ونتيجة لهذا العمل الإداري والانضباط والطموح استطاعت الحكومة التركية أن تحصل على ثقة الجماهير التركية في صناديق الاقتراع، بالإضافة لما حققه أردوغان نفسه لتركيا على صعيد تعاظم الدور الإقليمي، خاصة في العلاقات مع العرب وقضاياهم، والعلاقات الخارجية لتركيا، ثم على مستوى تعزيز الحريات والديمقراطية.

          هذه هي الأسباب الحقيقية التي دفعت بالجماهير لتقترع لمصلحة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وتأكيدا من الحزب على سعادته بأن اطيافًا عدة من الشعب قد أولته الثقة فإن رئيس الحزب الفائز في الانتخابات لم يتحدث بنبرة تعالٍ، كما أنه، كحزب حاكم، لم يفكر أبدا في إقصاء الآخرين، بل دعا إلى حكومة توافقية، وإلى تعديل توافقي للدستور على اعتبار أن تركيا بلد لجميع الأتراك، والدستور يجب أن يكون تعبيرا حقيقيا وصادقا عن كل تركيا وليس لحزب العدالة فقط.

          فهذا هو النموذج التركي بما يتضمنه من حرص على حقوق الأقليات، وممارسة ديمقراطية، لا يوجد لها نظير في منطقتنا العربية، وحرص على تحقيق رفاهية وحرية المواطن التركي، حيث أعلن الحزب عن نيته لكي تحتل تركيا المركز العاشر بين اقتصادات العالم بحلول العام 2023.

          وبالتالي فمن الواجب على مختلف القوى السياسية التي ظهرت في العالم العربي بعد الثورات أن تتوقف عن التناحر، وأن يكون لديها يقين بأن الهدف في النهاية يجب أن يتمثل في كفاءتها وقدرتها على تقديم برامج سياسية يمكن بها رفع المستوى الاقتصادي والمعيشي لأفرادها وتمتعهم بجميع الحقوق بشكل متساوٍ، أما التناحر وتحويل الأمر ليبدو كأنه مجرد خلافات بين معسكرات متناحرة فليس إلا أحد مظاهر الحكم الديكتاتوري، ومخلفاته، حيث ثبت بأكثر من دليل أن الحكومات الديكتاتورية تكرس لمواضع الفتن والاختلافات الطائفية وتحرص على تأجيجها بين آن وآخر، لكي ترسخ من سلطتها هي على حساب الشعب وحريته.

          ونلاحظ أن هذا النهج لايزال سمة من سمات الكثير من معارضي تلك النظم يمارسونه هم أيضا دون وعي منهم بأنهم اشكال أخرى لنفس النظم المتسلطة حتى لو كان بعضها يتحدث باسم الدين أو القومية أو الطائفية بينما هو على استعداد تام لإقصاء من يختلف معه بكل السبل وبينها اتهامات التخوين والتكفير.

          إن ما تشهده المجتمعات العربية اليوم من حراك سياسي، وغضب شعبي عارم على الفساد والتسلط، وما نتج عن ذلك من تولد الكثير من القوى السياسية المدنية الجديدة، بالإضافة للحوار الوطني الواسع حول مفاهيم الدولة المدنية والديمقراطية وحقوق المواطنة والمساواة، يقدم فرصة جيدة للقوى السياسية الجديدة  كي تبتكر إبداعاتها الخلاقة في الفكر السياسي من جهة، وفي ابتكار وسائل الإدارة الحزبية والسياسية وإدارة الدولة من أجل النهوض بدول المنطقة ومضاعفة سبل التنمية البشرية والإنتاجية بها من جهة أخرى، وهو مجال بعيد كل البعد عن الأفكار الضيقة التي يحاول أن يلعب بها أهل السياسة بتحويل الإشكال ليبدو كأنه صراع في خندق الهوية والطائفية بينما ينبغي أن يكون الموضوع هو المواطنة وحق المواطن، دون اللعب بنار الشعارات الدينية والطائفية والمذهبية، متاريس النظم المتسلطة نفسها.

          أننا اليوم إزاء فرصة حقيقية متاحة للشعوب العربية بأن تتحول إلى الديمقراطية، وعلينا كمجتمعات عربية اغتنام الفرصة بأفضل شكل ممكن من خلال مشاركة شعبية واسعة تشمل جميع التيارات أيًا كانت توجهاتها وأفكارها في العمل السياسي وتكوين أحزاب جديدة وجادة، يقدم كل منها أفكاره وبرامجه للناس في كيفية إقامة مجتمع مدني ديمقراطي، وتصوراته عن كيفية قيادة عملية التنمية في مجتمعات حرة وديمقراطية ثم نترك للمواطن الحرية كاملة في الاختيار بين هذه القوى السياسية أو تلك بلا ضغوط عاطفية أو دينية أو غيرها لقيادة مرحلة سياسية ينجح فيها أو يفشل في تطبيق وعوده وبرامجه، وبهذا الطريق ولا طريق غيره - نستطيع كأمة عربية عبور خندق التخلف والضعف والهزيمة إلى إعادة بناء الإنسان العربي ليلحق بركب الحضارة الحديثة.

 

سليمان إبراهيم العسكري