عبدالله زكريا الأنصاري.. الشاعر المختبئ في إهاب النثر
في بيت واحد لخص الشاعر الكويتي الراحل عبدالله زكريا الأنصاري هدفه الشعري وطريقه نحو بلوغ الغاية فيه فكتب: «أرسل الشعر من جناني لحونا / وأداوي به بليغ جراحي». ولعل كثيرًا من الشعراء يوافقون الأنصاري في الهدف والطريقة والغاية، وإن كانوا يختلفون معه في الأسلوب والمدرسة الشعرية. والأنصاري الذي وُلد في مدينة الكويت العام 1922م على أرجح الأقوال، لم يشتهر كشاعر على الرغم مما كتب من قصيد وقف من خلاله على أهبة الاستعداد والاستحقاق للمقارنة مع مجايليه من الشعراء الكويتيين على الأقل، بقدر شهرته كمثقف تنويري ساهم في إرساء دعائم النهضة الثقافية الحديثة في الكويت من خلال أدوار كثيرة أداها بحماسة تميز بها دائما.
بدأ عبدالله زكريا بن محمد بن قاسم الأنصاري الخزرجي حياته الدراسية في مدرسة والده الذي كان إمام مسجد ومدير مدرسة تسمى مدرسة الفلاح لتعليم القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وما إن بلغ السادسة من عمره حتى انضم لمدرسة المباركية، حيث درس فيها لمدة ثماني سنوات مختلف أنواع المعارف والعلوم التي كانت تدرس فيها آنذاك. وبعد تخرجه فيها اعتمد على نفسه في قراءات متنوعة، وخصوصا في الأدب العربي، حتى أصبح مـــؤهلا لاجتياز اختـــبار دائرة المعارف، فاخـــتارته للعـــمل مدرسا فـــي بعض مدارسها. لكـــن العمل التدريـــسي لم يستهو الأنصاري فتركه واتجه للعمل في المحاسبة في شركة لتموين الأقمشة، ومنها غادر إلى القاهرة في العام 1950 للعمل محاسبا لبيت الكويت في القاهرة، وهو مؤسسة كانت تشرف على الطلبة الكويتيين الدارسين في مصر.
وتولى أثناء ذلك رئاسة تحرير مجلة البعثة التي كانت قد صدرت عن بيت الكويت في العام 1946م، وظل يكتب مقالها الافتتاحي لعدة سنوات لاحقة.
وأقام في القاهرة حتى العام 1960م وانتقل بعدها للعمل في وزارة الخارجية الكويتية، ثم عاد للقاهرة مرة أخرى للعمل في السفارة الكويتية قبل أن يستقر لاحقا في وطنه الكويت.
وفي أجواء القاهرة الحياتية الثقافية المتنوعة وجد الأنصاري بغيته، فكان كثير القراءة والكتابة وارتياد الندوات والمـــحاضـــرات العامة، بالإضافـــة الـى كــــتابة المـــقالات والدراسات بغزارة طغت على كتاباته الشعرية، حيث توارت قصائده تحت ظلال شخصيته الثقافية العامة.
وعلى الرغم من أن كثيرا من متابعي ومؤرخي الحركة الأدبية في الكويت لم يتناولوا الأنصاري شاعرا بقدر اهتمامهم به في كتاباتهم كمؤرخ للأدب وناقد له - على اعتبار أن الشعر كان مجرد محطة صغيرة يلجأ إليها بين مهامه الفكرية والأدبية والوظيفية الأخرى - فإن هذا لم يمنعهم من الإشارة إلى تجربة الأنصاري الشعرية وإن على استحياء، وخاصة أن الأنصاري نفسه الذي عني بتسجيل وتوثيق ونشر ديوان صديقه شاعر الكويت الأول فهد العسكر، لم يعنَ بنشر قصائده، وربما لم يسمح لأحد بنشرها في كتاب حتى وقت متأخر من عمره عندما أصدرت د. سهام الفريح في العام 2003م كتابا بعنوان «مرايا الذات» ضمنته دراسة عن حياته وشعره، بالإضافة إلى ديوانه الشعري. وفي العام 2012م أصدرت مؤسسة البابطين للإبداع الشعري «ديوان عبدالله زكريا الأنصاري»، متضمنا بعض القصائد غير المنشورة سابقا والتي وجدتها أسرته بين أوراقه بعد رحيله.
ومن الواضح أن عدم اهتمام النقاد ومؤرخي الأدب في الكويت بتجربة الأنصاري الشعرية لايعود الى تقصير منهم بل إلى أن الشاعر نفسه لم يكن ليهتم بتقديم نفسه إلى الملأ كشاعر، ولعله أيضا لم يقدم على كتابة الشعر إلا متأخرا، كما يشير هو نفسه في بعض أبياته ومنها قوله: «الشعر من زمن ما كنت أنشده / ولا أدريه حيث النثر أغناني». لكنه في النهاية اكتشف كما يبدو أن الشعر لم يغنه فعلا عن إعلان شعريته، فأقبل على القصيدة ينهل من نبعها ويرى صورته بشكلها النهائي في مرآة ذلك النبع الصافي.
والأنصاري الذي عاش سنوات طويلة في حياته خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في القاهرة ظل متمسكا بأوزان الخليل في كل ما أنتجه من قصيد، ولم يغره التجديد الذي طال ديوان الشعر العربي ودارت حوله وعلى هامشه معارك ونقاشات صاخبة في القاهرة وغيرها من عواصـــم الثقافة العربية آنذاك. وفي قراءة سريعة لكل ما ترك وراءه من قصيد نتأكد تماما أن الأنصاري ظل مخلصا لعمود الشعر وأوزانه الخليلية في كل ما كتب، تطبيقا لآرائه التي بثها في مقالات متفرقة عن الشعر الحديث بكل أطيافه ومدارسه. والمثير أن نجد في ديوان الأنصاري بعض السخرية الشعرية المريرة التي قد تصل إلى حد القســــوة من الشعر الحديث وشعرائه.
ومع أننا نركز في هذه المقالة الموجزة على الجانب الشعري لشخصية الأنصاري استجابة لمتطلبات هذا الباب تحديدا، إلا أن هذا لا يعني أن نغفل عن جوانبه الأخرى، والتي برع فيها وعرف من خلالها أكثر مما برع في الشعر وأوسع مما عرف من خلاله. فالأنصاري يعد أحد أهم من كتب في تأريخ الأدب الكويتي، ومازال كتابه الأهم على الإطلاق «فهد العسكر.. حياته وشعره»، يعد المرجع الأول عن شاعر الكويت الأول.
وبالإضافة لهذا الكتاب ترك الأنصاري وراءه إرثا أغنى المكتبة العربية بإسهامات كويتية مشهودة من أهم عناوينها: «مع الكتب والمجلات»، و«الشعر العربي بين الفصحى والعامية»، و«صقر الشبيب وفلسفته في الحياة»، و«الساسة والسياسة والوحدة الضائعة بينهما»، و«روح القلم»، و«البحث عن الإسلام»، وحوار المفكرين»، و«مع الشعراء في جدهم وعبثهم»، و«حوار في مجتمع صغير»، و«أدب المعاناة».. آخر كتبه كان بعنوان «من أدب السياسة»، حيث صدر العام 2005، وتوفي الشاعر في العام 2006 وكان مازال يكتب مقالاته المتنوعة بشكل يومي...ولا ينشرها في عادة كتابية ميزته ودلت على عشقه المطلق للكتابة >
جوهر أنت قد تعا
لى وكم نحوه سعيت
الهوى ويحه الهوى
منه كم رحت واحتسيت
ورمتني سهامه
مذ نهاني وما انتهيت
سحْر عينيك والهوى
بهما طرت واعتليت
وتساميْت وارتفعـ
ـت وحلّقت وارتقيت
ليتني نلت منية
منك للقلب ليتَ ليتْ
***
قد حار في ذا الكون أعلامه
ولم ينالوا منه أسراره
تضاربوا في كنهه تارة
وأبهموا في كنهه تاره
يا ميّ حسبي منك أنشودة
يشدو بها القلب وقيثاره
أبثها الأشجان حيرى كما
بث الشَّجَى داود مزماره
***
قد سئمنا القول من كان وكنا
ومللنا النظم ألفاظا ووزنا
خطب تلقى فلا نسمعها
غير أقوال حوت دانوا ودِنّا
وقصيد زوقت أوزانه
قد خلت أبياته من كل معنى
ليس يجدي زخرف من كلم
لا ولا يدرك شيئا من تمنى
نتمنى والأماني كَذب
يا لها من أمنيات لَيست تُغنى
كم ملأنا كل نفس حسرة
وسكبنا الدمع آلاما وحزنا
وعجبت للإنسان نزعته
نحو البقاء فهي لديه رَشَد
تزرى به الدنيا فيتبعها
أيريد أن يحيا حياة لبَد؟
وعظ الزمان فيا لها عظة
وعظ الزمان بها فلات أحد
أم أن في الإنسان عارفة
أو قاله فيها بغير سند؟
تبا لهذا المرء قالته
أبدا غثاء كلها وزبَد .