الكاتبة الدنماركية كيرستن توروب ودنى غالي.. مشروعي يشتغل على اللاعدالة والفوارق الطبقية.. وحرَّيتي الفنية فوق كل اعتبار

الكاتبة الدنماركية كيرستن توروب ودنى غالي.. مشروعي يشتغل على اللاعدالة والفوارق الطبقية.. وحرَّيتي الفنية فوق كل اعتبار

تحيا‭ ‬كيرستن‭ ‬توروب‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عادية،‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬البساطة‭ ‬في‭ ‬ذوقها،‭ ‬ولا‭ ‬تحتفظ‭ ‬في‭ ‬بيتها‭ ‬إلاّ‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬شخصي‭ ‬واعتيادي‭ ‬وذو‭ ‬قيمة‭ ‬روحية‭. ‬تشغل‭ ‬صور‭ ‬أحفادها‭ ‬الأربعة‭ ‬من‭ ‬ابنتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬الرف‭ ‬الذي‭ ‬يعلو‭ ‬المدفأة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الصالة،‭ ‬بينما‭ ‬رسوماتهم،‭ ‬ولعبهم‭ ‬الخشبية،‭ ‬وأحجارهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬تحتل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬رف‭ ‬النافذة‭ ‬الواسعة‭.  ‬تتمتع‭ ‬توروب‭ ‬بمكانة‭ ‬مميزة‭ ‬بين‭ ‬الكتّاب‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الدنماركي‭: ‬صوت‭ ‬ناقد‭ ‬حاد‭ ‬للمجتمع‭ ‬وللسياسة‭. ‬أتمّت‭ ‬السبعين‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬قبل‭ ‬عامين،‭ ‬ومازالت‭ ‬منتجة،‭ ‬ومشروعها‭ ‬الروائي‭ ‬مستمر‭.  ‬باقترابي‭ ‬من‭ ‬كيرستن‭ ‬توروب‭ ‬الكاتبة‭ ‬والصديقة،‭ ‬أملك‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬المباشرة‭ ‬والدقة‭ ‬والتضامن‭ ‬الإنساني‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬طبيعتها‭. ‬على‭ ‬مدى‭ ‬جلستين،‭ ‬أدرنا‭ ‬حوارا‭ ‬مطولا‭ ‬يلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬عملها‭ ‬الروائي‭ ‬ونشاطها‭ ‬الكتابي‭ ‬والإعلامي،‭ ‬تحدثت‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬رواياتها‭ ‬وطبيعة‭ ‬مواضيعها،‭ ‬وارتباطها‭ ‬بحياتها‭ ‬واهتماماتها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ومواقفها‭ ‬السياسية،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تضامنها‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭.‬

الرواية والمجتمع والحرية

‭< ‬روايتك‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬بيبي‮»‬‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1973‭ ‬وحققت‭ ‬نجاحًا‭ ‬وترجمت‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬عمرك‭ ‬31‭ ‬عاما،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬رواياتك‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬تسع‭ ‬روايات‭.. ‬فهل‭ ‬ترين‭ ‬أن‭ ‬نشاطك‭ ‬الكتابي‭ ‬محدد‭ ‬في‭ ‬الرواية؟‭ ‬يُقال‭ ‬إن‭ ‬الرواية‭ ‬تشترط‭ ‬الخبرة،‭ ‬وهي‭ ‬حصيلة‭ ‬تجربة،‭ ‬وفعل‭ ‬تراكم‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬والوعي،‭ ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬بعد‭ ‬إصدارك‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬هل‭ ‬اختلفت‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬بداياتك‭ ‬عنها‭ ‬الآن؟‭ ‬هل‭ ‬توضح‭ ‬لك‭ ‬مفهوم‭ ‬ما‭ ‬معين‭ ‬للرواية؟‭ ‬

- أجل كتابة الرواية تحتاج إلى خبرة حياتية وعلم بالإنسان والمجتمع المحيط بأعرافه، القوانين والضوابط. بإمكاننا القول إن الأدب يصف الفرد ومعركة وجوده في المجتمع، أي تكيفه وامتثاله لشروطه أو مصاعبه مع أعراف مجتمعه، من ضمنها العائلة. روايتي الأولى «بيبي» كُتبت تحت معايشة مباشرة مررت بها عندما كنت شابة. لقد قدمت من الريف إلى كوبنهاجن للدراسة، ولأسباب اقتصادية أقمت في منطقة فقيرة مثقلة بالمتعبين اجتماعيًا، تغص بالمشكلات الاجتماعية. بمرور الوقت وعندما نضجت تمكنت من التعمق في الحياة كما في فن الكتابة الروائية المستندة إلى خبرة أكبر وبصيرة أكبر في الحياة، فضلًا عن ذلك كنت غالبًا ما أجري بحوثًا شاملة في المناطق أو المجالات التي لا أعرف ما يكفي عنها لكي أكتب الرواية. 

‭< ‬كتبتِ‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والدراما‭ ‬والتلفزيون‭ ‬قبل‭ ‬انصرافك‭ ‬تماما‭ ‬إلى‭ ‬الرواية،‭ ‬هل‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‭ ‬ضرورة‭ ‬لكتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬فأنا‭ ‬أجد‭ ‬الرواية‭ ‬الدنماركية‭ ‬جنسًا‭ ‬نقيًا‭ ‬تمامًا؟

- لقد بدأت بكتابة الشعر، الشعر جاء قبل الرواية. نظم الشعر أمدّني بقاعدة لغوية أقف عليها، وبعلاقة قوية باللغة واحتمالاتها في التعبير اللامتناهية. كذلك المسرح والدراما والمسلسلات التلفزيونية التي كتبتها إلى جانب رواياتي الأولى. كل ذلك قادني إلى الإقرار بأن الرواية هي الجنس الأدبي الأفضل بالنسبة لي لكي أعبر من خلاله. وددت أن أروي قصصا عن أناس زمننا وعلاقاتهم العائلية في مجتمع كان لايزال يتغير، ابتداءً من تمرُّد الشباب في الستينيات ضد السلطوية والمرجعيات، وإلى السنوات اللاحقة. هناك روايات عالمية مميزة جاءت بخليط من الأجناس مثل «يوليسيس» لجيمس جويس، إزاء ذلك أراني بوجه عام أضع حريتي الفنية فوق كل اعتبار.

 

الفروقات‭ ‬الطبقية‭ ‬والتغيير

‭< ‬تتناول‭ ‬رواياتك‭ ‬أحداثًا‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالواقع،‭ ‬وبالتحولات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وما‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬الأشخاص‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬معقدة،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬المتخيل‭ ‬لا‭ ‬يشغل‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭. ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أجد‭ ‬اهتمامك‭ ‬بالقضايا‭ ‬الإنسانية‭ ‬واضحًا‭ ‬جدًا،‭ ‬فهل‭ ‬اختيارك‭ ‬للموضوع‭ ‬والشخصيات‭ ‬التي‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬أجدها‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬التزامك‭ ‬الأخلاقي‭ ‬وإيمانك‭ ‬بدور‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الظلم‭ ‬والتناقض‭ ‬في‭ ‬المجتمع؟‭ ‬دعيني‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬يتضح‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬إله‭ ‬الصدفة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قمت‭ ‬بترجمتها،‭ ‬إذ‭ ‬تشيرين‭ ‬إلى‭ ‬تأثيرات‭ ‬العولمة‭ ‬وظلالها‭ ‬المختلفة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬إطار‭  ‬عالمنا‭ ‬الحديث‭ ‬وظواهره‭ ‬العصرية،‭ ‬وإلى‭ ‬الهوة‭ ‬الكبيرة‭ ‬المتعاظمة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬الغنية‭ ‬والفقيرة؟

- كنت دائما معنية بالفروق الاجتماعية والاقتصادية واللامساواة في المجتمع، والفروق الكبيرة بين الفقير والغني. منطلقي هو الدنمارك في الأربعينيات والخمسينيات حيث نشأت. كانت الفترة ما بعد الحرب والمداخيل ضئيلة جدا. عندما توافرت الفرصة لي، وأنا الوحيدة في عائلتي، كي أكمل دراستي بعد الابتدائية، كان السبب يعود إلى تطور المجتمع في الدنمارك. توسّع نظام التعليم في أواخر الخمسينيات، ومكّن الأطفال الذين لا ينتمون إلى الطبقة الوسطى من إكمال دراستهم الجامعية. المجتمع والدولة كانا بحاجة حينها إلى شعب يمتلك تدريبا ودراسات جامعية أفضل. كانت «صدمة حضارية» بالنسبة لي أن أدخل الثانوية ولاحقا الجامعة. كان عليّ البدء من جديد، في تعلم القوانين والأعراف التي سادت المعاهد التدريسية العليا، حيث الشباب من طبقات اجتماعية أعلى من تلك التي جئت منها. 

كتبت رواياتي المسلسلة: «يوانا الصغيرة»، «الصيف الطويل»، «السماء والجحيم»، «الحدود القصوى» في الأعوام من 1977 إلى 1987، وجميعها تتحدث عن التطور السياسي والتغيرات المجتمعية الكبيرة في الدنمارك الحاصلة بين الخمسينيات والثمانينيات،مستندة فيها إلى تجاربي الخاصة.

في روايتي الأخيرة «إله الصدفة» التي تمت ترجمتها إلى «العربية» أخيرًا، تحرّك تركيزي من الدنمارك إلى منظور أكثر عالمية. فالفوارق بين الأغنياء والفقراء في البلد الواحد وبين بلدان العالم صارت أكبر وأكبر. لقد صورت هذه الهوة الاقتصادية بين غنى الغرب والفقر في إفريقيا عبر لقاء امرأتين، امرأة دنماركية ثرية تعمل في الحقل المالي، وامرأة إفريقية مراهقة فقيرة. اللقاء بين هاتين المرأتين من ثقافتين مختلفتين تماما وبفارق اقتصادي شاسع يتحول إلى مواجهة درامية لكل منهما. 

 

السيرة‭ ‬الذاتية

‭< ‬كيف‭ ‬تفسرين‭ ‬رواج‭ ‬رواية‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للكتّاب‭ ‬والنجاح‭ ‬الذي‭ ‬تلاقيه‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬النرويجي‭ ‬كارل‭ ‬أوفة‭ ‬كناوس‭ ‬غورد‭ (‬معركتي‭) ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬6‭ ‬أجزاء‭ ‬وحققت‭ ‬نجاحًا‭ ‬ساحقًا‭ ‬وإقبالا‭ ‬ولهفة‭ ‬بانتظار‭ ‬صدور‭ ‬الجزء‭ ‬الآخر،‭ ‬وأصغر‭ ‬أجزائها‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عدد‭ ‬صفحاته‭ ‬عن‭ ‬478‭ ‬صفحة‭ ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬1294‭ ‬صفحة‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬السادس؟‭ ‬

- أعتبر رواية السيرة الذاتية خيارًا جماليًا يختاره الكاتب، وهي لا تقل تخييلا عن الأشكال الأدبية الأخرى. تتوجه رواية السيرة الذاتية إلى القارئ، بفعل الاعترافات الحميمة التي تخاطب القارئ: «انظر، أنا مثلك». وما يميز رواية السيرة الذاتية اليوم هو أن غالبية الكتّاب الذين حققوا نجاحًا فيها هم من الذكور الذين لجأوا إلى هذا الشكل الروائي الذي كان مستخدما من قبل المرأة وعلى نطاق واسع في السبعينيات. في تلك الفترة كان التقليل من شأن أدب المرأة سائدا جدا. عدا ذلك فشكل السيرة الذاتية للرواية كان دائما حاضرا عبر تاريخ الأدب، على سبيل المثال مارسيل بروست، لورنس ستيرنه.  

في مجتمع وسائل الإعلام اليوم والسوق، يجري الاهتمام المتزايد بالحياة الخاصة للكتّاب أكبر من كتبهم. يشبع هذا الشكل من الكتابة فضول القارئ والحاجة إلى «قيل وقال القرية»، في ما يخص حياة الكتّاب، زواجهم وطلاقهم، الأطفال، خلفية العائلة، وضعهم الصحي.. إلخ. من هنا تتأتى شعبية السيرة الذاتية. رواية السيرة الذاتية الفعلية المُقرّة، أي (هذا قد حصل فعلا في حياتي) تسهم علاوة على ذلك في خلق إمكانات تسويقية ضخمة مسبّقا قبل نشر الكتاب. أنا لا أتحدث هنا عن الجودة الأدبية لكل رواية داخل نطاق رواية السيرة الذاتية. هناك روايات جيدة، وهناك روايات سيئة ضمن أجناس الأدب بأجمعها. 

‭< ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬عدّ‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬بونساي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترجمت‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬رواية‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية؟

- «بونساي» ليست رواية سيرة ذاتية مثل «معركتي» للكاتب كناوسغورد. الأسلوب الروائي غير متطابق في المثالين. على العكس، فقد اشتغلت على شكل جمالي معقد في رواية «بونساي» التي تقترب من حياتي في تناولها الأساسي: الزواج والعلاقة العميقة «حتى يفرقنا الموت» بين الشخصيتين الرئيستين، الرجل والمرأة . هناك فصول اعتمدت فيها الشكل «السيرذاتي» باستخدام الراوي - أنا على سبيل المثال في فصل انسدال الستار. وهناك فقرات أخرى احتوت على شخصيات خيالية كما في فصل «بونساي». ولكن بغضّ النظر عن الشكل الذي استخدمته من أجل عرض القصة أو الرواية كاملة تظل حياتي هي المنسوجة في داخله. و«بونساي» هي رواية سيرة ذاتية إلى حد بعيد أعيد تشكيلها بسرد خاص لتتوغل عميقًا داخل طبقات الواقع.

 

لا‭ ‬ثيمة‭ ‬نسوية

‭< ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬لديك‭ ‬الروح‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬طرحك‭ ‬الأدبي‭ ‬مقارنة‭ ‬بالفترة‭ ‬التي‭ ‬شرعتِ‭ ‬في‭ ‬الإصدار‭ ‬خلالها،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الحركة‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬أوجها‭. ‬هل‭ ‬يفاجئك‭ ‬هذا‭ ‬الاستنتاج؟‭ ‬حسب‭ ‬ظني‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬طرح‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬بشأن‭ ‬بعض‭ ‬كتاباتك؟‭ ‬

 - لا. لا يفاجئني ذلك إطلاقًا. عندما بدأت بكتابة الشعر والرواية لم يكن تركيزي على هذا. من منطلق خلفيتي ونشأتي، كنت منشغلة باللاعدالة الاجتماعية، الفوارق الطبقية، الناس التي تشذّ خياراتها الحياتية عن أعراف وتقاليد المجتمع، وتتم موضعتها في الدرك الأسفل من التسلسل الهرمي الاجتماعي. كان هؤلاء هم من أتعاطف معهم وأتماهى ووددت أن أكتب عنهم. لقد عرفتهم أثناء طفولتي وشبابي وأردت أن ألقي الضوء على جوانب المجتمع المظلمة من خلالهم.

كنت بالتأكيد متأثرة بالحركة النسوية في السبعينيات، ولكني واجهت صعوبة في التماهي مع قادتها من الطبقة المتوسطة أصحاب التعليم العالي، على الرغم من أني كنت أكنّ احتراما كبيرا لكتاباتهم ومعركتهم الضرورية من أجل تحرير المرأة التي كان لها معنى كبير وإيجابي لأجيال النساء اللاحقة ولتطور المجتمع بوجه عام. لقد عشت في الريف، في ظل رقابة شديدة وصارمة للفتيات من قبل المجتمع في الخمسينيات. كان يمكن أن نفقد سمعتنا لمجرد الخطو قليلًا إلى الخارج بعض الشيء. العلاقة الجنسية خارج الزواج توصِم المرأة بسببها بأنها «رخيصة»، «ساقطة» إذا ما تم اكتشافها. أن تحصل على طفل من دون زواج كان عارًا مشينًا يمكن أن يؤدي إلى رفضها واستبعادها اجتماعيا. كانت النساء خاضعات في المجتمع ولكن ليس من الضرورة في البيت. فأنا على سبيل المثال عشت في عائلة كبيرة، مع خالاتي، عماتي، بنات عمي، وكنّ نساء قويات جدا بإمكانهن أن يضعن حدودًا لتحكُّم رجال العائلة. هؤلاء من قمت بالكتابة عنهن في رواياتي المسلسلة. لقد قمت بالطبع بتوصيف مختلف أشكال قمع المرأة (والقمع الذاتي) في بعض أقدار النساء في رواياتي، كما أذكر أننا مجموعة من النساء حصرا كاتبات ومخرجات عملنا مشروعا نسويا للتلفزيون، تحت عنوان «بنات الحرب»، عرض أواخر السبعينيات، يتناول تاريخ المرأة والنظرة إليها، عودة إلى سنوات الحرب ومن ثم الخمسينيات والتغير الذي حصل في الستينيات. 

نشاطي النسوي الفاعل بدأ بشكل أكبر في الثمانينيات، ودار حول النظرة إلى أدب النساء والرجال، والحكم غير المتكافئ لأدب الجنسين. لقد عدّ ذلك أيضا تمردًا على المواضيع المحرّمة ضمن حياة المرأة وما يسمح للمرأة أن تكتب عنه. كتبت بالشراكة مع شاعرتين أخريين بضعة نصوص نسوية محرّضة قرأناها في مناسبات مختلفة معنية بسياسة المرأة. في الثمانينيات، وبسبب النشاط المتعدد للنساء، جرت كتابة تاريخ المرأة في دول الشمال، التي أبرزت كاتبات مهمات كنّ خارج تاريخ الأدب المكرّس والممجد وبحوث الجامعات. لقد صرت أكثر نسوية بتقدم عمري، ولكني لم أتناول حتى الآن ثيمة نسوية في رواياتي.

 

فروق

‭< ‬هناك‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إنتاجية‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬الكتّاب‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المختلفة‭. ‬لقد‭ ‬وجدت‭ ‬الكاتب‭ ‬الدنماركي‭ ‬منتِجا‭ ‬مقارنة‭ ‬بالكاتب‭ ‬العربي،‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬أم‭ ‬بالهوية‭ ‬الثقافية،‭ ‬أم‭ ‬بالنظرة‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬وأهميتها‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬ومكانة‭ ‬الكتّاب‭ ‬في‭ ‬المجتمع؟

- أن يكون الكاتب الدنماركي أغزر إنتاجًا مرده – ربما - عدم امتلاك الكتّاب عملاً وظيفيًا إلى جانب الكتابة، لذا فهم يستغلون كل وقتهم في الكتابة. إنهم يعيشون من مردودات كتبهم، وهذا ما هو حاصل معي، أو من المنح التي يمنحها صندوق الدولة للفنون والآداب، ومنح أخرى، أو من العمل في الترجمة التي فضلًا عن مكافآتها يمكن الحصول على منحة. لا أدري إن كنت أعدّ من فئة غزيري الإنتاج. أنا أكتب وأعمل ببطء. وتمرُّ أحيانا عدة أعوام تصل إلى 4-6 بين إصدار وإصدار. ولكني عندما كنت غير قادرة مبكرا على العيش من مدخول كتبي وشعري كنت أكتب الدراما بين كل إصدار وآخر.

بعض الكتاب منتجون لأسباب اقتصادية، وبعضهم لأسباب تدور حول الوجاهة والمكانة ومن أجل أن يكون لهم ظهور في الإعلام على الدوام ولا يتم نسيانهم. الكتّاب الأكثر مبيعا والذين يمتلكون شعبية هم بالطبع معروفون بشكل أكبر من قبل جمهور أوسع وأكبر. الكتّاب المقدّرون جدا والذين لا تباع كتبهم بشكل كبير هم غالبا مجهولون، غير معروفين خارج نطاق مجموعات محدودة صغيرة من الأكاديميين والأدباء. 

‭< ‬إن‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬قراءاتك‭ ‬ومطالعاتك‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬فهل‭ ‬اختلفت‭ ‬حاجاتك‭ ‬وميولك‭ ‬عما‭ ‬كانتا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الماضي؟‭ ‬إن‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الإلهام،‭ ‬أين‭ ‬تجدينه،‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬الواقع؟‭ ‬كيف‭ ‬تقيمين‭ ‬متابعاتك‭ ‬الفنية،‭ ‬ذائقتك‭ ‬للأعمال‭ ‬التجريبية‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬والتشكيل‭ ‬والشعر؟

- مازلت أقرأ كثيرا لذات الكتّاب الذين قرأت لهم وأنا شابة. الكلاسيكيون أمثال، بلزاك، ديستويفسكي، كتّاب الدراما الإغريق، والكلاسيكيون الدنماركيون بالطبع. لكن مَراجعي توسعت بمعرفة أكبر للأدب الكلاسيكي الحديث، إضافة إلى الصيني والإفريقي والعربي (الحديث) الذي تمت ترجمته في السنوات الـ30-40 الأخيرة، والذي كان بمنزلة منبع إلهام جديد.

 

معرفة‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأدب

‭< ‬بمناسبة‭ ‬ترجمة‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬إله‭ ‬الصدفة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية‭ ‬التقيت‭ ‬بجمهور‭ ‬إنجليزي،‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬انطباعك؟‭ ‬الآن‭ ‬وقد‭ ‬تمت‭ ‬ترجمة‭ ‬روايتين‭ ‬لك‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬بماذا‭ ‬تفكرين؟‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬عربية‭ ‬نُشرت‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬بشأنها‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬خفايا‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬تناقضات‭ ‬في‭ ‬داخلها‭. ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬المجتمع‭ ‬الدنماركي‭ ‬حقا‭ ‬من‭ ‬خلالها؟‭ ‬هل‭ ‬عكس‭ ‬الأدب‭ ‬المترجم‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬لك‭ ‬للمجتمعات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولاسيما‭ ‬المختلفة‭ ‬ثقافيا؟

- كنت سعيدة جدًا بلقائي بالقراء الإنجليز أو المؤمل أنهم كانوا سيكونون قراءً, لأن الكتاب كان قد صدر حينها للتو عندما حضرت إلى هناك. التقيت أيضا في جامعة كليات لندن طلبة من دارسي اللغات الاسكندنافية. كلا اللقائين كان ممتعًا. أحسست بتعرف القارئ لثيمة الكتاب. معظم الأوربيين هم سياح وثيمة اللقاء بين عالم الغنى والفقر في الرواية يعرفونها جيدا. إن انزعاج السائح الأوربي الغني وخوفه من الفقر وتلك المواجهة الجسدية الحقيقية عبر اللقاء المباشر حيث لا يمكن للسائح أو السائحة نسيان كل ما يدور حول المساواة واللاعدالة في العالم بمجرد غلق التلفزيون كما اعتادوا وهم في بيوتهم، كل ذلك يمكن التعرف عليه والإحساس به عبر الرواية.

أعتقد أني قد غنمت إدراكًا ومعرفة كبيرين عن المجتمعين الإفريقي والصيني عبر قراءة الأدب المترجم من هناك. لا أدري إن كنا نحصل على صورة واضحة للمجتمعات الأخرى عبر قراءة الأدب المترجم، ولكننا نحصل على صورة للناس الذين يعيشون في تلك المجتمعات، علاقاتهم العائلية ومشاعرهم ومعارك وجودهم ومتاعبهم ونكتشف وجود أوجه شبهٍ عديدة أكثر من الفوارق بين الناس داخل ثقافات المجتمعات المختلفة. لذا فأنا أكنّ تقديرا كبيرا لعمل المترجمين الذي يمنح القراء المجال لاكتساب معرفة بالشعوب الأخرى والثقافات الأخرى وأشكال حياتهم.

 

الأدب‭ ‬والسياسة

‭< ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والإبداع؟‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬حساسية‭ ‬تجاه‭ ‬السياسة‭ ‬بين‭ ‬الكتّاب،‭ ‬وأعلم‭ ‬أن‭ ‬التفرغ‭ ‬للإبداع‭ ‬ضرورة،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬الإدلاء‭ ‬برأي‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬نادر‭. ‬هل‭ ‬الأمور‭ ‬تسير‭ ‬بهدوء‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬نتصور‭ ‬عندما‭ ‬تقترن‭ ‬بالسياسة؟‭ ‬

- لستُ سياسية مباشرة في كتبي، أحاول أن أضمّن القص هاجسي هذا بشكل غير مباشر. أعتقد أن مواقف وتوجهات الكتّاب السياسية تنعكس بشكل أقل أو أكثر على أدبهم. اهتمامي السياسي يتضح بشكل أكبر في المقال، التصريحات والخطب التي كنت ألقيها في المظاهرات وغيرها. لا أؤمن بأن الكاتب مجبر على أن يكون ناشطًا سياسيًا ومشاركًا في قضايا مجتمعه. الكتّاب يختلفون في ما بينهم كما باقي شرائح المجتمع. البعض منا أكثر نشاطًا من القسم الآخر، ولكن كمواطنين في مجتمع ديمقراطي من واجب المرء أن يسهم في عملية تطوير المجتمع. هناك كتّاب يكتبون في السياسة ويدلون بآرائهم ويعلنون عنها ولكن هؤلاء قلة، ربما لأن هناك حكمًا مسبقًا بضرورة الفصل بين الفن والسياسة .