صورة الكويت في ذاكرتي عندما كنت مبصراً

صورة الكويت في ذاكرتي  عندما كنت مبصراً

تنشط‭ ‬ذاكرتي‭ ‬البصرية‭ ‬كثيرا‭ ‬وتبتهج‭ ‬مخيلتي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬بالرياض‭ ‬عندما‭ ‬أتابع‭ ‬برامج‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‭ ‬لدولة‭ ‬الكويت‭ ‬الحبيبة،‭ ‬أتذكر‭ ‬السبعة‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬قبل‭ ‬فقدي‭ ‬لحاسة‭ ‬البصر‭ ‬وعودتي‭ ‬إلى‭ ‬مسقط‭ ‬رأسي‭ ‬بلادي‭ ‬الغالية‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬عام‭ ‬1977م،‭ ‬أستمتع‭ ‬عندما‭ ‬أسترجع‭ ‬المواقف‭ ‬والأماكن‭ ‬والمصطلحات‭ ‬الكويتية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬عايشتها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬أنجذب‭ ‬كثيرا‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬البرامج‭ ‬والمسلسلات‭ ‬واللقاءات‭ ‬بين‭ ‬أشخاص‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الجيل،‭ ‬لكونهم‭ ‬يسترجعون‭ ‬في‭ ‬مناقشاتهم‭ ‬مفردات‭ ‬وأحداث‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬تطرب‭ ‬أذناي‭ ‬عندما‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬الأناشيد‭ ‬الوطنية‭ ‬لدولة‭ ‬الكويت‭ ‬الحبيبة‭.‬

نُقش حب الكويت في قلبي مع بدايات الستينيات، كانت تلك الفترة استمرارًا لعصر النهضة الكويتية في شتى المجالات.

كان لتنقل أسرتي في مسكنها بين عدة مناطق أثر في تشكيل شخصيتي، لتنوع العلاقات الاجتماعية والعادات واللهجات التي عاصرتها.

أتذكر من نقرة الطواري لمحات بسيطة، كنت فيها قريبا من الأربع سنوات، كان بيتنا صغيرا يتكون من غرفتين ومطبخ وحمامين، أحدهما للاستحمام، كــــانت الغرف تطل على فناء صغير لكنه كان كبيرا في عيني في ذلك الوقت، يوجد في الحوش سلم يؤدي إلى سطح يعلو الغرف، كان البيت يطل على سكة ضيقة. مرت تلك الفترة كأنها حلم، لا توجد فيها أحداث تذكر. 

وفي «خيطان» تنقلت أسرتي في مسكنها بين عدة شقق، كان ارتفاع معظم العمارات في ذلك الوقت لا يتجاوز ثلاثة طوابق، كانت الشقق صغيرة جدا لكن وجود أحواش للعمارات يجعل المكان واسعا للعب.

كان خروجنا للعب في ذلك الوقت في فترات النهار فقط، لعدم وجود إنارة في الطرقات، كانت البقالات قريبة من معظم العمارات، فلم نكن بحاجة إلى الابتعاد عن منازلنا، وبسبب تنوع الجنسيات تعرفت على ألعاب عربية شعبية مختلفة كان من أكثرها متعة «البيسبول المعدلة».

كان فصل الشتاء الممطر في تلك الفترة ممتعا جدا، كنا نفرح بسقوط المطر، فذلك كان يعني تنافسا بين الصبيان على لبس الأبوات البلاستيكية التي تغطي معظم الساق، كنا نتعمد المشي بها في المستنقعات، حيث لم تكن الطرق قد سُفلتت بعد.

أتذكر عندما اصطحبني والدي - رحمه الله- لحضور تشييع جنازة سمو الشيخ عبدالله السالم رحمه الله عام 1965م.

سجلني والدي في الصف الأول الابتدائي بمدرسة أبرق خيطان، ثم في مدرسة خيطان المتوسطة حديثة البناء.

كنت ورفاقي نمر في طريقنا من وإلى المدرسة المتوسطة على بدايات وضع أساسات إنشاء جمعية خيطان التعاونية، كانت ممرات الجمعية الإسمنتية مكانا ممتعا للعب بالدراجات الهوائية.

عاصرت في تلك الفترة افتتاح سينما غرناطة القريبة من مسكننا، حضرت فيها مع مجموعة من أبناء الجيران عرض أول فيلم عربي. 

كانت طفولتنا مرحة، فعندما بدأ تمديد أنابيب الصرف الصحي مقابل عمارتنا، كنا نستغل اللعب على الأكوام الرملية الناتجة عن عمليات الحفر، كنا نلعب ونلهو بالرمل، من دون أن نفكر بتبعات ذلك علينا، كانت نهايات اللعب عقوبات صارمة من أمهاتنا عندما نعود إلى منازلنا، لأن جيوب بنطلوناتنا وثيابنا وأحذيتنا وجواربنا تمتلئ بالتراب، إضافة إلى شعر رءوسنا وداخل آذاننا وأعيننا.

 

ثقافات‭ ‬مختلفة

كنا نسكن عمارة تقيم بها ثقافات مختلفة من المقيمين، كنا بجوار بيوت كويتية قديمة زادت الصورة الاجتماعية تنوعا، لاحظت من خلالها الفرق بين حياة الشقق وحياة البيوت التراثية. كان تصميم البيوت القديمة من الداخل والخارج يمتاز بالبساطة، فقد كانت أبوابها الرئيسية تطل على السكك مباشرة، ولم يكن للبيوت أسوار خارجية، كان تصميم واجهات البيوت يعتمد على براعة زخارف الأبواب، وما يحيط بالنوافذ الخشبية من شبك حديدي بتصاميم مختلفة.

عاصرت في خيطان بناء المرافق الحكومية والطرق المسفلتة والمضاءة. 

 كانت المدارس في المرحلة الابتدائية جاذبة ممتعة، حيث كانت وزارة التربية تحرص على رعاية جميع الطلاب من دون تفرقة بين المواطنين والمقيمين من خلال: الكشف الصحي السنوي المستمر، والتطعيم السنوي للوقاية من الأمراض التي كانت تنتشر في العالم في ذلك الوقت، تقــــديم وجبتــــين مدرسيتين (إفطار، وغداء)، كانت الوجبات صحية ومغذية. كما تقدم لكل تلميذ كسوة سنوية صيفية وشتوية، كما كانت توزع الكتب والدفاتر. أتذكر صورة أمير الكويت الشيخ صباح السالم - رحمه الله- مطبوعة على أغلفة الدفاتر، وهو ما أوصل حب أبناء الكويت لحاكمهم العادل.

عايشت منذ الصغر التسامح الديني عندما كان يسمح للتلاميذ النصارى البقاء أو الخروج من الفصل في حصص التربية الإسلامية، لم يؤثر ذلك في علاقاتنا بهم.

استمتعت أثناء الدراسة بالرحلات المدرسية للمتاحف والحدائق. 

 

دولة‭ ‬قيادية

كانت الكويت منذ ذلك الوقت من الدول القيادية ذات الثقل السياسي، فقد كان يزورها كثير من القادة والزعماء، وكان أكثر ما يفرحنا بزيارتهم أننا كنا نخرج من المدارس للترحيب بهم على جانبي الطريق القادم من المطار والمار بمحاذاة منطقة خيطان.

كنا في تلك الفترة نتشوق لعيدي الفطر والأضحى، لأننا كنا ننتظر ساحة المراجيح والألعاب بفارق من الصبر.

أتذكر زحام ومتعة سوق «بوخمسين فلس» وسوق المقاصيص وسوق واجف وسوق الجمعة.

اختلطت لهجتي في خيطان بلهجات الجيران من الدول العربية المختلفة، وبلهجات الكويتيين خارج العمارة. 

لم نكن في خيطان نحرص على متابعة التلفـــزيون، لأننا كنا نلعب كثيرا في حوش العمارة، كان إرسال التلفزيون الكويتي بالأبيض والأسود وكانت فترات العرض قصــيرة، تبدأ قبيل المغرب وتنتهي في وقت مبكر من الليل، وكانت العروض الكرتونية قليلة وباللغة الإنجليزية، وتعاد يوميا ونتابعها من دون أن نفهم أحداثها.

وفي بدايات السبعينيات انتقلت أسرتي إلى بيت صغير في قطعة 7 بمنطقة الفيحاء، كانت نقلة جديدة في حياتي، تعرفت فيها على المجتمع الكويتي عن قرب، كان الجيران كلهم من الأسر الكويتية المعروفة، كان معظم أبنائهم يدرسون معي في «متوسطة الفيحاء». 

كانت المدرسة على بعد مئات الأمتار من منزلنا، وسور المدرسة عبارة عن شبك من الحديد يستطيع المارون مشاهدة الطلبة وهم يلعبون، وأفنية المدرسة واسعة وشرحة.

كان الطابور الصباحي في غاية المتعة لكونه مليئا بالفقرات الإذاعية، وما يزيد الطابور قوة وفاعلية انتهاؤه برفع علم الكويت على السارية مع عزف السلام الأميري، أصَّل ذلك الإجراء تعميق الوطنية في قلوب جميع الطلبة بمن فيهم المقيمون. 

ومما أذكره بكثير من الإعجاب أننا كنا ندرس إلى جانب المناهج العادية مواد مهنية (نجارة، وكهرباء، وهندسة) ظلت تلك المهارات باقية معي حتى هذه الأيام.

كانت المدرسة تفتح أبوابها للطلبة بعض أيام الأسبوع بعد صلاة العصر لتنفيذ بعض الأنشطة الرياضية، وذلك تحت إشراف بعض المعلمين.

كنا في المدرسة نعرف التوجه العام للموضة من خلال قصات الشعر وملابس بعض المعلمين الكويتيين الأنيقين.

كنت أتابع يومـــــيا حـــــافلات الأندية الرياضية وهي تقل ناشئي المنطقة للتدرّب في ملاعبها. 

تضاربت مشاعر الفرحة والحزن لدي عندما فاز منتخب الكويت على منتخب المملكة العربية السعودية في دورة الخليج الثالثة والتي أقيمت على أرض الكويت. 

تعرفت في الفيحاء على الألعاب الكويتية الشعبية (المقصي، العنبر، الدوامة، الدامة، التيل، كوت بو أربعة).

ومع بدايات مراهقتي أحببت الفن الكويتي الأصيل، كما كنت أحب فن الصوت الكويتي ولاأزال. 

اشتهرت في تلك الفترة برامج تلفزيونية، منها: نافذة عـــلى العالم، من حياة الشعوب، عالم الحيوان، ما يطلبه المشاهدون، سين جيم. 

كانت المسلسلات والأفلام التلفزيونية الأجنبية تعرض حلقاتها بشكل أسبوعي. 

تعد الساعة الرابعة عصرا وقتا مقدسا ننتظره أنا وإخوتي، فكان وقت شرب الشاي وتغميس (البقصم). بدأت في تلك الفترة متابعة بعض البرامج الإذاعية وخصوصا: أخبار جهينة، ونافذة على التاريخ، أما «حبابة» فقد كان له جوه الخاص أيام رمضان، كنا ننتظره بفارغ من الصبر بعد الإفطار مباشرة. 

 

ليلة‭ ‬القرقيعان

تعرفت في مجتمع الفيحاء على المناسبات السنوية مثل (ليلة القريش)، شاركت مع أبناء الجيران في «القرقيعان» في ليالي رمضان، كنا نتنقل بين بيوت المنطقة ونسير لمسافات طويلة دون ملل أو خوف، كانت البنات يقرقعن حولنا من دون أن يتعرض لهن أحد، كان الجميع يتمتع بالمسئولية وبالغيرة عليهن.

كانت الكويت تنعم بفعاليات جميلة أيام الأعياد، فقد كانت تقام فيها مهرجانات السيرك العربية والعالمية.

كان الناس في ذلك الوقت يستفيدون من شبكة النقل العام (المواصلات)، استقليت المواصلات للذهاب بها مع أحد أخوالي لحضور أفلام سينما الحمراء والأندلس، أما أكثرها متعة بالنسبة لي فكانت في سينما حولي الصيفي ذات السقف المفتوح، كانت الأجواء فيها مختلفة عن بقية صالات العرض، فقد كان العرض يبدأ بعد أن يحل الظلام بعد المغرب، كنا في فترة انتظار ما قبل العرض نستمع إلى أغاني أم كلثوم، وعبدالحليم ونجاة الصغيرة وغيرهم من فطاحل الغناء المصري، كان موزع المشروبات الغازية الباردة يتنقل بين المقاعد يسوق لما عنده في الصندوق بصوت عال قبل بداية العرض، وكانت أجمل لحظة هي عندما يقوم ذلك البائع بفتح القارورة بطريقة جميلة يصدر عنها صوت فرقعة.

كنا نستمتع بماء الصليبي، كنا نغسل به حوش البيت ونمرح.

أتذكر عندما كان والدي - رحمه الله - يأخذنا للتنزه في البر في منطقة الفنطاس والفحيحيل والمنقف، كانت مناطق مفتوحة بها بعض الأشجار.

عاصرت في تلك الفترة برنامج الترويح السياحي الصيفي، كانت تقام فيه الحفلات الغنائية الشعبية في الحدائق العامة.

كان لأقربائنا من أهل الكويت، أثر كبير في إحساس أسرتي بالانتماء إلى الأسرة الممتدة، شاركناهم حضور الفعاليات المختلفة ومنها: الذهاب إلى البر أيام الربيع الجميلة، السفر إلى لبنان، حضور مسيرات يوم الاستقلال التي كانت تقام سنويا، وما ينبغي أن أؤكد عليه أن تلك الفعالية الوطنية كانت تعمق الفخر بالكويت للمواطن والمقيم على حد سواء.

أما في منطقة السرة فقد كانت قليلة المنازل عندما انتقلت لها أسرتي، كانت معظم الطرق غير معبدة إلا من طريق يتوسطها محاذيا لقصر الشيخ عبدالله الجابر.

أتذكر الوجه الصبوح لجارنا الملاصق لمنزلنا الشاعر الأديب الكويتي محمد الفايز رحمه الله، كنت أفرح عندما أراه وهو يلقي قصائده بأسلوبه المميز في التلفزيون. 

 

مسرحية‭ ‬في‭ ‬الكويت

ومن «السرة» كان أول حضور لي لمسرحية (على جناح التبريزي وتابعه قفة) للمخرج الكويتي الراحل صقر رشود في عام 1975م.

كانت متوسطة الروضة أقرب مدرسة لمنطقة السرة، كنت مع أول أيام انتقال أسرتي إلى السرة أضطر إلى الذهاب للمدرسة مشيا على الأقدام، كنت أضطر إلى عبور الطريق العام الذي يفصل منطقة الروضة عن السرة، إلى أن تم تأمين حافلة مدرسية.

كانت قدرتي البصرية لا تزال جيدة مع استخدامي لنظارة طبية، كنت ألعب الكرة مع أبناء الجيران في الأراضــــي غيــــر المبنية، أتجول مع (الربع) داخل «السرة» وخارجها كل عصرية.

بعد إنهائي المرحلة المتوسطة في منطقة الروضة، انتقلت لإكمال الدراسة في ثانوية العديلية.

كانت وزارة التربية منذ تلك الفترة تحرص على تطوير العملية التعليمية، ولا أدل على ذلك من اعتمادها لبرامج تلفزيونية تربوية موجهة لطلبة المدارس، فكان يوجد في كل فصل تلفزيون يتم فيه عرض البرامج لكل مادة وفق جدول مواعيد محددة.

أحسست في تلك الفترة بصعوبة استمراري في الدراسة، بسبب صعوبة القدرة على القراءة ومتــابعة السبورة والتجارب المختبرية رغم أنني كنت أرتدي نظارة طبية, لكن لم يكن لها مفعول.

أتذكر عندما تم تحويلي إلى أخصائي عيون، فشخص المشكلة التي اتضح منها أنني مقبل على ضعف حاد.

 توقفت عن الدراسة عاما كاملا، كنت محبطا حزين النفس، وبعد أن اطمأنت نفسي واستقر بي الحال عدت إلى مقعد الدراسة بثانوية العديلية، وتم تصنيفي ضمن طلاب التعليم الخاص، لم تكن خدمات التعليم الخاص في ذلك الوقت كافية.

كان نظام الدمج في التعليم العام يلغي عن الكفيف مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

لم أكن في تلك الفترة قادرا على قراءة الكتب بأي طريقة سوى طريقة الاستماع، لم تكن هناك كتب مدرسية مسجلة على أشرطة تعينني على متابعة الدروس، هنا أتذكر تعاون أحد طلاب الفصل عندما طمأنني بأنه سيقوم بتسجيل الكتب بصوته، كم كان ولا يزال أبناء الكويت رائعين محبين للخير مهما كلفهم ذلك من جهد.

أتذكر تناقص عدد الأصدقاء بسبب عدم قدرتي على مسايرتهم نتيجة الضعف الحاد للنظر، ازداد بقائي في البيت لمدد أطول مما كنت أعتاد عليها.

أما منطقة الروضة فقد كانت آخر مطاف لنا في الكويت، أحست الوالدة يحفظها الله أن مستقبل أبنائها سيكون أفضل بالعودة إلى المملكة العربية السعودية، لاحظت والدتي تدهور حالتي النفسية، تدخلت وبشكل قوي لإقناع والدي بضرورة العودة إلى المملكة العربية السعودية، وتم لها ذلك. 

وختاما: شكرا يا كويت الحب .