من البلاغة البائدة إلى البلاغة الثائرة.. تأملات في جماليات الثورة المصرية

من البلاغة البائدة إلى البلاغة الثائرة.. تأملات في جماليات الثورة المصرية
        

          الثورات سيول التغيير، وحين ينهمر السيل فإنه لا يجرف أمامه شخوص العهد البائد وسياساته فحسب، بل بلاغاته أيضًا. وبينما تشق الثورة لنفسها مجرى جديدًا، تتشكل بلاغة جديدة؛ فالثورات تلد بلاغاتها.

          كانت الثورة على البلاغة البائدة ثورةً على بلاغة تضليلية مستبدة مراوغة، لصالح تأسيس بلاغة صادقة تحررية مباشرة. لكن الصراع لم يكن من السهل حسمه، فقد كان فضاء المجتمع المصري مسرحًا للصراع بين خطابات عديدة كل منها يسعى لترسيخ بلاغته والدفاع عنها. كانت الثورة المصرية عامرة بالخطابات التي تنوعت بتنوع الفاعلين السياسيين المشاركين في أحداث الثورة؛ تأييدًا أو مقاومة أو تعليقًا، وتعقدت بتعقد الوظائف بالغة التنوع والتضارب التي سعى كل منتج للخطاب إلى تحقيقها بواسطة خطابه. ونظرة سريعة على ساحة الثورة المصرية تظهر أن هذه الساحة كانت مسكونة بخطاب الثوار أنفسهم؛ الذي تجلى عبر آلاف الهتافات والشعارات واللافتات والأيقونات والأغاني والخطب والكلمات التي أنتجها الثوار في ميادين مصر الفسيحة، وفي رحابة الفيس بوك وفضاءات التواصل الاجتماعي الإلكتروني. هذا الخطاب كان يواجه خطاب النظام السابق المناهض للثورة، الذي تجلى في خطب المسئولين السياسيين المصريين وتصريحاتهم وبياناتهم وحواراتهم مثل الرئيس السابق حسني مبارك ونائبه ورئيس الوزراء..إلخ. في المنتصف بينهما نستطيع أن نلمح خطابًا ثالثًا هو خطاب الجيش المصري؛ الذي تجلى خاصة في بياناته التاريخية وفي بعض الأيقونات البصرية والحوارات النادرة مع بعض وسائل الإعلام. وعلى أطراف ساحة الثورة المصرية ومنافذها أُنتج خطاب خارجي تراوح هو الآخر بين تأييد الثورة ومقاومتها، تجلى بوضوح في بيانات وتصريحات وحوارات الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوربي ودول مثل تركيا وإيران والشخصيات البارزة المستقلة وبعض الدول العربية.

          هذه الخطابات تم ترويجها وتوزيعها عبر كم هائل من وسائط الاتصال، لم يتسن لأية ثورة أخرى. فربما للمرة الأولى في تاريخ البشرية يكون للقنوات التلفزيونية الرسمية والخاصة، والإذاعات المحلية والدولية، والمواقع الإلكترونية الشخصية والعامة، والصحف الورقية المطبوعة والإلكترونية، هذا الدور الكبير في تحديد مسار ثورة ما. لقد كانت الثورة المصرية ثورة وسائط اتصال إلى حد كبير. وقد أوجد هذا سببًا إضافيا لتعقد أشكال الصراع بين البلاغة البائدة والبلاغة الوليدة، كما أتاح لخطاباتها السياسية فرص التداخل مع خطابات أخرى دينية واقتصادية واجتماعية وعلمية. وأتاح لها تجليات فنية بالغة الثراء؛ تمثلت على نحو جلي في أغاني الثورة وأشعارها ولوحاتها ومسرحياتها وقصصها ومذكراتها..إلخ.

          استهدفت البلاغة الوليدة تثوير الخطاب بموازاة عملية تثوير المجتمع. وقد حققت ذلك عبر عمليات تفنيد ونقد مكثفة لخطاب السلطة القائمة.  وتضمنت هذه العمليات كشف تناقضات خطاب السلطة وتحيزاته، والسخرية من مغالطاته، وتعرية عمليات التلاعب والتضليل التي يقوم بها، وإبراز المصالح الحقيقية التي يسعى لتحقيقها، وإزالة أقنعة التمويه التي تخفي هذه المصالح وتجمِّلها. وفي المقابل قامت البلاغة الوليدة ببلورة خطاب ثورة، يتضمن مجموعة القيم والمبادئ التي يؤمن بها، والأفكار والآراء التي يتبناها ويدافع عنها، والمصالح والأغراض التي يستهدف تحقيقها، وشبكة التحالفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يحاول أن يؤسسها، وصورة الماضي الذي يثور عليه، وملامح المستقبل الذي يبشر به.

          ولأن البلاغة تمارس تأثيرها في الآن واللحظة، فإنها سياقية بامتياز. والبلاغة الوليدة يسهل عليها عادةً التكيف مع السياقات الجديدة، وتطويع أدواتها وإستراتيجياتها بما يخدم تحقيق الغايات التي تحلم بإنجازها. فالبلاغات الوليدة خاصة الثورية منها - تتسم في بدايات تكوينها بالمرونة الشديدة التي تقترب إلى حد السيولة، وهو ما يرجع، أولا، إلى أنها لا تكون مشدودة إلى ذخيرة خطابية بعينها تمارس تأثيرًا عليها. ثانيًا، أنه عادة ما يتعدد ويتنوع المشاركون في تأسيس مثل هذه البلاغة وتتفاوت تفضيلاتهم الخطابية، بما يعني أن أفق التنوع والتباين يكون مفتوحًا على مصراعيه. وأخيرا، فإن حالة الثورة تعني في جوهرها سلسلة متواصلة من التحولات العنيفة يتجاوز مداها مفردات الواقع إلى مفردات البلاغة.

          ربما يفسر هذا التحولات الجذرية التي طرأت على خطاب الثورة المصرية وبلاغتها، فقد بدا خطابًا أقرب إلى الإصلاح الاجتماعي، ينادي بالعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والكفاية الاقتصادية، ويستخدم بلاغة شبه تقريرية تقدم الحاجات دون التطرق للوسائل، كما يتجلى على نحو رائع في الهتاف الأبرز للأيام الأولى من الثورة «كرامة، حرية، عدالة اجتماعية»، الذي ساد الفترة من الخامس والعشرين حتى السابع والعشرين من يناير. لكن البلاغة التقريرية تحولت إلى بلاغة إنشائية تتضمن أوامر ونواهي قاطعة، حين تحول الخطاب من خطاب يرضى بالإصلاح إلى خطاب ثوري لا يرضى بغير التغيير الجذري إثر معارك الجمعة الدامية في 28 يناير، وربما كان فعل «ارحل» هو أيقونة تلك المرحلة، وهو فعل ينطوي على خطاب مباشر للحاكم، ويجعل غايته الجديدة «الرحيل»، وسيلته لتحقيق غاياته الأولى المتضمنة في هتاف «كرامة، حرية، عدالة اجتماعية». ثم كانت معركة الجمل، وما تلاها من تحول شرائح ضخمة من المصريين من معسكر المحايدين إلى معسكر المتعاطفين والمشاركين في الثورة، وبدا أن الثورة سوف تؤتي أكلها قريبًا، فأصبح الخطاب أكثر تنوعًا وأقل صرامة، فهيمنت بلاغة السخرية والمفارقة والتنكيت، وأثرت البلاغة بالتنويعات الجمالية للمطالب الأساسية. وفي الأيام الأخيرة كان الخطاب قد تحول إلى ساحة للاحتفال بالنصر الوشيك، مما استدعى هيمنة بلاغة احتفالية على ساحة الميدان.

          ربما لا يكون من المبالغ فيه القول بأن الثورات السلمية  تنجز عملها غالبًا من خلال تجليات بلاغية مثل الأيقونات والرموز واللافتات والهتافات والتسميات. هذه التجليات ستكون موضوع بحث تفصيلي فيما يأتي:

1 - أيقونات الثورة:

          حين تتجسد ملامح الثورة في كلمات وصور:

          لقد كانت الثورة المصرية عامرة بأيقوناتها، التي يمكن تصنيفها بحسب نوع العلامات التي تشكلها إلى أيقونات لغوية: مثل هتافات «ارحل»، و«الشعب يريد إسقاط النظام»، و«الجيش والشعب إيد واحدة»، وشعار «كرامة- حرية- عدالة اجتماعية». وأيقونات مرئية: يأتي على رأسها علم مصر بألوانه الأحمر والأبيض والأسود والنسر المحلق في قلبه. وصور ميدان التحرير وهو يفيض بالمتظاهرين، وصورة السواعد المتعاضدة فوق علم مصر، وصورة الشاب الذي يقف أمام سيارة مدرعة مزودة بخرطوم مياه (وهي صورة مشابهة للصورة التاريخية للشاب الصيني الذي وقف في مواجهة رتل دبابات في ميدان السلام السماوي بالصين). ومن أبرز أيقونات الثورة، أيضًا، التحية العسكرية التي أداها أحد أفراد المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحية لأرواح شهداء الثورة. وكذلك عبارة التنحي التي ألقاها نائب الرئيس السابق عُمر سليمان مساء الحادي عشر من فبراير 2011.

          وفيما يأتي سوف أتوقف بالتفصيل أمام أيقونتين بصريتين فقط؛ الأولى هي ميدان التحرير والثانية هي العَلَم المصري.

أولًا: ميدان التحرير بوصفه فضاءً بلاغيًا:

          يمكن تعريف الفضاء البلاغي بأنه حيِّز يقوم بوظائف مهمة في إنجاز عمليتي الإقناع والتأثير. من المألوف التعامل مع المكان بوصفه فضاءً بلاغيًّا في بعض الأنواع الفنية مثل المسرح وصالات عرض الفنون التشكيلية. وغالبًا ما تكون هذه الأماكن «صناعية»؛ أي مجهزة خصيصًا للنشاط الفني الذي يحدث فيها. لكن بعض الأماكن الطبيعية قد تتحول إلى فضاء بلاغي في بعض الحالات حين تصبح وعاءً لأنشطة تواصلية ذات طابع نفعي أو جمالي، وهو ما حدث تمامًا في ميدان التحرير.

          من بين أيقونات عديدة تختزن داخلها ملامح الثورة المصرية فإن صور ميدان التحرير الملتقطة من أعلى، مظهرة الميدان وهو يفيض بالثوار، هي إحدى أكثر الصور المتداولة دلالة على الثورة. في مثل هذه الصور يتحول الميدان إلى فضاء جمالي بأعلامه المرفرفة، ومساحته الشاسعة التي تحيط بها واجهات المباني القديمة. وبالإضافة إلى الدلالة الأيقونية حملت هذه الصور دلالات رمزية، فأثناء أحداث الثورة كان قد امتلأ فضاء الميدان بالبشر، يعني اشتداد عود الثورة واتساع نطاقها. وفي الآن نفسه فإن هذه الصور كانت تنجز وظائف مادية ملموسة مثل التهديد، ففيضان التحرير ببشره يمكن أن يكون مؤشرًا على أن الفضاء الذي أصبح لا يتسع لهم سوف يطردهم باتجاه فضاءات أخرى، وهو ما حدث عندما تحركت أرتال من الثوار نحو الشوارع المحيطة بالتحرير في الأيام الأخيرة وصولا إلى قصر القبة عشية إعلان بيان التنحي. وبالطبع فإن هذه الدلالة التي تولدها صور الميدان كانت مهمة في حسم الصراع، ولعل الصور التي كانت تلتقطها الطائرات المحلقة في السماء في معظم أيام الثورة دالة على الوظائف المادية التي يمكن أن تُنجزها صور الميدان.

ثانيًا: علم مصر: إعادة صياغة رموز الهوية:

          تعيد الثورة صياغة الترابطات الشعورية مع الرموز الوطنية. ولعل الارتباطات الشعورية والنفسية للمصريين مع «العَلَم المصري» أثناء الثورة خير مثال على ذلك. عادة ما اقترنت الاستخدامات التداولية للعلم المصري بسياقين رئيسيين، الأول سياق رسمي؛ كما هو الحال في تحية العلم في ختام طوابير الصباح المدرسية، أو وضعه أعلى بعض المباني الحكومية، وعلى يمين الواقفين في المؤتمرات الصحفية الرسمية. لكن في السنوات الأخيرة ظهر سياق آخر أقل رسمية لاستخدام الأعلام، يرتبط بالأحداث الرياضية، خاصة مباريات كرة القدم على المستوى الوطني. في مثل هذه السياقات كان العَلَم يعزز مشاعر مؤقتة بالانتماء الوطني. تقوم هذه المشاعر بإذكاء هوية وطنية مشوَّهة؛ لأنها لا تتأسس على وعي بالخصائص العامة المشكِّلة للهوية قدر ارتباطها بتعصب كروي، كما أن هذه المشاعر تخلق حالة صراع مع هويات أخرى على أساس قطري ضيق، فيتحول مجال ممارسة الهوية من براح التعايش إلى ضيق التناحر.

          على الخلاف من ذلك كان للعَلَم المصري أثناء الثورة استخدامات مغايرة، اكتسب بواسطتها دلالات رمزية وارتباطات شعورية جديدة. لقد أُعيد إنتاج العَلَم بأشكال بالغة التنوع أثناء الثورة. وبالإضافة إلى الأعلام القماشية التقليدية تحول العَلَم إلى ألوان على الوجوه، وأربطة في معاصم الثوار، وأردية يلبسونها، ودبابيس يعلقونها في ملابسهم. هذا الإنتاج المتعدد للعلم المصري اقترن بتحول العلاقة بين المصريين وعَلَمهم من علاقة رسمية أو شخصية مؤقتة إلى علاقة حميمية ممتدة. كما اكتسب بالإضافة إلى دلالته الرسمية المحايدة دلالات رمزية وأيقونية عديدة: فقد أصبح المصري الممسك بالعَلَم أيقونة للمصري الثائر، وأصبحت الصور التي تختزن دلالات الثورة المصرية تضم عادة تنويعة كبيرة من البشر ممن يحملون الأعلام أو يشكلونها بأجسادهم كما في صورة الشاب الذي يرسم العلم على وجهه.

          إضافة إلى دلالاته الأيقونية والرمزية كان للعلم المصري وظائف جمالية؛ لونية وحركية. فألوان العَلَم المصري (الأحمر والأبيض والأسود) تتسم بدرجة من التناسق اللوني، كما أنها تتضمن اللون الأبيض الذي يضفي هدوءًا وسكينة بمعية اللون الأحمر المهيِّج. وبالمثل فإن التلويح بالأعلام سواء أكان بشكل جماعي أم فردي، غدا عملا محببًا للغاية للمتظاهرين خاصة من الأطفال. وهو في الآن نفسه فعل جمالي راقص، يتضمن إيقاعًا هادئًا وحركة رتيبة من اليمين إلى اليسار، أشبه ما تكون بحركة الذاكرين المنشدين في طقوس بعض جماعات المتصوفة. وهو إيقاع غالبًا ما يتعزز بمصاحبة أكثر تجليات الثورة موسيقية؛ أعني هتافاتها.

2 - هتافات الثورة المصرية:

          زئير الجماهير الغفيرة:

          «علِّي وعلِّي وعلِّي الصوت.. اللي هايهتف مش هايموت»

          الهتافات من أبرز تجليات خطاب الثورة وأهمها؛ إذ تقوم بوظائف بالغة الأهمية مثل صياغة مطالب الثورة في شكل بلاغي موجز، وترديدها بشكل جماعي يصبح علامة على حصولها على قبول عام. كما تخلق الهتافات هوية جماعية بين أفراد الثوار المتباينين في هوياتهم الفردية، وذلك من خلال توحدهم حول هتافات مطلبية أو مبدئية واحدة. كما تقوم الهتافات بوظيفة نفسية هي التفريغ الإيجابي لشحنات الغضب ورفض النظام القائم من خلال الانخراط في الهتاف المتواصل ضده؛ إذ عادة ما يقوم الهتاف بتقليل مخاطر مشاعر القلق والتوتر التي قد تصاحب أفعال الاحتجاج.

          كان الهتاف الأبرز لثورة 25 يناير هو فعل الأمر «ارحل»، الموجه للنظام السياسي ممثلاً في شخص الرئيس السابق. وهو مطلب اشتركت هتافات أخرى عديدة في التعبير عنه ربما كان أكثرها تكرارًا هو هتاف «مش هنمشي .. هو يمشي» الذي يحمل نبرة تحدٍ صارمة. كما سعت بعض الهتافات كذلك إلى وصف حالة تماسك الثوار ووحدتهم في مقابل محاولات التفريق التي بُذلت بضراوة لتفتيتهم، وكان المحتجون يهتفون بين الحين والآخر عبارات مثل «الشعب والجيش إيد واحدة» و «مسلم .. مسيحي .. إيد واحدة»..إلخ.

          لكل ثورة صليلها، وصليل الثورات السلمية هتافاتها. وبقدر ما تعلو أصوات الثوار لتصل عنان السماء، بقدر ما تهتز أركان الأنظمة التي يثورون عليها. وهكذا فإن لطريقة أداء الهتافات دلالات لا تقل عن معناها. فكلما كان الهتاف حاشدًا وحماسيًّا أصبح أكثر قدرة على نقل رسالته، وأداء وظائفه. وإذا كانت هتافات الثورة هي صوتها المزلزل فإن لافتاتها هي لوحاتها المتحدية.

3 - لافتات الثورة المصرية:

          حين تتحول أحلام شعب إلى نقوش على القماش والورق:

          التجلي الثالث لخطاب الثورة يتمثل في لافتات الثورة التي تنوعت في أحجامها ووظائفها. فبعض اللافتات كان في صغر شريط اللاصق الطبي الذي يلصقه المتظاهرون بجباههم، بينما كانت بعض اللافتات في حجم عمارة كاملة كتب عليها الثوار مطالبهم السبعة التي توافقوا عليها. وقد كتبت اللافتات على الأقمشة والورق المقوى وأوراق الفلوسكاب وغيرها من المواد.

          استهدفت اللافتات تحقيق وظائف منها الاستجابة الآنية للخطابات الخارجية المضادة للثورة وتفنيدها والسخرية منها؛ مثل اللافتات التي تسخر من الإشاعات التي روجها التلفزيون المصري عن وجبات الكنتاكي والعملاء الأجانب، مثل: «أنا زهقت من الكنتاكي ..ارحمني وارحل». كذلك ساهمت اللافتات في تفنيد الأساطير التي تم ترويجها عن المتظاهرين، والتمييز بين شباب الثوار وعصبة البلطجة. كما فندت بعض اللافتات كثيرا من الأساطير التي تخص نظام الحكم والقوى السياسية الفاعلة فيه مثل اللافتة التي تقول: «أنا ذقني طويلة.. أنا مش إخوان». واللافتات التي تحث على الثبات والصبر مثل: «إنما النصر صبر ساعة»، «شدوا حيلكم يا شباب»، «صامدون حتى الرحيل»، «أموت أعيش ما يهمنيش»، «احذروا..إن أنصاف الثورات تصنع أكفان الشعوب». كما كانت بعض اللافتات تعبيرًا دقيقًا عن آمال وطموحات الثورة، كما في اللافتة التي احتلت مبنى كاملًا والتي ربما كانت أكبر اللافتات حجمًا أثناء الثورة.

          كانت اللافتات من أكثر تجليات خطاب الثورة شيوعًا في فضاء التواصل العام، فالمتابعات الإخبارية والتقارير المصورة تضعها في صدر الشاشة. أما في فضاء التواصل الإلكتروني فقد استدعت هذه اللافتات الكثير من الاهتمام العام، الذي تجلى في اتساع نطاق تداولها، وفي انتشارها في معظم المواقع المعنية بالثورة. وربما يرجع ذلك إلى سهولة تداولها نسبيًّا؛ لكونها لا تشغل مساحة كبيرة من ذاكرة الأجهزة، وإلى سهولة تلقيها؛ لكونها لا تحتاج إلى زمن طويل للإحاطة بمضمونها ودلالاتها.

          وتتمتع اللافتات بثراء علاماتي راجع إلى كونها تتضمن عددًا من العلامات اللفظية وغير اللفظية، فهي عادة ما توظف اللغة واللون والأشكال والصور الفوتوغرافية والرسوم الكاريكاتورية. كذلك تقوم بعض اللافتات بعمل تشكيلات جمالية لفضاء اللافتة، بما يحقق تأثيرات جمالية ووظائف نفعية في الآن نفسه. على سبيل المثال، اتخذت بعض اللافتات شكل الصندوق أو المثلث الذي يتيح رؤيتها من جوانب مختلفة في حال تزايد الازدحام في المكان، بما يحول دون التفاف البعض كي يتمكنوا من رؤيتها. وبقدر ما كانت لافتات الثورة إبداعًا لغويًّا تشكيليًّا، كانت أغاني الثورة إبداعًا لغويًّا موسيقيًّا.

4 - تسميات الثورة المصرية:

          من وصف الأحداث إلى خلقها: «ماذا في الاسم؟» هكذا صرخ شكسبير متسائلا في مسرحية روميو وجولييت. والإجابة أن الأسماء تعني الكثير. فالتسمية ليست مجرد تعريف بالأشياء بل خلق لها. كان الإنسان في العصور البدائية يظن في الاسم قوةً سحرية، فقد كان يؤمن بأن تسمية الشيء تعني الاعتراف بوجوده واستحضاره. وكان يعتقد في أن الاسم له قوة في ذاته، فحين تنطق بأسماء قوى خيرة يغمرك خيرها، وحين تنطق بأسماء قوى شريرة سوف يمسّك أذاها. وقد كان الصراع بين البلاغة البائدة والبلاغة الجديدة في الثورة المصرية يتجلى أوضح ما يكون في عملية التسمية. فما بين الفتنة والثورة، والمؤامرة والإصلاح، والفوضى والاحتجاج، والعمالة والوطنية تكمن المسافة بين تسميات البلاغة البائدة وتسميات البلاغة الثورية. وقد أبدعت الثورة في تسمية أحداثها وأيامها. وفي القلب من هذه التسميات توجد أسماء الجمع المتوالية.

          اكتسب يوم الجمعة مكانة رمزية في الثورات العربية الأخيرة. فالجمعة - الذي يُعد عُطلة رسمية في معظم الدول العربية- هو يوم حشد المتظاهرين، وقد ابتكر المصريون تسمية كل جمعة باسم يعكس طبيعة المظاهرات أو غايتها، فالجمعة الأولى حملت اسمًا بالغ الدلالة هو «جمعة الغضب»، وقد كانت كذلك. أما الجمعة الثانية فقد حملت اسم «جمعة الرحيل»، وحين لم تُنجز الجمعة وعدها بالرحيل، وأن النظام يواصل التشبث بالسلطة كانت «جمعة الصمود والتحدي» طرفًا في معادلة صراع الإرادات. وحين وصل زخم الثورة إلى حده الأقصى، وفاض الميدان بثواره كانت «جمعة الزحف». ولم تكد تغيب شمسها حتى كانت بالفعل «جمعة رحيل».

          شكلت الجمع المتعاقبة ذروة الاحتجاجات الشعبية التي يُنتظر لها أن تُحدث تحولًا في مسار الثورة. أما أيام الآحاد والثلاثاء فقد كانت أيضًا أيام تجمعات ضخمة للمحتجين اختير لها اسم «المليونيات». وهي تسمية كانت في البداية تُنجز فعلا كلاميًّا هو الدعوة للتجمع والحشد، ثم أصبحت لاحقًا تصف واقعًا فعليًّا بعد تزايد الحشود، ومن ثمَّ تنجز فعلا كلاميًّا آخر هو تهديد النظام القائم، كما أنها كانت من ناحية أخرى تقوم بوظيفة إستراتيجية حجاجية؛ لكونها تسد الفجوة بين الأعداد الفعلية للمحتجين والمليونيات المعلن عنها، فتجسر الفجوة إن وجدت - بين المعلَن عنه والمتحقق.

          بالإضافة إلى «المليونيات» و«الجمع»، أطلق الثوار تسميات على بعض الأيام مثل «الأربعاء الدامي» الذي شهد ما يعرف بـ «معركة الجمل» و«أحد الشهداء» الذي أحيا فيه الثوار ذكرى شهداء الثورة خاصة من سقطوا في الأربعاء الدامي. وكذلك أطلقوا اسم «أسبوع الصمود»، و«أسبوع التحدي»، على الأسبوع الذي تلا جمعة الرحيل، في إشارة إلى مواصلة الثورة واستمرارها.

          أصبحت الأحداث الاجتماعية التي وقعت في مصر في الفترة من 25 يناير إلى 17 فبراير تسمى بـ «ثورة 25 يناير»، غير أن هذه التسمية لم تكن وحدها التسمية الشائعة أثناء الثورة وحتى فيما بعدها، فقد استخدمت تسميات أخرى للأحداث وإن كانت أقل شيوعًا مثل «ثورة الشباب»، «ثورة اللوتس» (نسبة إلى زهرة اللوتس المشهورة في الحضارة الفرعونية، محاكاة لثورة الياسمين التونسية)، «ثورة الغضب»، «انتفاضة الشباب». وقد كانت هذه التسميات بالغة الفاعلية لأنها قامت من ناحية بشحن النفوس لبدء الثورة أو مواصلتها، كما قامت من ناحية أخرى بتوصيف الثورة بصفات إيجابية براقة.

          ومثلما شهد العالم العربي في الشهور الماضية مولد ثورات لا تهادن ولا تنافق، شهد مولد بلاغة جديدة لا تنافق ولا تراوغ، تسمي الأشياء بأسمائها، وتصف كل شخص بما يستحق، وتحطم إرث آلاف السنين من الصمت والمراوغة. قد تبدو هذه البلاغة قاسية خشنة، لكن الثورة كالإعصار تقتلع كل ما هو مزيف وكاذب. لقد سيطرت في العقود الأخيرة خطابات التلاعب والتضليل والكذب، ففقدت المفردات دلالاتها، وغابت المصداقية عن اللغة. وربما يكون ربيع الثورات العربية بوابة العبور ليس إلى حياة جديدة فحسب بل إلى بلاغة جديدة أيضًا، تستعيد اللغة فيها صدقها ومصداقيتها.
--------------------------------
* أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة - مصر.

 

 

عماد عبد اللطيف*