أسامة أنور عكاشة.. سيناريست بدرجة مناضل
حين يقترب شهر مايو من لفظ أنفاسه الأخيرة، تجدد الدراما العربية حدادها على واحد من فرسانها المفقودين. عن أسامـــــة أنـــــــور عــــكاشة أتحدث. كثيرة هي الأعمال التليفزيونية الـــــتي سريعا ما تدخل المتاحف يطويها النسيان وقـــــــد يستخدمون أشرطتها لتسجيل الجديد. أعمال تشبه المناديل الورقية تصلح للاستخدام مرة واحدة، لا تبحث عن خلود ولم تكتب له؛ فلا خلفية فكرية ولا عمق إنساني. على مؤرخي الدراما أن يقسموا التأريخ لها بما قبل أسامة أنور عكاشة وما بعده. وحده «الفقد» تعانيه الدراما بعده، وهو ما يعد مناسبا للإشارة إلى سنوات تكوينه. صدفة درامية مبررة؛ إذ شكل فقده لأمه دعامة كبيرة لحياته، فانكفأ على ذاته واتجه للوحدة التي كان الكتاب فيها خير جليس له. أحب شرنقته، وأدخل إليها كتب زمانه، متوحدا مع «الأيام»، على سبيل المثال؛ إذ رأى في عزلة العميد معادلا لعزلة اليتيم.
تجاور في تكوين عكاشة الكتاب مع المسموع، فكانت حكايات «بابا شارو» في الإذاعة، وتجاور تقليد حكاياته مع محاولات لكتابة الشعر - الرومانسي بالطبع - يدين بالكثير-كما يقول في مقال «التكوين» (نشره بمجلة الهلال) لمدرسين احتضنوا موهبته، وشجعوا محاولاته، وأشعلوا خياله، أيام كان هناك تعليم مصري محترم، وأيام كان هناك وطن.
هاجر الفلاح الحصيف إلى القاهرة ليدرس علم الاجتماع في «آداب عين شمس» خلال فترة لم تبخل على فنه بالتطوير، وتجربته بالإثراء، وكان يرى – على الهواء مباشرة - صدور عيون الأدب العربي فتصله بحرارة المطبعة مؤلفات يوسف إدريس ، ونجيب محفوظ والحكيم وزميله صلاح جاهين، فضلا عن الترجمات المتلاحقة في سلسلة «الألف كتاب». كتاب كل ست ساعات، كما يقولون.
رحل أسامة أنور عكاشة، وكثيرا ما لا يرى الإنسان نتاج غرسه. ترى ذلك في المفكر
عبدالوهاب المسيري، والنبيل مجدي مهنا، ولعل أسامة أنور عكاشة واحد ممن لم يشهدوا الثورة المصرية بعينهم، وإن كانت أفكاره جزءا من لحمة الثورة وسداها. «العيش» الذي يحاول أبطال أعماله انتزاعه من الفاسدين... و«الحرية» التي لا تكتمل إلا في عيني السذج والعبيد، و«الكرامة» الإنسانية التي تبدو خطا رئيسا في أعماله.
ما بعد الاستهلاك
انهالت في فترة الثمانينيات مسلسلات أمريكية، ربما كانت تريد ترسيخ سياسة الاستهلاك، وتدعم الانفتاح، أو تطرح نموذج الحياة الذي كان يريده النظام، وما تلاه. نذكر أجزاء كاملة من «فالكون كريست»، «نوتس
لاندنج»، و«......» وكانت تركز على الصورة المراد جلبها من أمريكا، ولم تكن كذلك «ليالي الحلمية» التي تؤرخ لمصر الحديثة. بالطبع، باعتبارات فنية، وتبعا لوجهة نظر صاحب الليالي، والذي أثرت فيه دراسة علم الاجتماع وكتابة الأعمال القصصية، وصولا إلى مقالاته الأخيرة في صحيفة «الدستور» في فترة طغيان مبارك الأخيرة. تطغى عليه نظرة ترى التاريخ وحدة متماسكة «ليالي الحلمية».... يضع بذورا لبعض الشخصيات يراعيها ويستنبتها على مر الليالي والحلقات والأجزاء؛ حتى تثمر وجهة نظره في أمور بعينها، أضرب مثلا بشخصيتي «بسة والخُمس»؛ فقد بدتا هامشيتين في الأجزاء الأولى، ولكن خلفية تجارتهما مع الاحتلال، وتعاونهما معه والمتاجرة بالمخدرات والعملة أثناء الانفتاح جعلهما مصبا صالحا لكونهما من تجار «شركات توظيف الأموال» فيما بعد. والثوري الناصري «ناجي» خليفة المناضل ضد الإنجليز في حروب القنال، نتقبل جهاده الجديد، ضد فسدة الانفتاح وشراة القضاء. خلفية تنمو على مر الحلقات تجعل الوصول بهما لهذا المستوى متسقا مع ما مضى.
الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية أساسي عنده تجده في «ليالي الحلمية، الشهد والدموع، أرابيسك، زيزينيا، المصراوية، ضمير أبلة حكمت، الحب وأشياء أخرى» وقراءة التاريخ المصري بوصفه نموذجا لهذا الظن، حتى في أعمال ربما لا تتسق مع هذا التوجه؛ ففي مسلسل «الحب وأشياء أخرى» تتحدى الفتاة الغنية تقاليد عائلتها الأرستقراطية وتتم زواجها من الفنان الفقير، ثم تكتشف أن الصراع الحقيقي بين اشتراكية تورث نبلا ورأسمالية تجعل القلب قاسيا. ولا يحمل عكاشة على الرأسمالية في حد ذاتها؛ حيث يرسم صورة الباشا محبا للفن مدافعا عن الفدائيين، إنه يحمل بصورة أكبر على المتأرجحين بين بين، الواقفين على الأعراف، انتظارا للغنيمة، ولا يتحيزون. والتاريخ لا يكتبه إلا المتحيزون. يحمل على من «يحجل» - حسب تعبيره – ويقصد بها مشية الغراب، وذلك في مسلسل «امرأة من زمن الحب»، فينتهي به الحال لمرحلة مشوهة بين مشية الطاووس التي لم يدركها، ومشية الغراب التي فقدها، وينتصر دوما لأولاد البلد - ملح الأرض - مثل زينهم السماحي وغيره .
بعد فترة من العزف على النغمة السابقة، طغت العولمة والانفتاح الثقافي المريع، وأصبحت الهوية على المحك، فبدا - في أعماله الأخيرة - سؤال الهوية أساس أعماله، وكأنه يرى أن الاستعمار قد عاد «من الشباك» يترك الرأسمالية بتغولها المنتشر المسيطر، والاشتراكية بانهزامها النبيل على مستوى التطبيق. رأى أن الهوية أولى. إن التائه لا يستطيع أن يختار، فيجب أن نعلم أين نقف، ومن نحن، وغيرها من أسئلة بديهية لم نحسم إجاباتها، برغم اجترارنا لها منذ أن تساءل د. طه حسين عن «مستقبل الثقافة في مصر».
البطل هو الورق
فنيا، يؤمن أن البطل هو الورق، وبرغم ذلك يتابع العمل أثناء تصويره، ويهتم بدقائق التفاصيل؛ كأغنية المقدمة والنهاية، والموسيقى التصويرية. لقد تغيرت آليات العمل فأصبح «دراما تلفزيونية» فيجب أن تراعي متطلبات المجال وخصوصيته اجتلابا للمتلقين. كما يبدو حرصه على روح الفريق؛ فتجده متعاملا مع عدد محدود من المخرجين.
يركز على المثقف المستنير الذي يحمل هموم وطنه ويقاتل – أحيانا - في نزعة دونكشيوتية، مثل أبوالعلا البشري الذي يتوهم أنه يمكنه - بمفرده - أن يصلح ما فسد على مر السنين الطوال، دون أن يعي أن الهم كبير يحتاج لتآزر مؤسسي عميق، حتى على مستوى إعادة أسرة واحدة إلى مسارها الصحيح؛ إذ الصراع الآن والفساد متعدد المناحي، ومن لم يصبه داء المال فقد أفسده تنازل عن طموح فني رائق، وتبدو عنده تيمة الحب التي لا بد أن تكون موجودة في كل عمل، ولعله كان يعي أن الحب وقصصه تضمن اجتذاب المتفرج على مر الحلقات، كما تحضر الصهيونية عدوا أساسيا في «الشهد والدموع»، و«أرابيسك»، ودفعه تشككه فيهم للجزم بكونهم ضالعين في الشركات متعددة الجنسيات التي ألقت بثقلها على المنطقة بأسرها، ومصر بخاصة خلال تسعينيات القرن الماضي ملتفتا للشَرك منذ بداية خيوطه.
فتنة ناصر
ناصري وإن أنكر. فتنته شخصية ناصر، حتى يوازي بين وفاة عبدالناصر ورحيل «زينهم السماحي» الذي يعد مركز الثقل في الأجزاء الأولى من الليالي، وبسهولة قد نلمح تراجع تأثير الناصرية مع تواتر الأعمال، وربما لمراجعة الذات؛ فالناصرية عند المعتدلين حلم رائق، وإن تحقق بصورة مشوهة، وإن أحدنا لا يكره أحلامه وإن تحققت بصورة مشوهة. وعموما فالسياسة في كل أعماله حاضرة، وكأنه وجد فيها - بتعبير نابليون -إحساسا بالقدر ليس أقل تسلطا من ذلك الإحساس الذي ألهم كتاب المآسي الإغريقية. ولكن بتلميح فني كما في الإيماء لدور أبناء الرئيس المخلوع في العبث باقتصاد البلاد، الفساد المنتشر في «أنا وانت وبابا في المشمش».
كان نجاحه في السينما صعبا في فترة الثمانينيات، بمواضعاتها الفنية والاجتماعية؛ حيث كان النجاح في أغلبه يأتي لأسباب ليست فنية؛ الخلطة السحرية، أو قل الشريرة التي تحوي جنسا مجانيا، وفكرة مبتذلة، ورقصا مثيرا، ولحما لا يظهر لخدمة الدراما، أفلام المقاولات التي لا تقيم عمارة فنية، وإنما هي مقاولات أنقاض للهدم. وفي مثل هذا الجو لا يمكن لأعماله أن تتوافق مع غيرها، فتبدو نشازا وسط العبث المنتشر، وبرغم ذلك ففي فيلم «كتيبة الإعدام» استطاع تحقيق بعض النجاحات.
يحمل على الانفتاح، فلا يحب السماسرة على حساب الشهداء؛ المستفيدين بغير وجه حق على حساب المضحين لإعلاء الحق. شجن رائق، وعميق، شاعر بامتياز، الصراع على الفيلا في «الراية البيضا»، وقد بناها الأوربيون في القرن التاسع عشر يبدو صراعا على انتقال النهضة من محافظة المثقفين إلى ابتذال أغنياء الانفتاح. إنه لا يريد للفيلا/النهضة أن تلقى مصير المرسيدس فتكون مثل «التمساحة».
له جذور أصيلة؛ فيلتقي مع تيمات كثيرة من عالم «نجيب محفوظ»؛ كالاهتمام بالحارة والمومس الفاضلة، والعوالم، وإن كان نجيب محفوظ لم يدخل عالم القرية كما فعل عكاشة في «عصفور النار» أو «المصراوية»، وبرغم تكرار تيمات كثيرة فلا تشعر أنه ينزل ماء النهر مرتين؛ إذ توجد في نصوصه حلول تقنية لحكي تيمة واحدة بأكثر من طريقة.
أصابته لعنة جائزة الدولة التقديرية فحصل عليها عام 2008 وتوفي عام 2010. يرحل «أسامة أنور عكاشة» تاركا خلفه درامات تلفزيونية وأعمالا سينمائية ونصوصا مسرحية وغيرها من مؤلفات، لكن إنجازه الحقيقي- في نظري - كان وضع مثال للتأليف التلفزوني المنظم، والشخصيات المخطط لتطورها، والمفاجآت المبررة دراميا، والتطورات المقبولة منطقيا، والتلاحم بين أجزاء العمل. نموذج للتأليف يخجل منه من أراد إعادة الماء إلى النهر .